الهزيمة الثانية في إسطنبول... مأزق يهدد إردوغان وحزبه

«صفعة عثمانية» طالب أنصاره بتوجيهها للمعارضة وارتدّت إليه

الهزيمة الثانية في إسطنبول... مأزق يهدد إردوغان وحزبه
TT

الهزيمة الثانية في إسطنبول... مأزق يهدد إردوغان وحزبه

الهزيمة الثانية في إسطنبول... مأزق يهدد إردوغان وحزبه

وضعت الحرب على رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى أوزارها... وكتب الناخبون لها نهاية مثيرة، على الرغم من أنها كانت متوقعة، كما أوحى بها سياق وترتيب الأحداث منذ الجولة الأولى للانتخابات المحلية التركية التي أجريت في 31 مارس (آذار) الماضي. يومذاك، انتهت «المعركة» بفوز بفارق ضئيل لصالح مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو يقترب من 14 ألف صوت. إلا أن هذه النتيجة لم تعجب الرئيس رجب طيب إردوغان وقادة حزبه الحاكم (العدالة والتنمية)، فترجموا اعتراضهم إلى ضغوط وحملة تشكيك أفضت، في النهاية، إلى انتزاع قرار من اللجنة العليا للانتخابات بإعادة الاقتراع على منصب رئيس البلدية فقط.
وكأن إردوغان وحزبه أرادوا خسارة بفارق يؤكد لهم أن الشعب التركي ما زال ينبض بالحياة، وأنه كما رفعهم من قبل عندما ارتدوا ثوب المظلوم، كان قادراً على أن يقول لهم «توقّفوا» عندما ارتأى أنهم يستخفون بإرادته.
يعود الفوز الساحق الذي حققه أكرم إمام أوغلو، مرشح حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض، في جولة الإعادة على رئاسة بلدية إسطنبول، يوم الأحد الماضي، إلى جملة من الأسباب. بيد أن السبب الأهم هو أن الناخبين الأتراك أرادوا أن يعبّروا عن رفضهم السطو على إرادتهم والاستهانة بها، من خلال قرار للجنة العليا للانتخابات لم يروا فيه إلا استعلاءً على إرادتهم وسلباً لها... فكان ردهم بتوسيع الفارق إلى نحو 800 ألف صوت بين إمام أوغلو ومرشح حزب العدالة والتنمية رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم. وإذا بـ«الصفعة العثمانية»، التي طالب إردوغان أنصار حزبه بتوجيهها إلى المعارضة في انتخابات الأحد الماضي ترتد إليه قوية مزلزلة بنتيجة لم تحدث في تاريخ الانتخابات المحلية بإسطنبول منذ إعلان الجمهورية التركية عام 1923.
فاز إمام أوغلو بنتيجة كاسحة، محققاً نسبة 54.2 في المائة مقابل 44.9 في المائة لمنافسه... وهي نتيجة قيل إنها تطوي صفحة انتخابات إسطنبول – كبرى مدن تركيا – التي تحوّلت إلى «ماراثون» شاق استمر لأكثر من 6 أشهر. لكن الحقيقة أنها فتحت صفحة جديدة في تاريخ السياسة التركية، كما عبّرت عن ذلك المعارضة وجموع المراقبين خارج تركيا.

فوز نادر
لم تخرج رئاسة بلدية إسطنبول منذ عودة الديمقراطية إلى تركيا في عهد الرئيس الراحل تورغوت أوزال في تسعينات القرن الماضي عن سيطرة أحزاب الإسلام السياسي. إذ تناوبت هذه الأحزاب على حكمها منذ عام 1994، عندما تولى الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان هذا المنصب مترشحاً عن حزب الرفاه الإسلامي، بزعامة نجم الدين أربكان، الذي جرى حله لاحقاً.
وبعد ظهور حزب العدالة والتنمية على الساحة السياسية احتفظ هذا الحزب ببلدية إسطنبول إلى أن فقدها لصالح المعارضة يوم الأحد الماضي. والواضح أن هذا الأمر حصل بعدما وصل الناخبون إلى قناعة بأن البلاد، وليس إسطنبول فحسب في حاجة إلى «دم جديد». وأن إمام أوغلو نجح في التقاط هذه الرغبة وتقديم نفسه على أنه الأمل الذي يبحث عنه الناس للخروج من سلسلة الأزمات التي هزت تركيا في السنوات الأخيرة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، على الرغم من كونه مرشحاً لمنصب رئيس بلدية... وليس منصب رئيس الجمهورية.
قابل شعار «كل شيء سيكون جميلاً جداً»، الذي أطلقه إمام أوغلو في جولة الإعادة شغف الشارع إلى التغيير. كذلك ساعده استخدامه لغة تصالحية تقوم على احتضان الجميع وتستبعد لغة الاستقطاب والقومية والاستعلاء... التي باتت لغة النخبة الحاكمة في العدالة والتنمية، يتقدمهم رئيس الحزب رئيس الجمهورية رجب طيب إردوغان. وحقاً، وصفت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية فوز أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول للمرة الثانية بأنه «توبيخ مذهل» لإردوغان، مضيفة أن «إرغام إردوغان اللجنة العليا للانتخابات على إلغاء نتيجة الانتخابات التي أجريت مارس الماضي اتُخذ بشكل صادم وأثار غضب سكان المدينة». وتابعت، أن الخسارة الثانية فاقمت الضرر السياسي الذي لحق بإردوغان، وأن إخفاق الرئيس في الفوز بالمدينة يعبّر عن الوضع الذي وصل إليه حكمه الذي استعاض عن التكنوقراطيين وشركائه السياسيين بأفراد عائلته والمتملقين.

إخلاص للديمقراطية
من ناحية ثانية، عد عدد كبير من المراقبين نتيجة انتخاب الإعادة على رئاسة بلدية إسطنبول دليلاً على الإخلاص العميق الذي يكنّه الشعب التركي للديمقراطية. لكنهم رأوا أنها لا يمكن اعتبارها حتى الآن انتصاراً كاملاً للمعارضة، على الرغم من أنها قد تكون «بداية انهيار» حزب إردوغان.
من هذا المنطلق، لا يمكن اعتبار السبب الحقيقي لنتائج انتخابات الإعادة هو مشاعر أهالي إسطنبول تجاه إمام أوغلو، الذي نجح في الوصول إلى كل ركن في المدينة ليذكرهم بإردوغان في بداياته السياسية الأولى انطلاقاً من إسطنبول، بل قرار اللجنة العليا للانتخابات بإعادة الاقتراع... الذي أثار سخط كثرة من سكان المدينة غاضبين للغاية ودفع بعضهم إلى تغيير اتجاه تصويتهم.
هذا، ورغم وجود الكثير من أوجه القصور في تجربة تركيا الديمقراطية، مثل: غياب استقلال القضاء، وضعف المجتمع المدني، وتدجين وسائل الإعلام لتكون صوتاً في أغلبها للحزب الحاكم، وتنامي الانتهازية في جوانبها بسبب بحث غالبية العاملين فيها عن المصلحة الذاتية وتحاشي الصدام مع السلطة، يظلّ إيمان الأتراك بفكرة صندوق الاقتراع وأخذه على محمل الجد دائماً هو الوجه الناصع لهذه التجربة. ولذا؛ يمكن اعتبار نتيجة انتخابات الإعادة في إسطنبول، بشكل أساسي، عقوبة على محاولة تجاوز صندوق الاقتراع.
حتى داخل حزب العدالة والتنمية، كانت هذه الفكرة حاضرة بقوة من جانب قيادات الحزب التاريخية البارزة ومؤسسيه، مثل الرئيس السابق عبد الله غل، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، اللذين شجبا قرار اللجنة العليا للانتخابات، في خطوة أظهرت بذور الشقاق بين الرفاق في حزب العدالة والتنمية. ومعلوم أنه في الأنظمة الديمقراطية الراسخة، يجري الترحيب بمثل هذا النقد الذاتي بين الأعضاء في الحزب الواحد وينظر إليه على أنه أمر طبيعي وحيوي، لكن في نظام تركيا الذي يحكمه حزب العدالة والتنمية يعد هذا النقد أشبه بالانقلاب أو التمرّد، على رئيس الحزب الذي حرص طوال مسيرته منذ عام 2001 وحتى الآن على إظهاره بمظهر الحزب المتماسك.
وهذه المشكلة ليست قاصرة على حزب العدالة والتنمية، فحسب، بل هي أيضاً مشكلة كل أحزاب تركيا، حيث لا يمكن التسامح مع نقد الأوضاع في الحزب أو تجاوز سلطة الرئيس، وهنا يكون الحل الطبيعي الخروج وتشكيل حزب جديد أو الانضمام إلى حزب منافس.

تشرذم حزب إردوغان
لعل من الأسباب التي لم ينتبه إليها كثيرون، والتي قد تحمل إجابة عن السؤال المُلحّ حول الزيادة الكبيرة في فارق الأصوات بين أكرم إمام أوغلو وبن علي يلدريم غير غضب الناخبين من محاولات سرقة إرادتهم، ذلك التشرذم في حزب العدالة والتنمية الحاكم نفسه. فهذا الحزب يفتقد رموز الوحدة منذ جولة الانتخابات المحلية الأولى في 31 مارس الماضي، حين خسر الحزب الحاكم وشريكه في «تحالف الشعب»، حزب «الحركة القومية»، الانتخابات في 4 من أكبر مدن البلاد بينها إسطنبول وأنقرة.
وبعدها، انخرطت الأوساط السياسية والإعلامية داخل تركيا وخارجها في تحليل الجدل الدائر بين إردوغان وغل وداود أوغلو، ولا سيما، سعي الأخيرين إلى تأسيس حزبين سياسيين جديدين سيكونان منافسين بالطبع لحزبهما الأصلي. وتردد أن عبد الله غل سيشكل حزبه بالتعاون مع علي باباجان، نائب رئيس الوزراء السابق، الذي نُسب إليه ما تحقق من نجاحات اقتصادية في المراحل الأولى لحزب العدالة والتنمية.
عند هذه النقطة استشعر إردوغان خطر بوادر الانقسامات الخطيرة التي بدأت تظهر بالفعل على الحزب الحاكم. وتجسّد ذلك في خطابه الاسترضائي بعد الانتخابات المحلية. إلا أن قرار إلغاء انتخابات بلدية إسطنبول نسف كل الفرص، وقد يكون الثمن الفادح الذي سيدفعه إردوغان قريباً – كما يرى بعض المحللين – هو تفكك حزبه إلى 3 أحزاب. إذ باتت المقولة الأكثر رواجاً في تركيا الآن، وخارجها أيضاً، أن إسطنبول التي دفعت بإردوغان إلى القمة هي التي ستنزله منها.

تماسك المعارضة
في المقابل، من أهم الأسباب لما تحقق في إسطنبول هو تماسك المعارضة وحفاظها على بنية «تحالف الأمة» بين حزبي الشعب الجمهوري و«الجيد»، ونجاح التحالف في جذب الأحزاب الأخرى وفي مقدمتها حزب الشعوب الديمقراطي (مؤيد للأكراد). فالملاحظ أن معظم الأكراد الذين يعيشون في إسطنبول اختاروا التصويت لصالح المعارضة، ليس لأن المعارضة كانت تعنى بهم، بل لأنهم فقدوا كل آمالهم في حزب العدالة والتنمية.
وللعلم، حاول إردوغان خلال الأيام التي سبقت انتخابات بلدية إسطنبول تشتيت أصوات الأكراد، وكسب تأييد قسم منهم. وعمل على الاستعانة بطريقة غير مباشرة بالزعيم الكردي عبد الله أوجلان - المعتقل في سجن إيمرالي مدى الحياة، منذ عام 1999، ونقل رسالة على لسانه من قبل أكاديمي كردي زاره في سجنه، وطلب من أنصاره التزام الحياد في الانتخابات. وتحدث إردوغان شخصياً، وكذلك وسائل إعلام رسمية عن رسالة مزعومة وجهها الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني، أوجلان، من سجنه داعياً فيها أنصار حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد، إلى الحياد.
لكن الحزب ندّد بـ«مناورة تقوم بها السلطات وتهدف إلى تقسيم الناخبين». ودعا، كما فعل في مارس الماضي، إلى التصويت لإمام أوغلو، واستجاب الناخبون الأكراد لدعوة الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي - السجين أيضاً - بالتصويت لمرشح المعارضة.
وبالتالي، أكد الأكراد في إسطنبول أنهم الرقم الصعب في الانتخابات التركية، وأنهم لا ينخدعون بمناورات السياسيين، كما ضربوا مثلاً ديمقراطياً مهماً على قدرتهم على الاختيار، من دون السماح باللعب على وتر ما يوصف بأنه تقديس لأقوال وآراء أوجلان.
وحقاً، من النتائج المهمة التي تمخّضت عنها الانتخابات في إسطنبول هي أن المعارضة التركية برهنت على قدرتها على القفز فوق انقساماتها وحشد قواها في الوقت المناسب من أجل تحقيق أهدافها. واستطاعت من خلال حشد أنصارها وتنظيم لاحتفالات جماهيرية واسعة في شوارع إسطنبول إظهار الإمكانات الكبيرة التي تتمتع بها. وأنها كما كسبت إسطنبول فإنها يمكن أن تكسب تركيا كلها... وهذا ما عبّرت عنه رئيسة حزب «الجيّد» ميرال أكشنار عندما قالت عقب الانتخابات في إسطنبول إن نتيجة انتخابات إسطنبول «تشكل صفحة جديدة في تركيا وإنه لا شيء سيعود إلى ما كان عليه من قبل».

البحث عن مخرج في خضم المشاكل
> رويداً رويداً تقترب تركيا من مشاكل ضخمة قد تتسبب في اضطرابات اقتصادية وسياسية واسعة. فهناك الكثير من المشاكل العاجلة كالعقوبات الأميركية المحتملة بسبب شراء الصواريخ الروسية «إس - 400»، والصراع على الموارد الطبيعية لشرق البحر المتوسط، وملف سوريا، والاضطراب الإقليمي على مستوى الشرق الأوسط، والعلاقة المتوترة مع الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي لتركيا الذي يتأثر بشدة بهذه القضايا.
صحيح أنه بعث إردوغان برسالة تصالحية عقب الهزيمة الثانية في إسطنبول عبر «تويتر» قال فيها، بعد تهنئته لإمام أوغلو: «سنواصل معالجة جميع قضايا تركيا الداخلية والخارجية بعناية». وبدا واضحاً أن إردوغان يسعى عقب الهزيمة القاسية في إسطنبول، إلى تحويل الأنظار إلى قضايا السياسة الخارجية من خلال الحديث عن رحلة حاسمة سيقوم بها إلى آسيا قريباً، تشمل زيارة الصين بعد «قمة مجموعة العشرين» في اليابان، تعقبها جولة أوروبية.
ولكن السؤال الذي يشغل الساحة السياسية في تركيا حالياً هو ما إذا كان إردوغان سيواصل أسلوبه القديم في التعامل مع المشاكل من خلال إجراء تغييرات شكلية في حزبه وحكومته... أم سيحاول أن يوضح للأتراك أنه تلقى الدروس واستوعبها؟
والأهم من ذلك، هل سيكون قادراً على تحديد مهمة جديدة لحزبه... أم سيفقد السيطرة وينهار الحزب؟
يجمع المراقبون على أن رفض إردوغان الاعتراف بالهزيمة في انتخابات إسطنبول الأولى بنهاية مارس يقوّض حكم القانون في وقت يعاني الاقتصاد التركي كثيراً. لقد بدا أن إردوغان لا يأبه كثيراً لما يقال في هذا الموضوع قائلاً: «كما كنا في الماضي، سنظل نعمل نحو تحقيق أهدافنا لعام 2023 من دون تقديم تنازلات بالنسبة للديمقراطية، وحكم القانون، وسلام واستقرار بلادنا تمشياً مع مبادئ تحالف الشعب». وفي هذا إشارة واضحة إلى استمرار التحالف مع حزب «الحركة القومية».
وهو التحالف الذي يحتاج إليه للاحتفاظ بالسلطة حتى الاحتفال عام 2023 بمرور 100 سنة على تأسيس الجمهورية التركية، وهو التحالف نفسه الذي تسبب في خسائر للعدالة والتنمية منها تراجع شعبيته وخسارته للمدن الكبرى.
وبحسب أنتوني سكينر، مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسسة «فيريسك مابلكروفت» لتحليل المخاطر، سيتابع إردوغان عن كثب الشعور السائد في صفوف حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب «الحركة القومية»، لكن مساحة المناورة أقل لديه الآن مقارنة بالسنوات الماضية. وأضاف سكينر: «لقد تحول إمام أوغلو إلى قائد وطني ملهم، وسيواجه إردوغان مهمة صعبة لتحييده من دون تحويله إلى شهيد والتسبب عن غير قصد في زيادة شعبيته».

سيناريوهات محتملة بعد نتيجة إسطنبول
> يتداول المحللون الأتراك، ومنهم دنيز زيرك، السيناريوهات المحتملة في تركيا بعد خسارة إسطنبول التي يراها أكثر بكثير من مجرد خسارة السيطرة على أكبر مدن البلاد ومركز الثقل الاقتصادي فيها. فمنصب رئيس بلدية إسطنبول كان نقطة انطلاق مسيرة العمل السياسي لإردوغان، على اعتبار أن خسارة إسطنبول، التي يقطنها نحو خُمس سكان تركيا - الذي يصل إلى 82 مليون نسمة - يضعف أيضاً موقف حزب العدالة والتنمية في الوصول إلى مصدر رئيسي للدعم والتمويل. ووفقاً لبعض التقديرات، فإن المدينة تستوعب رُبع إجمالي الاستثمارات العامة وتمثل ثلث اقتصاد تركيا الذي يبلغ حجمه 748 مليار دولار أميركي.
وطرح زيرك سؤالاً عن احتمالات توجه تركيا إلى انتخابات مبكرة في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، مشيراً إلى أن «القناعة في حزب العدالة والتنمية أنه لا يزال يسيطر على مفاصل البلاد... وأنه، حتى في إسطنبول، بإمكانه عرقلة إمام أوغلو في إدارة بلدية إسطنبول في ظل أن غالبية أعضاء مجلس البلدية ينتمون إلى العدالة والتنمية». وأشار إلى أن إردوغان، ومعه حليفه دولت بهشلي، رئيس حزب «الحركة القومية»، «يستبعدان خيار الانتخابات المبكرة، ويعتقدان أنه سيكون الأسوأ الآن، ولا سيما أن البلاد مرشحة للاستقرار بعيداً عن الانتخابات لمدة تزيد على 4 سنوات».
في المقابل، رأى زيرك إلى أنه مهمة إمام أوغلو في إسطنبول لن تكون سهلة على الإطلاق، بل أمامه الكثير من العراقيل على الرغم من رسائل التهاني وإبداء الاستعداد للتعاون معه، مشيراً إلى أن هذه «الكلمات والمجاملات الرسمية يمكن أن تتحول إلى العكس بين ليلة وضحاها».
وتتداول الأروقة «سيناريوهات» أخرى حول انحدار حزب العدالة والتنمية إلى مزيد من الضعف والتفكك، وبالتالي، عجز الحكومة عن السيطرة على الوضع الاقتصادي الذي يؤرق المواطنين، والذي قد تنجح الحكومة في استغلاله للدفع باتجاه الانتخابات المبكرة والمطالبة بإلغاء النظام الرئاسي الذي وسّع صلاحيات إردوغان وركّز جميع السلطات في يديه.
وبالفعل، وجَّه كمال كليتشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، دعوة صريحة إلى الأحزاب السياسية في البلاد للعمل معاً من أجل إلغاء النظام الرئاسي والعودة إلى النظام البرلماني. وقال كليتشدار أوغلو، في كلمة أمام البرلمان الثلاثاء الماضي «علينا العمل معا لإلغاء نظام الرجل الواحد، الذي يكفل للرئيس رجب طيب إردوغان جمع كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في يده، كي نؤسس نظاماً ديمقراطياً قوياً».
ولفت كليتشدار أوغلو إلى أن سكان إسطنبول جميعاً، وهم 16 مليون شخص، «كتبوا ملحمة ديمقراطية عظيمة في انتخابات رئاسة بلدية المدينة»، ما اعتبر، من جانب المراقبين، دعوة للأحزاب السياسية للبناء على النجاح الذي تحقق في إسطنبول من أجل إنهاء هيمنة إردوغان وحزبه على مقاليد السلطة في البلاد.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.