كامالا هاريس... مرشحة رئاسية ديمقراطية تقود من الوسط

في زحمة الاصطفاف السياسي الأميركي

كامالا هاريس... مرشحة رئاسية ديمقراطية تقود من الوسط
TT

كامالا هاريس... مرشحة رئاسية ديمقراطية تقود من الوسط

كامالا هاريس... مرشحة رئاسية ديمقراطية تقود من الوسط

في عام 2008، تكهّن كثيرون بأنها ستكون واحدة من بين أبرز النساء اللواتي قد يصبحن «السيدة رئيسة الولايات المتحدة». وبعد عشر سنوات صُنّفت بأنها ستكون على قائمة أهم المرشحين الديمقراطيين في السباق الرئاسي لعام 2020. وبالفعل هذا ما حصل، عندما وقفت على منصّة أول مناظرة سياسية بين المرشحين الديمقراطيين، في مواجهة كبار متصدّري استطلاعات الرأي، رغم أن السباق لا يزال في بدايته.
إنها السيناتورة الديمقراطية عن ولاية كاليفورنيا كامالا هاريس، التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها عدّاءة سياسية شرسة وصلبة. وكانت هاريس في يونيو (حزيران) 2018 قد أعلنت أنها لا تستبعد الترشح في مواجهة الرئيس دونالد ترمب، ومع بداية عام 2019 أعلنت هاريس رسمياً خوضها السباق الرئاسي (2020). وخلال 24 ساعة من إعلانها ترشّحها جمعت تبرّعات قياسيّة مساوية للتبرعات التي جمعها بيرني ساندرز بُعيد ترشحه لانتخابات 2016. وفي المناظرات التي شهدتها مدينة ميامي بالأمس كان أداء هاريس قوياً ولافتاً... حاز إعجاب المحللين.
حضر المهرجان الانتخابي الأول للسيناتورة كامالا هاريس في يناير (كانون الثاني) 2019 نحو 20 ألف شخص في مدينتها أوكلاند، «جارة» مدينة سان فرانسيسكو بشمال ولاية كاليفورنيا. وشكّل هذا الإقبال الكبير «صدمة» لمنافسيها الذين شعروا بخطورتها على حظوظهم، على الأقل في مواصلة السباق الحزبي للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي.
ولكن رغم أن معظم مهرجانات هاريس الانتخابية تستقطب حضوراً مميزاً، فإنها تجهد لتقديم فلسفة خاصة بها، في ظل الاستقطاب الحاد الذي يشهده الحزب الديمقراطي، والمجتمع الأميركي عموماً، ما يجعل تقديم تصنيف سياسي أو آيديولوجي لها، دونه صعوبات جمّة.

البحث عن هوية
هاريس تقدّم نفسها على أنها صاحبة حلول عملية بدلاً من الرؤى الشاملة. وكانت قد قالت في مهرجان انتخابي بولاية ساوث كارولينا، الجمعة الماضي: «مهم أن يكون لديك أفكار كبيرة حول كيفية إصلاح هذا العالم، لكن من المهم أيضاً، ويمثل أولوية بالنسبة لي تقديم حلول لمعالجة الأشياء التي تجعل الأشخاص يستيقظون في منتصف الليل». ويعكس وقوفها على مسرح واحد أمام كبار منافسيها في أول مناظرة سياسية، على رأسهم نائب الرئيس السابق جو بايدن وبيرني ساندرز، حجم التحدّي الذي تواجهه.
ساندرز (اليساري أصلاً خارج صفوف الحزب الديمقراطي) صنّف نفسه مع السيناتورة إليزابيث وارين (من ولاية ماساتشوستس) كممثلين للتيار اليساري، في حين أعلن بايدن أنه يمثل موقع الوسط، واعداً بإلحاق الهزيمة ترمب. أما هاريس فتشتهر بأنها «مُدّعية عامة سابقة»، تشارك كعضو مجلس شيوخ في الجلسات العامة للمجلس، وليس للدفاع عن أي نهج سياسي معين.
الآن ثمة أصوات كثيرة تطالب هاريس بأن تعجّل في بلورة فلسفتها الآيديولوجية. وبينما يحمل منافسوها برامج واضحة ومحددة، ويعتقد كثيرون أنها قد تمثل التغيير المطلوب، فإن قلَّة منهم تبدو قادرة على تحديد نوع التغيير الذي ستحدثه.
البعض يقول إنها براغماتية أكثر منها آيديولوجية، وإنها شخصية عملية تسأل دوماً عن انعكاس أي قرار على حياة الناس. وحقاً، تقول جيل حبيب، التي عملت مستشارة لهاريس عندما ترشّحت لمنصب المدعية العامة، ولاحقاً لعضوية مجلس الشيوخ عن كاليفورنيا: «من حيث منهجية كيفية تحقيق أهدافها، هاريس ليست آيديولوجية للغاية». ومن ثم، فالحصيلة حتى الآن هي مجموعة سياسات تتشكل غالباً من مواقف حدثيّة تتماشى مع الصراع الديمقراطي السائد في الولايات المتحدة.

حلول عملية مباشرة
من جهة ثانية، فإن الخيط الذي يربط مقترحاتها هو التركيز على ما قدّمته كإجراءات عملية، بدلاً من الحلول طويلة الأجل؛ إذ تؤيد هاريس الرقابة على الأسلحة الفردية، وحلّ قضية المواطنة بالنسبة لأطفال المهاجرين غير الشرعيين وأوليائهم، عبر قرارات تنفيذية رئاسية، كالتي اتخذها ترمب - وقبله أوباما - في مواجهة اعتراضات الكونغرس.
أيضاً، تؤيد هاريس تقديم مساعدات للمستأجرين وحوافز ضريبية للطبقة الوسطى بقيمة 6 آلاف دولار أميركي، ما يوفر مزايا ملموسة على المدى المباشر، بدلاً من البرامج الأكثر جذرية التي تقدمها السيناتورة اليسارية وارين، التي تتعهد بتفكيك شركات التكنولوجيا الكبرى، مثلاً.
واليوم تدافع هاريس، ومثلها مساعدوها، في حملتها الانتخابية، عن دعوتها لرفع رواتب المعلمين بمعدل 13500 دولار، لمساواتهم بفئات المهنيين المتعلمين، بما يضمن تحسين نتائج الطلاب وبيئة التعليم، ليتبيّن بعدها أنه اقتراح يتطابق مع برامج نقابات المعلمين. وكما دافعت عن المعلمين، تعهدت هاريس أخيراً بفرض غرامات قاسية على الشركات التي تميز في الأجور بين النساء والرجال، في اقتراح مباشر لم يطرحه أي منافس ديمقراطي لها. ومن المعروف، عموماً، أن المرأة العاملة الأميركية تحصل على 80 سنتاً مقابل كل دولار يحصل عليه الرجل.
في أي حال، وكما سبقت الإشارة، حتى الساعة لم تطلق هاريس أي وصف أو تسمية لموقعها. هل هي من يسار الوسط أو يمين أقصى اليسار أو في أي مكان بينهما. بل عندما سألتها مراسلة صحافية عما إذا كانت «من أتباع ديمقراطيي أوباما» ردت هاريس ببساطة: «أنا كامالا». وراهناً، تكثّف السيناتورة الكاليفورنية الطموحة نشاطها في الولايات الأربع التي ستشهد تصويتاً مبكراً، وصار لديها نادٍ للمعجبين باسمها، في تقليعة تشبه نادي المعجبين بالمغنية بيونسيه. غير أن استطلاعات الرأي المُبكّرة في ولاية كاليفورنيا، بالذات، تظهر إمكانات هاريس وحدودها، إذ عندما طُلب من الناخبين الديمقراطيين اختيار المرشحين الأول والثاني، جاءت نتائجها مشابهة لكل من بايدن ووارين، بحسب أحد الاستطلاعات. لكن عندما طلب منهم تحديد الخيار الأول، تراجعت هاريس وراء بايدن ووارين وحتى ساندرز.

النشأة... والصعود السريع
وُلِدت كامالا هاريس يوم 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1964، لعائلة متعلّمة ومثقفة؛ فأبوها المهاجر من جامايكا، دونالد هاريس، بروفسور اقتصاد في جامعة ستانفورد المرموقة. أما أمها شيامالا غوبالان فهي مهاجرة هندية تاميلية من مدينة شيناي (مدراس سابقاً) واختصاصية بسرطان الثدي. ثم إن أختها مايا محامية وإعلامية ومحللة وناشطة سياسية لامعة. وهي حالياً متزوجة من المحامي دوغلاس إيمهوف.
تلقت كامالا تعليمها الجامعي في جامعة هوارد بالعاصمة الأميركية واشنطن، ثم حازت على إجازة الحقوق من جامعة كاليفورنيا - هايسينغز. وباشرت ممارسة العمل القانوني محامية وقاضية جنباً إلى جنب مع نشاطها السياسي. ومع بداية عام 2017 أصبحت من بين أصغر أعضاء مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا، وكانت قد شغلت قبل هذا المنصب منصب المدعية العامة (أو وزيرة العدل) في الولاية من عام 2011 وحتى عام 2017. وقبل ذلك كانت المدعية العامة لمدينة سان فرانسيسكو، من عام 2004 وحتى 2011.

معركة مجلس الشيوخ
في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 هزمت هاريس منافستها الديمقراطية لوريتا سانشيز للحلول مكان السيناتورة (المتقاعدة) بربارا بوكسر، لتصبح ثالث امرأة تمثّل كاليفورنيا في مجلس الشيوخ الأميركي، وأول أميركية من أصول جامايكية وهندية في هذا المنصب. والجدير بالذكر أن نجم هاريس بدأ يلمع منذ عام 2008. وسرعان ما حظيت هاريس باحترام وتقدير معظم قيادات الحزب الديمقراطي. وفي فبراير (شباط) 2016 صوّت مؤتمر الحزب الديمقراطي لصالح هاريس بنسبة 78 في المائة، أي أكثر بـ18 في المائة من النسبة المطلوبة، وهي 60 في المائة لضمان ترشيح الحزب. ورغم ذلك، وبما أن تأييد الحزب لا يضمن لأي مرشح مكاناً في الانتخابات العامة، فإن المرشحين يشاركون في انتخابات أولية واحدة في يونيو، ثم يتقدّم المرشحان الأول والثاني، بصرف النظر عن هويتيهما الحزبية، إلى الانتخابات العامة. وهنا، نالت هاريس تأييد 48 مقاطعة من أصل 58 في ولاية كاليفورنيا، وتغلّبت على منافستها الديمقراطية (أيضاً) سانشيز في الانتخابات العامة، وهذا، بعدما فشل الحزب الجمهوري للمرة الأولى من إيصال مرشح له إلى انتخابات مجلس الشيوخ، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تحصل منذ بدأت كاليفورنيا انتخاب أعضاء مجلس شيوخها مباشرة عام 1914.
في 8 نوفمبر 2016، فور فوز هاريس بمقعدها في مجلس الشيوخ، تعهَّدت بحماية المهاجرين من سياسات الرئيس المنتخب دونالد ترمب. ويوم 21 يناير (كانون الثاني) 2017، أي في اليوم الثاني على تنصيب ترمب، وصفت هاريس رسالته بـ«المظلمة»، خلال مشاركتها في أكبر مظاهرة نسائية في واشنطن. ويوم 28 يناير أدانت هاريس القرار الرئاسي الذي أصدره ترمب لمنع مواطني سبع دول غالبيتها مسلمة من دخول الولايات المتحدة، واصفة القرار بأنه يحظر المسلمين.
بعد ذلك، في فبراير من العام نفسه، اعترضت هاريس على ترشيح بيتسي دي فوس وزيرة للتعليم، وجيف سيشنز وزيراً للعدل. وفي أول خطاب لها أمام الكونغرس خصّصت 12 دقيقة لانتقاد سياسات ترمب تجاه المهاجرين. وفي مارس (آذار) طالبت باستقالة سيشنز بعدما تحدّثت تقارير عن اتصاله بالسفير الروسي في واشنطن، سيرغي كيسلياك، مرتين. وفي أعقاب صدور تقرير المحقق الخاص روبرت مولر في قضية التدخل الروسي في انتخابات 2016 وإعاقة التحقيقات، دعمت هاريس المطالبة بعزل الرئيس ترمب. ويوم 14 مارس 2017 اعتبرت أن إلغاء الجمهوريين «برنامج الحماية الصحية» المعروف بـ«أوباما كير» رسالة بأن التأمين الصحي «ترف» وليس حقّاً مدنياً.
ولفتت هاريس انتباه الإعلام الأميركي أكثر خلال جلسة استماع للجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، عندما سألت نائب المدعي العام رود روزنشتاين عن علاقته بطرد مدير «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (إف بي آي) السابق جايمس كومي. وبسبب طبيعة أسئلتها المُحرجة، خصوصاً أنها محامية وقاضية، بادر كل من السيناتور الجمهوري الراحل جون ماكين والسيناتور ريتشارد بر، رئيس اللجنة، إلى مقاطعتها طالبين منها أن تظهر احتراماً أكبر للشاهد. وهذا، مع أن أعضاء ديمقراطيين في اللجنة ذكروا أنهم طرحوا أسئلة مشابهة على الشاهد، لكنهم لم يتعرّضوا للمقاطعة. وتكرّر الأمر خلال جلسة استماع أخرى مع وزير العدل جيف سيشنز، حيث قاطعها أيضاً ماكين وبر. ووصف سيشنز أسئلتها بأنها تثير أعصابه. وقال شيوخ ديمقراطيون إنها السيناتور الوحيد الذي تجري مقاطعته في جلسات الاستماع بشكل فظّ من قبل رئيس اللجنة. ووصف الإعلام مقاطعتها بأنها سلوك ذكوري تجاه سيدة عضو في مجلس الشيوخ، وبأنها ما كانت لتُقاطع فيما لو كانت رجلاً.
وفي موضوع آخر، انتقدت هاريس رئيس شركة «فيسبوك»، مارك زوكربرغ، بسبب طريقة استخدام الشركة لمعلومات المواطنين، وزارت خلال يونيو 2018 أحد مراكز احتجاز المهاجرين اعتراضاً على سياسة فصل العائلات، وانتقدت خلال جلسة تثبيت قاضي المحكمة العليا بريت كافانوه على اختصار تحقيقات «إف بي آي» في ماضيه.

سياسة خارجية تقليدية
ورد اسم هاريس بين القيادات الديمقراطية التي كانت هدفاً للرسائل المفخّخة التي أُرسِلت عبر البريد، العام الماضي. ودافعت وحدها عن النائبة الأميركية المسلمة إلهان عمر التي انتقدت ما سمته بـ«اللوبي» اليهودي. وقالت هاريس إنه ينبغي أن نحظى بصوت يحترم النقاش حول السياسات بما يضمن دعم إسرائيل والولاء للوطن، وبأن هناك فارقاً بين انتقاد السياسات والسياسيين ومعاداة السامية.
لكنها في المقابل، خلال مؤتمر «أيباك» (أقوى اللوبيات الداعمة لإسرائيل في أميركا) قالت إن إسرائيل ينبغي ألا تكون قضية خلافية بين الحزبين، وتعهدت بالعمل بما في وسعها لضمان أمنها وحقها في الدفاع عن نفسها، ورفضت حركة المقاطعة ضدها. كما أنها أسهمت مع أعضاء آخرين في مجلس الشيوخ في إصدار قانون يعترض على قرار مجلس الأمن الدولي «2334»، الذي يدين إسرائيل بسبب بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلَّة. كما صوتت على قرار في مجلس الشيوخ للاحتفال بالذكرى الخمسين «لتوحيد القدس»، والتقت في نهاية 2017 برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.
مواقفها الأخرى تجاه القضايا العربية تعكس الخط العام المتخبِّط للقادة الديمقراطيين، ففي أبريل (نيسان) 2017 وعلى أثر هجمات خان شيخون الكيميائية في سوريا، وصفت هاريس الرئيس السوري بشار الأسد بأنه «ليس فقط ديكتاتوراً وحشياً ضد شعبه، بل مجرم حرب، لا يمكن للمجتمع الدولي أن يتجاهله». ودعت الرئيس ترمب إلى وضع استراتيجية مع الكونغرس حول سوريا بالتنسيق مع الحلفاء. لكنها في المقابل، تؤيد الاتفاق النووي الإيراني وتنتقد موقف الرئيس دونالد ترمب منه، معتبرة أن إلغاءه يعرّض الأمن القومي للخطر ويعزل الولايات المتحدة عن حلفائها.
واستطراداً، بينما تعتبر هاريس الاتفاق بأنه «أفضل وسيلة لمنع طهران من الحصول على السلاح النووي وتجنب صراع كارثي في الشرق الأوسط»، فإنها صوّتت في مجلس الشيوخ على قرارات لوقف المساعدات العسكرية للمملكة العربية السعودية أو على صفقات السلاح على خلفية حرب اليمن.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.