سعيد عقل شاعر الفروسية الغاربة والأنا المتعالية والبلاغة القصوى

كان بشعره وأفكاره أحد أبرز «الأساطير» المؤسسة للكيان اللبناني

سعيد عقل
سعيد عقل
TT

سعيد عقل شاعر الفروسية الغاربة والأنا المتعالية والبلاغة القصوى

سعيد عقل
سعيد عقل

قلّ أن امتلك شاعرٌ من الشعراء ذلك الحضور الآسر وتلك الكاريزما الشخصية النادرة، اللذين امتلكهما سعيد عقل. فقد بدا شاعر «كما الأعمدة»، بقامته الفارعة، وعينيه الزرقاوين المسددتين نحو المجهول، وجبهته المرفوعة، وشَعره المبعثر في كل اتجاه، وكأنه أحد أبطال الأساطير الذين جاؤوا ليتفقدوا الأرض عند نهايات الأزمنة، قبل أن يعودوا ثانية إلى ممالكهم. وإذا كان الشاعر اللبناني الأشهر مديناً بجزء من نجوميته لموهبته الشعرية العالية، فإنه يدين بالجزء الآخر لجاذبية حضوره ومظهره الأنيق وصوته الراعد الأجش، إضافة بالطبع إلى مواقفه السياسية الجريئة التي طالما أثارت ريبة البعض، وإعجاب البعض الآخر. لقد بدا سعيد عقل مختلفاً عن الشعراء، ليس في نقل القصيدة العربية الخليلية نحو فضاءات لغوية وأسلوبية مبتكرة فحسب، بل في رؤيته إلى الحياة بوصفها فرصة ثمينة لا يجب إهدارها على مذبح الشهوات والملذات الدنيوية العابرة، وهو الذي استطاع أن يتجاوز بسنتين حاجز الأعوام المائة، فيما لم يُكتب لمعظم الشعراء عبر العصور أن يبلغوا نصف هذا الرقم، كما كان حال جون كيتس وجبران خليل جبران وأبي القاسم الشابي وبودلير ورامبو وبدر شاكر السياب. وإذ يفسر بابلو بيكاسو الأعمار القصيرة للشعراء بكونهم يأتون إلى الكتابة بكامل النيران التي تسري في دواخلهم، يذهب بالمقابل إلى القول إن الرسامين يعيشون حياة أطول لأنهم «كائنات نباتية»، ولأنهم «يخلعون أجسادهم على عتبات المراسم، ويخلطون ألوانهم بهدوء بالغ». ومع أن مقولة بيكاسو لا تنسحب على جميع المبدعين، فإن «النباتية» التي تحدث عنها الفنان الإسباني تنطبق أشد الانطباق على مقاربة سعيد عقل للعالم، سواء من حيث السكينة المطمئنة التي يركن إليها قلبه، أو من حيث ازدرائه للألم، واعتباره الفرح أساساً للكتابة والحياة.
لقد بدت وسامة سعيد عقل وأناقته المفرطة وكأنهما الوجه الآخر لوسامة لغته ولأناقته الأسلوبية، كما أن ترفعه الأخلاقي ومنظومة القيم التي اعتنقها في حياته كانا متساوقين تماماً مع ما دافع عنه في شعره من مبادئ ومُثل ومفاهيم تتعلق بالنبل والشجاعة والشهامة والتعفف وكرم النفس. وهو إذ يربط الشعر بالفروسية لا يكتفي بدحض فكرة الشاعر الصعلوك التي جسدها عشرات الشعراء عبر العصور، بل يقترب إلى حد بعيد من صورة الشعراء الفرسان في القرون الوسطى، على أن كبرياءه ونرجسيته المتفاقمة ظلا يحولان دائماً دون التوله في الحب، أو الوقوع فريسة لما يرى فيه تخلياً عن الكرامة وإذلالاً للنفس. وإذا كان عقل يختلف مع المتنبي فيما يتعلق بعزوفه عن مديح الحكام، فإنه يتشاطر معه في الفحولة، وفي العصب الذكوري للغة، كما في تفاقم الأنا وامتداح الذات. ولعل توقه للوصول إلى السلطة السياسية على جميع مستوياتها، الذي لم يصبه منه سوى الفشل والإخفاق، لم يكن سوى تعبير جلي عن الرغبة الجامحة في الجمع بين سلطة اللغة التي تحتضنها الموهبة العالية، وسلطة السياسة والحكم التي لا تجد ما يسندها على أرض الواقع. وما التضخيم المفرط لصورة لبنان وحجمه في شعر سعيد عقل ونثره وخطبه المنبرية سوى تضخيم من نوعٍ ما للأنا الفردية التي حاول الشاعر عامداً مماهاتها مع «أنا» الجماعة، حيث لا بد للشعر، إزاء تواضع الجغرافيا، أن يتكفل بتصحيح الخريطة وتكبير الأحجام: «ومن الموطن الصغير نرود الأرضَ، نذرّي في كل شطّ قرانا \ نتحدى الدنيا شعوباً وأمصاراً، ونبني، أنّى نشأ، لبنانا».
يبدو العالم عند سعيد عقل مرسوماً في الذهن، ومستخلصاُ من مُثل عليا ونماذج أولية وتصورات مسبقة لا صلة فعلية لها بالواقع المعيش، لذلك فليس للمدن التي يكتب عنها، مثل عمان والشام وبغداد ومكة والقدس وغيرها، مرجعية على أرض الواقع، بل على أرض البلاغة والتأنق الجمالي، وكذلك الأمر مع النساء والأوطان والأماكن التي يقاربها شعره. وإذ يستشعر عقل أن الواقع الراهن ليس كافياً للبرهنة على تصوراته، يعمد إلى أسطرة التاريخ، كما في قدموس وبنت يفتاح، أو يختلق من عندياته كثيراً من الأساطير التي تعزز لديه نزعة التفوق النيتشوي. والشعر عنده هو بدوره مركّبٌ أسطوري يحلّق فوق الحياة، ولا يصطدم بمادتها الترابية وشقائها المرهق ومكابداتها اليومية. من هنا، نفهم اشتباكه النقدي مع إلياس أبو شبكة، واحتجاجه الدائم على شعرية الألم والتأوه الرومانسي والرخاوة العاطفية. ومع تأكيد عقل على أهمية الموهبة الفطرية بالنسبة للشاعر، فإنه يلتقي من جانب آخر مع الرمزيين الذين يربطون الشعر بالكدح والصناعة والسعي المضني لتجريد اللغة من زوائدها، كما هو حال النحاتين مع الصخور والمعادن. هكذا، تصبح الكتابة رديفاً للهندسة والنمنمة اللفظية، وللعُروض البلاغية التي عصيت مجاراتها على كثير من مقلديه والمفتونين بقصائده. ولأن صاحب «رندلى» كان مهجوساً بالفخامة اللفظية والجمال التعبيري، بمعزل عن طبيعة الموضوع المتناول، فإنه لا يخلف حتى في مراثيه أي شعور بالحزن أو التفجع والخسارة، بل إن ما يخلّفه في دواخل قرائه وسامعيه هو الشعور بالنشوة والذهول إزاء براعة التأليف وغرابة الصور وتراقص الإيقاعات. كما أنه لا يكتفي بالتنافس مع الأحياء على ذرى الحياة، بل هو يلاحق الموتى إلى قبورهم، ليقاسمهم حصتهم من العبقرية والمجد، فيقول في رثائه لشولوخوف: «لئن تحكِ عن نهرٍ، فشطر قصيدتي \ يطلّ، وهزّ السيف يكتمل النهرُ \ أغني أنا لبنانَ أجمل ما شدا \ كناري غصنٍ رقّ، لكنه نسرُ \ وأنت تغني رقعة من جبالها \ جبالٌ عليها متعباً يتّكي الدهرُ». وهو إذ تحتفي زحلة بذكرى أحمد شوقي، لا يتوانى عن تذكيره بأن الإمارة على الشعر ليست مسألة محسومة تماماً، وأنه يحاوره من موقع الند، إن لم يكن من موقع المتقدم: «على اسمك بين الحور أَغوى وأهدرُ \ أنا النهر، شوقي، أيّنا اليوم أشعَرُ؟». وفي غير محاضرة له، كان عقل يذكّر الحاضرين بأن الفارق بين شوقي وبينه يمكن أن يختزله تعريف الأول التقريري للشعر، إذ يقول: «والشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة \ أو حكمة، فهو تقطيع وأوزانُ»، وبين تعريفه هو لهذا الفن عبر بيتيه المميزين: «الشعر قبضٌ على الدنيا مشعشعة \ كما وراء قميصٍ شعشعتْ نجُمُ \ فأنت والكون تياهان، كأس طلى \ دُقّت بكأسٍ وحلمٌ لمّه حلٌمُ».
وإذ تحتل المرأة الحيز الأكبر من شعر سعيد عقل، يعمد الشاعر بالمقابل إلى أسطرتها وتنزيهها عن لواحق الغرائز الجسدية والدنس الشهواني. صحيح أن مجموعات من مثل «دلزى» و«رندلى» و«أجمل منك؟ لا»، تكتظ بالإشارات الجسدية المتصلة بالعنق والخصر والفم والنهد والساقين، ولكن المرأة في هذه الإشارات المتناثرة تبدو أقرب إلى المنحوتة أو الأنموذج الجمالي المنتزع من الأحلام والتصورات، لا من الحضور الواقعي للمرأة التي نعرفها. النساء هنا وليدات الخيال ومخترعاتٌ بالكامل، بدءاً من الأسماء غير المألوفة، مثل أغنار ورندلى ونلّارا وجلنار ونيانار ومركيان، وحتى الجسد الفينوسي الذي يخلصه الشاعر من شبقيته ليحيله إلى طقس جمالي طهور، وهو ما يظهر بوضوح في قول الشاعر مخاطباً المرأة المتخيلة: «سكناكِ في الظن، وهذي الدّنى \ تلهّفٌ باكٍ وقلبٌ حسودْ \ كُوّنت من توقٍ إلى الحسن، لا منكِ \ ومن مدّ يدٍ صوب جودْ». أو المرأة القائمة على شفا التحقق: «هممتِ بأن تخطري في الوجود ولم تفعلي». أو المرأة المتعالية عن ربق المحسوس: «أنا لا لأُضمّ ولا لأشَمّ \ أنا، دعني، حلمٌ يُحلمْ». أو المرأة المستبعدة والمؤجلة «ظَلّي على شفتي شوقهما، وفي جفني ذهولَهْ \ ظلي الغد المنشود يسبقنا الممات إليه غيله».
ولأن مثالية سعيد عقل المتعالية تدفعه إلى استبدال «سفليّة» الحياة باللغة المتعالية، فهو يستبعد من الشعر كل ما يراه غير لائق بمنمنماته المصنوعة بإتقان، وبمنحوتاته النظمية المتخففة من الزوائد. وهو إذ يفترق عن الحداثة في احتفائها بنثرية التفاصيل، كما بالمعيش واليومي والهامشي، يلتقي معها في الخروج على رتابة القول الشعري النمطي والمستهلك، وفي البحث عن منظور للكتابة يحتفي بالجديد والطازج والمغاير إلى حد الإدهاش. وإلى صوره الغريبة وغير المألوفة، ثمة في شعره تراكيب وصياغات واشتقاقات لم يسبقه إليها أحد من شعراء الخليل، وثم معرفة عميقة بالموسيقى مكنته من التصرف بالأوزان والبحور، خصوصاً المتروكة منها، كالمضارع والمنسرح والمجتث، إلى نوع من الرقص الماهر، أو التطريز الجمالي، أو اللعب المجاني. كما أن وصوله بالنموذج الخليلي إلى ذراه الأخيرة سهل طريق التغيير لجيل جديد من الرياديين الذين بادروا عبر شعر التفعيلة إلى خلخلة البيت الشعري وأنساقه الإيقاعية الرتيبة. وإذا كان سعيد عقل قد أهدى لفيروز بعض أجمل نصوصه، وشاطر الأخوين رحباني مشروعهما الفني والإبداعي، فإنه شكّل - وما يزال - الرافعة الشعرية والآيديولوجية لفكرة الوطن المتفرد، وبات جزءاً لا يتجزأ من الأساطير المؤسسة للكيان اللبناني. ومن الخطأ بمكان، أخيراً، أن نحاكم سعيد عقل على آرائه في السياسة والتاريخ والاجتماع والاقتصاد، فمعظم تلك الآراء لا يستند إلا إلى تصورات وتهويمات نابعة من شعوره بالتفوق والعظمة، ومن كونه المبدع الموسوعي المحيط بكل شاردة من شوارد العالم وكشوفه العلمية والأدبية. أما دعوته إلى التخلي عن العربية الفصحى لمصلحة المحكية أو الحرف اللاتيني، فأبلغ ردّ عليها هو شعره الفصيح الذي يتجاوز بأشواط نماذجه المحكية. لكأنه وقد وصل بلغة الضاد إلى «سكون الحسن»، وتخومه الملاصقة للصمت والإمحاء، أراد أن يفعل بها كما فعل مايكل أنجلو بالتمثال الذي كاد يستوي بشراً سوياً بين يديه، فصاح به وهو يكسره من فرط الدهشة «انطق، يا موسى!».



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.