الالتفاف الغربي على الجغرافيا العربية

الطيب بيتي يرى أن الربيع العربي لم يكن سوى «ربيع المغفلين»

الالتفاف الغربي على الجغرافيا العربية
TT

الالتفاف الغربي على الجغرافيا العربية

الالتفاف الغربي على الجغرافيا العربية

«ربيع المغفلين» مصطلح أطلقه مؤخرا الدكتور الطيب بيتي في أحدث كتبه الذي يحمل العنوان نفسه. ففي الوقت الذي انتشر فيه تداول مصطلح الربيع العربي الذي صدره الغرب إلينا، ومع ظهور توابع ومخاطر لم تكن بالحسبان لهذا الربيع كان للدكتور الطيب بيتي، وهو مفكر مغربي مقيم في باريس وكان يعمل مستشارا باليونيسكو سابقا له دراسات متعددة في الأنثروبولوجيا، رؤية مختلفة لهذا «الربيع» عكسها في كتابه الجديد الصادر عن مؤسسة «شمس للنشر والإعلام» بالقاهرة، ويقع في 520 صفحة من القطع المتوسط.
يثير بيتي الكثير من التساؤلات المثيرة للجدل طرحها عبر 21 فصلا، ومنها جدوى الربيع العربي والرؤية الغربية للخيارات الربيعية وبانوراما ثورات الربيع في أوروبا والالتفاف الغربي على الجغرافيا العربية والثورات العربية ما بين الأدلجة الأسيرة والعاطفانية التبريرية، وتركيا وجه الغرب القبيح للربيع العربي.
ويكشف العنوان المطول للكتاب «ربيع المغفلين: النهاية الممنهجة للعرب في جيوستراتجية حكومة العالم الجديدة» عن التوجه الخاص للكاتب في تناوله لهذا الربيع، إذ يرى أن هذا الربيع هو «مهزلة العرب في المهرجان الدولي الحضاري المعاصر بامتياز، وطامة الزمن العربي الجديد، وهو الشطح الصوفي والزار الشعبي حيث تشاطح الأقوام من عندنا شطح المجاذيب، ولم يتأنوا لكي يوقفوا ذلك الحدث الطارئ عند حدود التأريخ له بالتحليل المنهجي والتوثيق الأكاديمي، بل انطلقوا به منذ بداياته في كل الأسواق المحلية والإقليمية والدولية عبر الإعلام العربي والدولي – المسير والمأجور - بشهادات البهتان والزور، يأخذ منها كل مغفل أو مدلس حاجته. كما أنهم، حسب كلماته، «لم يوقفوه عند رسوم وقواعد المعقول على ما بينوه، حين حاولوا الاستخراج والتعليل والتدليل، وإنما وثب الحدث على ألسنتهم وكتاباتهم وخطاباتهم إلى آفاق عجز العقل والفهم عن ملاحقته والإحاطة به إحاطة إدراكية، تعرف معها مصادر مصداقيته ومراميه، ليتحول عند سذج وبلهاء المتلقين إلى حقائق ومسلمات، فبسط الحدث - التونسي في بداياته سلطانه، وطغى على غيره من الأحداث الإقليمية والدولية!».
لقد تم، حسب المؤلف، استنبات «ثورات الربيع العربي»، في خريف 2011، كمرحلة انتقالية أخيرة في المشروع الإمبراطوري الأخير ذي الصرح المتهاوي، بهدف الاستدارة على الجغرافيا العربية وتطويق شعوبها بغية وضعها تحت السيادة المطلقة للغرب عبر مرحلته «التطورية» التي انتقلت من أوروبا - فيما بين الحربين - إلى الولايات المتحدة الأميركية، للعمل على نقلها بالكامل إلى إسرائيل فيما بعد الربيع العربي.. وفى موضع آخر بالكتاب يحلل الطيب بيتي مصطلح الربيع العربي فيراه مصطلحا لم يسقط من النيازك العليا – على حد قوله بل كان تلوكه ألسنة خبراء (الجيو - سياسة) بعد حرب الخليج الثانية، وسودته أقلام مهندسي (الجيو - ستراتجيات) في مجلة السياسة الخارجية الأميركية عام 2005، وأن المشروع طبخ - والناس نيام - في الأوكار المعتمة للمخابرات الأميركية في العهد البوشي، وتم تنفيذه في زمن «التغيير الأوبامي»، ليكون الخبز اليومي «الإصلاحي» للرئيس الأميركي باراك أوباما بقصد ترميم التصدعات الأميركية الداخلية وتصديرها للخارج، بغية ابتزاز حلفاء أميركا في العالم - وخصوصا من الأوروبيين والعرب - تمهيدا لخلق حروب مدمرة في منطقة الشرق الأوسط، امتثالا لزمرة الأسياد، وتسويغا للتدخل السافر والعاجل في الجغرافيا العربية، من أجل تغيير أنظمتها المارقة واستبدال حكامها المستبدين، واستكباش ساستها ونخبها العملاء المفسدين، واستضباع سكانها المغفلين!! وهو ما أعطى للمؤلف المبرر لوصفه بربيع المغفلين كما هو على عنوان الكتاب الرئيس. حيث يقول الطيب بيتي إن الربيع العربي ما هو إلا حلقة من المسلسلات الأميركية الفجة، امتدادا لسيناريو العصر 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 الهوليودي المونتاج والإخراج، وليس للعرب في «ربيعهم» من نصيب سوى الزعقات، والضجيج والتهريج في السيرك العبثي العربي الجديد..! مشيرا إلى أن مصطلح «المغفلون» مفردة مستقاة من التراث العربي الإسلامي كما أوردها الفقيه الحنبلي «السلفي» ابن الجوزي في كتابه الشعبي المعروف: «أخبار الحمقى والمغفلين» وذلك قبل أن تستخدم كمفهوم (سوسيو - سياسي) بطريقة واضحة في بدايات الستينات من القرن الماضي ولكن على صيغة أخرى وهي: «الاستحمار» التي تحمل معنى «الاستغفال» التي جاءت على لسان المفكر الجزائري الكبير «مالك بن نبي».
وينتقد الطيب بيتي ما يسمى بالحروب الناعمة التي تقودها دول غربية تجيد تجنيد شباب بالمنطقة العربية عبر الشبكة العنكبوتية والتأثير فيهم وفى أفكارهم وهو الجيل الذي وصفه بأنه جيل هش مشوش يعيش على الفانتازمات والشطح النيرفاني، فكونوا – أنثروبولوجيا - تلك القنابل الموقوتة التي تمكن الغرب من تحريكهم عن بعد بوسائل الحروب «السيبيرية الجديدة» عبر شبكات الاتصال العنكبوتية – على حد قوله - في غياب برامج حكومية عربية تستجيب لطموحاتهم أو تملأ فراغهم أو تقيهم من الانحرافات و«الحلم» بالانتقال إلى العالم الوردي في الشمال الموسر، هروبا من جحيم الجنوب المعسر، حيث يستطيع متخصصون التمكن من «القنص» عن بعد من يمتلكون استعدادات نرجسية للظهور والقيادة والخيانة.
وحول مصطلحي «الياسمينة» و«الربيع العربي» وعلاقتهما بالتغيير السياسي، خصص المؤلف ثلاثة فصول مطولة في الكتاب للشرح التفصيلي لهما بالأدلة العقلية مستعينا بالأدلة التاريخية لينتهي إلى زيف نسبة المصطلحين إلى الربيع العربي وزيف ما روج له الإعلامان العربي والغربي على حد قوله، فالتغيير الذي أمله الثوريون لم يكن كما يرى سوى مجرد موضة فكرية أو ثقافية.
وأخيرا يرى المؤلف أنه مهما كان الحديث عن «التغيير» في العالم العربي أو في العالم، فدائما سيكون للغرب قدرات كبيرة في الاستدارة على مطالب الشعوب والانحراف بها إلى تلبية أغراضه وهو ما حدث في الربيع العربي.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!