{نداء كرايستشيرش» الطريق إلى مكافحة التطرف

انهيار «داعش» يعطي دفعة قوية لنشاط الإرهابيين عبر شبكة الإنترنت

شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش  حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)
شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)
TT

{نداء كرايستشيرش» الطريق إلى مكافحة التطرف

شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش  حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)
شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)

تركت مذبحة «كرايستشيرش» في نيوزيلندا التي جرت بها المقادير مؤخراً عدة أسئلة مثيرة للقلق وداعية للبحث والتأمل في وضعية وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وفي المقدمة منها الإنترنت، وهل بات يصنع صيفاً أم شتاء، يلهم العالم طريق الصواب أم يفتح واسعاً دروب الغواية والعماية، يجمع على البر والتقوى، أم يساعد على الإثم والعدوان؟

على أن المذبحة سيئة السمعة سالفة الذكر لم تكن بمفردها السبب الرئيسي وراء إعادة النظر في الدور الذي تقوم به تلك الأدوات العصرانية في الاتصال بين البشر، فقد كان لانهيار تنظيم «داعش» الإرهابي أثر هائل على دفع التطرف والإرهاب عبر شبكة الإنترنت دفعة قوية، ففي غضون فترة زمنية قصيرة، شهدنا تحولاً واضحاً وملحوظاً عند الجماعات الإرهابية؛ فمن فكر القيادة الهيراركية التراتبية، حيث القيادة منوطة بدرجات وشخصيات قادرة على تحمل زمام المبادرة، والقيام بما يلزم، لا سيما التكليفات بالعمليات، إلى نوع آخر من الأداء الإرهابي، حيث تسند المسؤوليات إلى نواة أصغر يتمّ فيها تولي زمام المبادرة من خلال خليط من الجهات الفاعلة الصغيرة غير المنسقة، التي تسعى إلى ملء الفراغ الذي خلّفه تنظيم متراجع، ما الذي تعنيه السطور المتقدمة؟
باختصار غير مخلّ، أضحى الإرهاب والتطرف المعولمان خطراً داهماً حول العالم، سواء كان إرهاباً مؤدلجاً بآيديولوجيات وقناعات سياسية يمينية، أو عنف وتطرف مختبئ في أردية وأثواب دينية وإيمانية.
لم يقتصر الإرهاب على أتباع دين بعينه، فقد نفذ متطرفون بيض هجمات على مسجدين في نيوزيلندا، وضد كنيس شجرة الحياة في بيتسبرغ بأميركا، ولا يزال من غير الواضح الدافع من وراء مذبحة لاس فيغاس، عام 2017، التي نفَّذها شخص واحد، وكانت الأشدَّ فتكاً في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
لعل المشترك الأكبر والأخطر هو نشر الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد كشف محققون، مرات ومرات، عندما بحثوا في خلفيات قتلة من نوعية الذئاب المنفردة، أو تنظيمات إرهابية، عن وجود أوكار أو مواقع إلكترونية، تجمع بين محرضين على الكراهية من الذين ينسجون أوهاماً وأكاذيب تعشعش في عقول شخصيات ضعيفة ومنعزلة. وليس تقليد الجرائم جديداً على عالم الجريمة، ولكن سطوة وسائل الإعلام الاجتماعي هي التي ساعدت في انتشار مثل ذلك الوهم بسرعة هائلة.
وفي مواجهة الخطر الداهم، كان اللقاء الذي شهدته العاصمة الفرنسية باريس بمبادرة خلاقة من رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن، الذي عُرِف بـ«نداء كرايستشيرش» للبحث في طرق مكافحة الإرهاب عبر شبكة المعلومات والتواصل الإنساني الحديث.
جمعت باريس، وبرعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قادة من قارات الأرض الست، عطفاً على أبرز مسؤولي شركات التكنولوجيا، لبحث إطلاق مبادرات جديدة وواعدة تهدف إلى مكافحة التطرف السيبراني، إن جاز التعبير.
وكان ولا يزال القلق الرئيسي لدى كل المشاركين في «نداء كرايستشيرش» متمثلاً في كيفية مطالبة الدول وكبريات الشركات الرقمية بالتحرك ضد الإرهاب والتطرف العنيف على الإنترنت، ومن ثم طلَبِ المشاركين، من ممثلي قادة العالم، ومسؤولي الشركات عابرة القارات، تعهدات لوقف المضمون الإرهابي والعنيف، الذي تحفل به المنصات الإلكترونية. هل أضحت تلك الشركات قولاً وفعلاً مُتهَمة بالترويج للإرهاب والتطرف، وإن بغير قصد أو نية؟
الشاهد أن ذلك كذلك، لا سيما أن «فيسبوك» بنوع خاص قد واجهَتْ انتقادات شديدة بعد التأخر في حذف الفيديو الخاص بمذبحة نيوزيلاندا، الذي انتشر بسرعة على وسائل التواصل، وهو ما أكدته رئيسة الوزراء النيوزيلاندية، حين أشارت إلى أن تلك المأساة أثارت صدمة، لأن الهجوم «أُعِد لكي ينتشر بسرعة»، وذلك في مقابلة لها مع صحيفة «لوموند» الفرنسية، وتابعت قائلة إن «(فيسبوك) التي استخدمت كمنصة لبثه مباشرة حاولت حذف الفيديو، لقد تم حذفه 1. 5 مليون مرة».
نداء «كرايستشيرش» كان السبب وراء السؤال التالي: «كيف نوقف الجريمة المقبلة»؟! وصاحبته هي السيدة أرديرن رئيسة وزراء نيوزيلندا نفسها، التي شهد لها العالم بحسن تعاطيها السياسي والدبلوماسي والإعلامي مع الإشكالية المؤلمة.
انطلقت أرديرن من عند الهجوم الذي جرى في بلادها، والذي كان يهدف في الأصل إلى بث موجة من الرعب لكي تنتشر حول العالم، وتنشر فظائعها على الإنترنت.
واستمر البث المباشر للحادث الإرهابي مدة 16 دقيقة و55 ثانية، وشاهد اللقطات الأصلية نحو 4000 متابع قبل أن تُحذف، وتم نسخها خلال 24 ساعة، وتم تحميلها مليوناً ونصف المليون مرة، قبل أن تُحذف من «فيسبوك». كان مستوى الفيديو مرعباً ومذهلاً، وقد رآه كثير من الناس على محركهم الآلي، دونما معرفة بماهيته، وبات السؤال: كيف يُسمَح بتداول شيء شائن كهذا؟
المقطوع به أنه يمكن تحديد المدى الذي وصل إليه هذا الفعل الإرهابي على الإنترنت وتلك هي الحادثة، لكننا لا نستطيع بحال من الأحوال قياس تأثيراته المستقبلية على الذين شاهدوه؛ فمنهم (على حد تعبير السيدة أردرين) مَن اتصلوا بخطوط الهاتف المتخصصة بالمساعدة النفسية، وربما هناك من نظروا إلى المشهد لتقليده مستقبلاً، ولإحداث أكبر أثر، ولو سلبيّاً، وسط الجماهير العريضة حول الأرض كلها.
وسط فعاليات «نداء كرايستشيرش» باتت «فيسبوك» بنوع خاص في دائرة الاتهام، لا سيما أن هناك ما يُعرف بـ«الصفحات الخلفية» أو «السوداء» حيث عوالم الجريمة المنظمة، سواء المتعلقة منها بالاتجار في الأسلحة أو المخدرات، وربما تهريب البشر، والعلاقة العضوية بين هؤلاء والإرهاب وعالمه وثيقة ولصيقة الصلة.
وفي أواخر أبريل (نيسان) الماضي، وقبل «نداء كرايستشيرش»، قالت «فيسبوك» في منشور على مدونة للشركة إنه تمت إزالة «الغالبية العظمى» من بين 1.9 مليون محتوى متطرف، بينما تم وضع علامات تحذير على نسبة صغيرة من هذه المحتويات، لأنه يتم تبادلها من أجل أغراض معلوماتية أو أغراض مكافحة التطرف. ذهبت «فيسبوك» إلى أنها تعرّف الإرهاب على أنه أي منظمة غير حكومية تشارك في أعمال عنف متعهّدة ضد أشخاص أو ممتلكات لترهيب مدنيين أو حكومة أو منظمة دولية من أجل تحقيق هدف سياسي أو ديني أو آيديولوجي. وأشارت إلى أن هذا التعريف «محايد آيديولوجياً»، إذ يشمل جماعات مختلفة مثل الجماعات المتطرفة دينياً، والجماعات العنصرية البيضاء، وغلاة المدافعين عن البيئة.
والمعروف أن «فيسبوك» تستخدم حالياً برنامجاً آلياً، مثل مطابقة الصور، للكشف عن بعض المواد المتعلقة بالتطرف.
غير أن قائلاً يقول: «هل ستكون معركة المجتمع المدني والقيادات السياسية التنويرية حول العالم سهلة ويسيرة في إجبار الشركات المعلوماتية الهائلة على ترتيب أوراقها، ومحاربة التطرف من دون تذرع الأخيرة بإشكالية حرية الرأي والتعبير»؟
عدة ملاحظات ينبغي أخذها بعين الاعتبار في هذا الإطار، وأولها أن المادة الخام الأكثر نفعاً في القرن الحادي والعشرين، لم تعد الذهب ولا الفضة، وبالقدر نفسه ليست هي النفط أو الغاز، وإنما المعلومات، تلك المادة التي ستدير شؤون الكون، ومن يتحكم فيها سيقدر له توجيه دفة البشرية يميناً أو يساراً كيفما يشاء.
في هذا النطاق هناك مخاوف من المحاججة بأن استباق التوقعات يتعارض مع حرية الرأي والتعبير، وهي حقوق مقدسة لدى الغرب لا يمكن التنازل عنها، وبات الجميع وكأن المعركة الآن، التي احتدمت في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، تشتعل من جديد «أيّهما يجب أن يتقدم على الآخر؛ الأمن على الحرية الشخصية أم الأخيرة على الأول»؟
هنا يكاد المشهد ينحو النحو نفسه؛ هل تبقى صفحات «فيسبوك» و«تويتر» وغيرها فضاء مستباحاً لأي صحاب دعوة، حتى وإن كانت إرهابية؟ أم قطع الطريق عليه استباقيّاً، وإن كان هذا يتطلب جهداً كبيراً جداً، وبلا شك تكاليف مالية مرهقة، تُختصم من الأرباح الهائلة التي توفرها الشركة لحملة أسهمها؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن هناك بالفعل إجراءات على الأرض جرت وتجري؛ فعلى سبيل المثال، وفي الأسبوع الأول من يونيو (حزيران) الحالي، قالت شركة «فيسبوك» إنها ستجعل من منصتها «بيئة معادية للإرهابيين، وإنه لا يوجد مكان للمحتوى المتطرّف على موقعها»، مضيفة أنها أوقفت في النصف الثاني من العام الماضي نحو 400 ألف حساب، كما أعلنت عن تشديد القيود على خدمة البث المباشر، لمنع التشارك الواسع لتسجيلات عنيفة.
وسيتم تطبيق سياسة «ضربة واحدة» في خدمة «فيسبوك لايف» على مجموعة أوسع من المخالفات، وسيُمنع الذي ينتهكون سياسات خطيرة من استخدام هذه الخاصية بعد مخالفة واحدة، وستتضمن تلك المخالفات تشارك رابط، إلى بيان جماعة إرهابية، من دون كلام.
أفضل ما توقفت عنده رئيسة وزراء نيوزيلندا أرديرن، في دفاعها عن «نداء كرايستشيرش» ذاك الذي لا يتقاطع مع «التشارع»، أو يتنازع مع حرية التعبير الشخصية، قولها إنها تستخدم «فيسبوك» و«إنستغرام» وأحياناً «تويتر»، ولا أحد ينكر قوتها وأهميتها، فهي الوسائل ذاتها التي استخدمها تلاميذ المدارس الذين فقدوا زملاء لهم في الهجوم لتنظيم تجمعات في المتنزهات العامة بـ«كرايستشيرش» المكلومة عينها؛ فوسائل التواصل الاجتماعي تربط الناس، ويجب التأكد من أن حرية التعبير مصونة، في الوقت الذي نقوم فيه بمنع استخدام المنابر الاجتماعية لإيذاء الآخرين، وهذا الحق لا يشمل حق نشر جريمة جماعية.
وأضحت مواجهة خطابات الكراهية مطلباً أممياً وأميركياً أيضاً، بعد أن بدا أن الإنترنت أصبح منطقة ينعدم فيها القانون وخارجة عن السيطرة رغم توفر تقنية التعرف بسرعة على أي محتوى عن التطرف وإزالته، غير أن شركات التكنولوجيا أخفقت في تطبيق هذه التقنية بشفافية وعلى نطاق واسع من تلقاء نفسها، ما يفرض الحاجة إلى تدخل حكومات العالم ليتحمل هؤلاء التنفيذيون مسؤولية أفعالهم. هل ستشهد المنطقة العربية الأيام المقبلة متابعة لإنقاذ العالم من براثن الإرهاب الإنترنتي، إن جاز التعبير؟
هذا بالفعل ما أعلن عنه الرئيس ماكرون، حين أشار إلى أن الأردن سوف يشهد لقاء لمتابعة أعمال «نداء كرايستشيرش»، من أجل القضاء على جميع أشكال العنف والإرهاب والكراهية والتطرف على منصات الإنترنت.
قبل فترة زمنية قال البعض إن «الإنترنت» بجميع فروعه وتفصيلاته هو الوحش الذي تتحدث عنه رؤى الإسكاتولوجيا عند اليمين الغربي أو فرانكشتاين في طبعته الجديدة، التي تسود العالم الآن، وأغلب الظن أن الصراع سوف يبقى محتدماً إلى حين.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».