{نداء كرايستشيرش» الطريق إلى مكافحة التطرف

انهيار «داعش» يعطي دفعة قوية لنشاط الإرهابيين عبر شبكة الإنترنت

شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش  حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)
شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)
TT

{نداء كرايستشيرش» الطريق إلى مكافحة التطرف

شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش  حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)
شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)

تركت مذبحة «كرايستشيرش» في نيوزيلندا التي جرت بها المقادير مؤخراً عدة أسئلة مثيرة للقلق وداعية للبحث والتأمل في وضعية وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وفي المقدمة منها الإنترنت، وهل بات يصنع صيفاً أم شتاء، يلهم العالم طريق الصواب أم يفتح واسعاً دروب الغواية والعماية، يجمع على البر والتقوى، أم يساعد على الإثم والعدوان؟

على أن المذبحة سيئة السمعة سالفة الذكر لم تكن بمفردها السبب الرئيسي وراء إعادة النظر في الدور الذي تقوم به تلك الأدوات العصرانية في الاتصال بين البشر، فقد كان لانهيار تنظيم «داعش» الإرهابي أثر هائل على دفع التطرف والإرهاب عبر شبكة الإنترنت دفعة قوية، ففي غضون فترة زمنية قصيرة، شهدنا تحولاً واضحاً وملحوظاً عند الجماعات الإرهابية؛ فمن فكر القيادة الهيراركية التراتبية، حيث القيادة منوطة بدرجات وشخصيات قادرة على تحمل زمام المبادرة، والقيام بما يلزم، لا سيما التكليفات بالعمليات، إلى نوع آخر من الأداء الإرهابي، حيث تسند المسؤوليات إلى نواة أصغر يتمّ فيها تولي زمام المبادرة من خلال خليط من الجهات الفاعلة الصغيرة غير المنسقة، التي تسعى إلى ملء الفراغ الذي خلّفه تنظيم متراجع، ما الذي تعنيه السطور المتقدمة؟
باختصار غير مخلّ، أضحى الإرهاب والتطرف المعولمان خطراً داهماً حول العالم، سواء كان إرهاباً مؤدلجاً بآيديولوجيات وقناعات سياسية يمينية، أو عنف وتطرف مختبئ في أردية وأثواب دينية وإيمانية.
لم يقتصر الإرهاب على أتباع دين بعينه، فقد نفذ متطرفون بيض هجمات على مسجدين في نيوزيلندا، وضد كنيس شجرة الحياة في بيتسبرغ بأميركا، ولا يزال من غير الواضح الدافع من وراء مذبحة لاس فيغاس، عام 2017، التي نفَّذها شخص واحد، وكانت الأشدَّ فتكاً في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
لعل المشترك الأكبر والأخطر هو نشر الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد كشف محققون، مرات ومرات، عندما بحثوا في خلفيات قتلة من نوعية الذئاب المنفردة، أو تنظيمات إرهابية، عن وجود أوكار أو مواقع إلكترونية، تجمع بين محرضين على الكراهية من الذين ينسجون أوهاماً وأكاذيب تعشعش في عقول شخصيات ضعيفة ومنعزلة. وليس تقليد الجرائم جديداً على عالم الجريمة، ولكن سطوة وسائل الإعلام الاجتماعي هي التي ساعدت في انتشار مثل ذلك الوهم بسرعة هائلة.
وفي مواجهة الخطر الداهم، كان اللقاء الذي شهدته العاصمة الفرنسية باريس بمبادرة خلاقة من رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن، الذي عُرِف بـ«نداء كرايستشيرش» للبحث في طرق مكافحة الإرهاب عبر شبكة المعلومات والتواصل الإنساني الحديث.
جمعت باريس، وبرعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قادة من قارات الأرض الست، عطفاً على أبرز مسؤولي شركات التكنولوجيا، لبحث إطلاق مبادرات جديدة وواعدة تهدف إلى مكافحة التطرف السيبراني، إن جاز التعبير.
وكان ولا يزال القلق الرئيسي لدى كل المشاركين في «نداء كرايستشيرش» متمثلاً في كيفية مطالبة الدول وكبريات الشركات الرقمية بالتحرك ضد الإرهاب والتطرف العنيف على الإنترنت، ومن ثم طلَبِ المشاركين، من ممثلي قادة العالم، ومسؤولي الشركات عابرة القارات، تعهدات لوقف المضمون الإرهابي والعنيف، الذي تحفل به المنصات الإلكترونية. هل أضحت تلك الشركات قولاً وفعلاً مُتهَمة بالترويج للإرهاب والتطرف، وإن بغير قصد أو نية؟
الشاهد أن ذلك كذلك، لا سيما أن «فيسبوك» بنوع خاص قد واجهَتْ انتقادات شديدة بعد التأخر في حذف الفيديو الخاص بمذبحة نيوزيلاندا، الذي انتشر بسرعة على وسائل التواصل، وهو ما أكدته رئيسة الوزراء النيوزيلاندية، حين أشارت إلى أن تلك المأساة أثارت صدمة، لأن الهجوم «أُعِد لكي ينتشر بسرعة»، وذلك في مقابلة لها مع صحيفة «لوموند» الفرنسية، وتابعت قائلة إن «(فيسبوك) التي استخدمت كمنصة لبثه مباشرة حاولت حذف الفيديو، لقد تم حذفه 1. 5 مليون مرة».
نداء «كرايستشيرش» كان السبب وراء السؤال التالي: «كيف نوقف الجريمة المقبلة»؟! وصاحبته هي السيدة أرديرن رئيسة وزراء نيوزيلندا نفسها، التي شهد لها العالم بحسن تعاطيها السياسي والدبلوماسي والإعلامي مع الإشكالية المؤلمة.
انطلقت أرديرن من عند الهجوم الذي جرى في بلادها، والذي كان يهدف في الأصل إلى بث موجة من الرعب لكي تنتشر حول العالم، وتنشر فظائعها على الإنترنت.
واستمر البث المباشر للحادث الإرهابي مدة 16 دقيقة و55 ثانية، وشاهد اللقطات الأصلية نحو 4000 متابع قبل أن تُحذف، وتم نسخها خلال 24 ساعة، وتم تحميلها مليوناً ونصف المليون مرة، قبل أن تُحذف من «فيسبوك». كان مستوى الفيديو مرعباً ومذهلاً، وقد رآه كثير من الناس على محركهم الآلي، دونما معرفة بماهيته، وبات السؤال: كيف يُسمَح بتداول شيء شائن كهذا؟
المقطوع به أنه يمكن تحديد المدى الذي وصل إليه هذا الفعل الإرهابي على الإنترنت وتلك هي الحادثة، لكننا لا نستطيع بحال من الأحوال قياس تأثيراته المستقبلية على الذين شاهدوه؛ فمنهم (على حد تعبير السيدة أردرين) مَن اتصلوا بخطوط الهاتف المتخصصة بالمساعدة النفسية، وربما هناك من نظروا إلى المشهد لتقليده مستقبلاً، ولإحداث أكبر أثر، ولو سلبيّاً، وسط الجماهير العريضة حول الأرض كلها.
وسط فعاليات «نداء كرايستشيرش» باتت «فيسبوك» بنوع خاص في دائرة الاتهام، لا سيما أن هناك ما يُعرف بـ«الصفحات الخلفية» أو «السوداء» حيث عوالم الجريمة المنظمة، سواء المتعلقة منها بالاتجار في الأسلحة أو المخدرات، وربما تهريب البشر، والعلاقة العضوية بين هؤلاء والإرهاب وعالمه وثيقة ولصيقة الصلة.
وفي أواخر أبريل (نيسان) الماضي، وقبل «نداء كرايستشيرش»، قالت «فيسبوك» في منشور على مدونة للشركة إنه تمت إزالة «الغالبية العظمى» من بين 1.9 مليون محتوى متطرف، بينما تم وضع علامات تحذير على نسبة صغيرة من هذه المحتويات، لأنه يتم تبادلها من أجل أغراض معلوماتية أو أغراض مكافحة التطرف. ذهبت «فيسبوك» إلى أنها تعرّف الإرهاب على أنه أي منظمة غير حكومية تشارك في أعمال عنف متعهّدة ضد أشخاص أو ممتلكات لترهيب مدنيين أو حكومة أو منظمة دولية من أجل تحقيق هدف سياسي أو ديني أو آيديولوجي. وأشارت إلى أن هذا التعريف «محايد آيديولوجياً»، إذ يشمل جماعات مختلفة مثل الجماعات المتطرفة دينياً، والجماعات العنصرية البيضاء، وغلاة المدافعين عن البيئة.
والمعروف أن «فيسبوك» تستخدم حالياً برنامجاً آلياً، مثل مطابقة الصور، للكشف عن بعض المواد المتعلقة بالتطرف.
غير أن قائلاً يقول: «هل ستكون معركة المجتمع المدني والقيادات السياسية التنويرية حول العالم سهلة ويسيرة في إجبار الشركات المعلوماتية الهائلة على ترتيب أوراقها، ومحاربة التطرف من دون تذرع الأخيرة بإشكالية حرية الرأي والتعبير»؟
عدة ملاحظات ينبغي أخذها بعين الاعتبار في هذا الإطار، وأولها أن المادة الخام الأكثر نفعاً في القرن الحادي والعشرين، لم تعد الذهب ولا الفضة، وبالقدر نفسه ليست هي النفط أو الغاز، وإنما المعلومات، تلك المادة التي ستدير شؤون الكون، ومن يتحكم فيها سيقدر له توجيه دفة البشرية يميناً أو يساراً كيفما يشاء.
في هذا النطاق هناك مخاوف من المحاججة بأن استباق التوقعات يتعارض مع حرية الرأي والتعبير، وهي حقوق مقدسة لدى الغرب لا يمكن التنازل عنها، وبات الجميع وكأن المعركة الآن، التي احتدمت في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، تشتعل من جديد «أيّهما يجب أن يتقدم على الآخر؛ الأمن على الحرية الشخصية أم الأخيرة على الأول»؟
هنا يكاد المشهد ينحو النحو نفسه؛ هل تبقى صفحات «فيسبوك» و«تويتر» وغيرها فضاء مستباحاً لأي صحاب دعوة، حتى وإن كانت إرهابية؟ أم قطع الطريق عليه استباقيّاً، وإن كان هذا يتطلب جهداً كبيراً جداً، وبلا شك تكاليف مالية مرهقة، تُختصم من الأرباح الهائلة التي توفرها الشركة لحملة أسهمها؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن هناك بالفعل إجراءات على الأرض جرت وتجري؛ فعلى سبيل المثال، وفي الأسبوع الأول من يونيو (حزيران) الحالي، قالت شركة «فيسبوك» إنها ستجعل من منصتها «بيئة معادية للإرهابيين، وإنه لا يوجد مكان للمحتوى المتطرّف على موقعها»، مضيفة أنها أوقفت في النصف الثاني من العام الماضي نحو 400 ألف حساب، كما أعلنت عن تشديد القيود على خدمة البث المباشر، لمنع التشارك الواسع لتسجيلات عنيفة.
وسيتم تطبيق سياسة «ضربة واحدة» في خدمة «فيسبوك لايف» على مجموعة أوسع من المخالفات، وسيُمنع الذي ينتهكون سياسات خطيرة من استخدام هذه الخاصية بعد مخالفة واحدة، وستتضمن تلك المخالفات تشارك رابط، إلى بيان جماعة إرهابية، من دون كلام.
أفضل ما توقفت عنده رئيسة وزراء نيوزيلندا أرديرن، في دفاعها عن «نداء كرايستشيرش» ذاك الذي لا يتقاطع مع «التشارع»، أو يتنازع مع حرية التعبير الشخصية، قولها إنها تستخدم «فيسبوك» و«إنستغرام» وأحياناً «تويتر»، ولا أحد ينكر قوتها وأهميتها، فهي الوسائل ذاتها التي استخدمها تلاميذ المدارس الذين فقدوا زملاء لهم في الهجوم لتنظيم تجمعات في المتنزهات العامة بـ«كرايستشيرش» المكلومة عينها؛ فوسائل التواصل الاجتماعي تربط الناس، ويجب التأكد من أن حرية التعبير مصونة، في الوقت الذي نقوم فيه بمنع استخدام المنابر الاجتماعية لإيذاء الآخرين، وهذا الحق لا يشمل حق نشر جريمة جماعية.
وأضحت مواجهة خطابات الكراهية مطلباً أممياً وأميركياً أيضاً، بعد أن بدا أن الإنترنت أصبح منطقة ينعدم فيها القانون وخارجة عن السيطرة رغم توفر تقنية التعرف بسرعة على أي محتوى عن التطرف وإزالته، غير أن شركات التكنولوجيا أخفقت في تطبيق هذه التقنية بشفافية وعلى نطاق واسع من تلقاء نفسها، ما يفرض الحاجة إلى تدخل حكومات العالم ليتحمل هؤلاء التنفيذيون مسؤولية أفعالهم. هل ستشهد المنطقة العربية الأيام المقبلة متابعة لإنقاذ العالم من براثن الإرهاب الإنترنتي، إن جاز التعبير؟
هذا بالفعل ما أعلن عنه الرئيس ماكرون، حين أشار إلى أن الأردن سوف يشهد لقاء لمتابعة أعمال «نداء كرايستشيرش»، من أجل القضاء على جميع أشكال العنف والإرهاب والكراهية والتطرف على منصات الإنترنت.
قبل فترة زمنية قال البعض إن «الإنترنت» بجميع فروعه وتفصيلاته هو الوحش الذي تتحدث عنه رؤى الإسكاتولوجيا عند اليمين الغربي أو فرانكشتاين في طبعته الجديدة، التي تسود العالم الآن، وأغلب الظن أن الصراع سوف يبقى محتدماً إلى حين.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».