{نداء كرايستشيرش» الطريق إلى مكافحة التطرف

انهيار «داعش» يعطي دفعة قوية لنشاط الإرهابيين عبر شبكة الإنترنت

شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش  حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)
شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)
TT

{نداء كرايستشيرش» الطريق إلى مكافحة التطرف

شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش  حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)
شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)

تركت مذبحة «كرايستشيرش» في نيوزيلندا التي جرت بها المقادير مؤخراً عدة أسئلة مثيرة للقلق وداعية للبحث والتأمل في وضعية وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وفي المقدمة منها الإنترنت، وهل بات يصنع صيفاً أم شتاء، يلهم العالم طريق الصواب أم يفتح واسعاً دروب الغواية والعماية، يجمع على البر والتقوى، أم يساعد على الإثم والعدوان؟

على أن المذبحة سيئة السمعة سالفة الذكر لم تكن بمفردها السبب الرئيسي وراء إعادة النظر في الدور الذي تقوم به تلك الأدوات العصرانية في الاتصال بين البشر، فقد كان لانهيار تنظيم «داعش» الإرهابي أثر هائل على دفع التطرف والإرهاب عبر شبكة الإنترنت دفعة قوية، ففي غضون فترة زمنية قصيرة، شهدنا تحولاً واضحاً وملحوظاً عند الجماعات الإرهابية؛ فمن فكر القيادة الهيراركية التراتبية، حيث القيادة منوطة بدرجات وشخصيات قادرة على تحمل زمام المبادرة، والقيام بما يلزم، لا سيما التكليفات بالعمليات، إلى نوع آخر من الأداء الإرهابي، حيث تسند المسؤوليات إلى نواة أصغر يتمّ فيها تولي زمام المبادرة من خلال خليط من الجهات الفاعلة الصغيرة غير المنسقة، التي تسعى إلى ملء الفراغ الذي خلّفه تنظيم متراجع، ما الذي تعنيه السطور المتقدمة؟
باختصار غير مخلّ، أضحى الإرهاب والتطرف المعولمان خطراً داهماً حول العالم، سواء كان إرهاباً مؤدلجاً بآيديولوجيات وقناعات سياسية يمينية، أو عنف وتطرف مختبئ في أردية وأثواب دينية وإيمانية.
لم يقتصر الإرهاب على أتباع دين بعينه، فقد نفذ متطرفون بيض هجمات على مسجدين في نيوزيلندا، وضد كنيس شجرة الحياة في بيتسبرغ بأميركا، ولا يزال من غير الواضح الدافع من وراء مذبحة لاس فيغاس، عام 2017، التي نفَّذها شخص واحد، وكانت الأشدَّ فتكاً في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
لعل المشترك الأكبر والأخطر هو نشر الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد كشف محققون، مرات ومرات، عندما بحثوا في خلفيات قتلة من نوعية الذئاب المنفردة، أو تنظيمات إرهابية، عن وجود أوكار أو مواقع إلكترونية، تجمع بين محرضين على الكراهية من الذين ينسجون أوهاماً وأكاذيب تعشعش في عقول شخصيات ضعيفة ومنعزلة. وليس تقليد الجرائم جديداً على عالم الجريمة، ولكن سطوة وسائل الإعلام الاجتماعي هي التي ساعدت في انتشار مثل ذلك الوهم بسرعة هائلة.
وفي مواجهة الخطر الداهم، كان اللقاء الذي شهدته العاصمة الفرنسية باريس بمبادرة خلاقة من رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن، الذي عُرِف بـ«نداء كرايستشيرش» للبحث في طرق مكافحة الإرهاب عبر شبكة المعلومات والتواصل الإنساني الحديث.
جمعت باريس، وبرعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قادة من قارات الأرض الست، عطفاً على أبرز مسؤولي شركات التكنولوجيا، لبحث إطلاق مبادرات جديدة وواعدة تهدف إلى مكافحة التطرف السيبراني، إن جاز التعبير.
وكان ولا يزال القلق الرئيسي لدى كل المشاركين في «نداء كرايستشيرش» متمثلاً في كيفية مطالبة الدول وكبريات الشركات الرقمية بالتحرك ضد الإرهاب والتطرف العنيف على الإنترنت، ومن ثم طلَبِ المشاركين، من ممثلي قادة العالم، ومسؤولي الشركات عابرة القارات، تعهدات لوقف المضمون الإرهابي والعنيف، الذي تحفل به المنصات الإلكترونية. هل أضحت تلك الشركات قولاً وفعلاً مُتهَمة بالترويج للإرهاب والتطرف، وإن بغير قصد أو نية؟
الشاهد أن ذلك كذلك، لا سيما أن «فيسبوك» بنوع خاص قد واجهَتْ انتقادات شديدة بعد التأخر في حذف الفيديو الخاص بمذبحة نيوزيلاندا، الذي انتشر بسرعة على وسائل التواصل، وهو ما أكدته رئيسة الوزراء النيوزيلاندية، حين أشارت إلى أن تلك المأساة أثارت صدمة، لأن الهجوم «أُعِد لكي ينتشر بسرعة»، وذلك في مقابلة لها مع صحيفة «لوموند» الفرنسية، وتابعت قائلة إن «(فيسبوك) التي استخدمت كمنصة لبثه مباشرة حاولت حذف الفيديو، لقد تم حذفه 1. 5 مليون مرة».
نداء «كرايستشيرش» كان السبب وراء السؤال التالي: «كيف نوقف الجريمة المقبلة»؟! وصاحبته هي السيدة أرديرن رئيسة وزراء نيوزيلندا نفسها، التي شهد لها العالم بحسن تعاطيها السياسي والدبلوماسي والإعلامي مع الإشكالية المؤلمة.
انطلقت أرديرن من عند الهجوم الذي جرى في بلادها، والذي كان يهدف في الأصل إلى بث موجة من الرعب لكي تنتشر حول العالم، وتنشر فظائعها على الإنترنت.
واستمر البث المباشر للحادث الإرهابي مدة 16 دقيقة و55 ثانية، وشاهد اللقطات الأصلية نحو 4000 متابع قبل أن تُحذف، وتم نسخها خلال 24 ساعة، وتم تحميلها مليوناً ونصف المليون مرة، قبل أن تُحذف من «فيسبوك». كان مستوى الفيديو مرعباً ومذهلاً، وقد رآه كثير من الناس على محركهم الآلي، دونما معرفة بماهيته، وبات السؤال: كيف يُسمَح بتداول شيء شائن كهذا؟
المقطوع به أنه يمكن تحديد المدى الذي وصل إليه هذا الفعل الإرهابي على الإنترنت وتلك هي الحادثة، لكننا لا نستطيع بحال من الأحوال قياس تأثيراته المستقبلية على الذين شاهدوه؛ فمنهم (على حد تعبير السيدة أردرين) مَن اتصلوا بخطوط الهاتف المتخصصة بالمساعدة النفسية، وربما هناك من نظروا إلى المشهد لتقليده مستقبلاً، ولإحداث أكبر أثر، ولو سلبيّاً، وسط الجماهير العريضة حول الأرض كلها.
وسط فعاليات «نداء كرايستشيرش» باتت «فيسبوك» بنوع خاص في دائرة الاتهام، لا سيما أن هناك ما يُعرف بـ«الصفحات الخلفية» أو «السوداء» حيث عوالم الجريمة المنظمة، سواء المتعلقة منها بالاتجار في الأسلحة أو المخدرات، وربما تهريب البشر، والعلاقة العضوية بين هؤلاء والإرهاب وعالمه وثيقة ولصيقة الصلة.
وفي أواخر أبريل (نيسان) الماضي، وقبل «نداء كرايستشيرش»، قالت «فيسبوك» في منشور على مدونة للشركة إنه تمت إزالة «الغالبية العظمى» من بين 1.9 مليون محتوى متطرف، بينما تم وضع علامات تحذير على نسبة صغيرة من هذه المحتويات، لأنه يتم تبادلها من أجل أغراض معلوماتية أو أغراض مكافحة التطرف. ذهبت «فيسبوك» إلى أنها تعرّف الإرهاب على أنه أي منظمة غير حكومية تشارك في أعمال عنف متعهّدة ضد أشخاص أو ممتلكات لترهيب مدنيين أو حكومة أو منظمة دولية من أجل تحقيق هدف سياسي أو ديني أو آيديولوجي. وأشارت إلى أن هذا التعريف «محايد آيديولوجياً»، إذ يشمل جماعات مختلفة مثل الجماعات المتطرفة دينياً، والجماعات العنصرية البيضاء، وغلاة المدافعين عن البيئة.
والمعروف أن «فيسبوك» تستخدم حالياً برنامجاً آلياً، مثل مطابقة الصور، للكشف عن بعض المواد المتعلقة بالتطرف.
غير أن قائلاً يقول: «هل ستكون معركة المجتمع المدني والقيادات السياسية التنويرية حول العالم سهلة ويسيرة في إجبار الشركات المعلوماتية الهائلة على ترتيب أوراقها، ومحاربة التطرف من دون تذرع الأخيرة بإشكالية حرية الرأي والتعبير»؟
عدة ملاحظات ينبغي أخذها بعين الاعتبار في هذا الإطار، وأولها أن المادة الخام الأكثر نفعاً في القرن الحادي والعشرين، لم تعد الذهب ولا الفضة، وبالقدر نفسه ليست هي النفط أو الغاز، وإنما المعلومات، تلك المادة التي ستدير شؤون الكون، ومن يتحكم فيها سيقدر له توجيه دفة البشرية يميناً أو يساراً كيفما يشاء.
في هذا النطاق هناك مخاوف من المحاججة بأن استباق التوقعات يتعارض مع حرية الرأي والتعبير، وهي حقوق مقدسة لدى الغرب لا يمكن التنازل عنها، وبات الجميع وكأن المعركة الآن، التي احتدمت في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، تشتعل من جديد «أيّهما يجب أن يتقدم على الآخر؛ الأمن على الحرية الشخصية أم الأخيرة على الأول»؟
هنا يكاد المشهد ينحو النحو نفسه؛ هل تبقى صفحات «فيسبوك» و«تويتر» وغيرها فضاء مستباحاً لأي صحاب دعوة، حتى وإن كانت إرهابية؟ أم قطع الطريق عليه استباقيّاً، وإن كان هذا يتطلب جهداً كبيراً جداً، وبلا شك تكاليف مالية مرهقة، تُختصم من الأرباح الهائلة التي توفرها الشركة لحملة أسهمها؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن هناك بالفعل إجراءات على الأرض جرت وتجري؛ فعلى سبيل المثال، وفي الأسبوع الأول من يونيو (حزيران) الحالي، قالت شركة «فيسبوك» إنها ستجعل من منصتها «بيئة معادية للإرهابيين، وإنه لا يوجد مكان للمحتوى المتطرّف على موقعها»، مضيفة أنها أوقفت في النصف الثاني من العام الماضي نحو 400 ألف حساب، كما أعلنت عن تشديد القيود على خدمة البث المباشر، لمنع التشارك الواسع لتسجيلات عنيفة.
وسيتم تطبيق سياسة «ضربة واحدة» في خدمة «فيسبوك لايف» على مجموعة أوسع من المخالفات، وسيُمنع الذي ينتهكون سياسات خطيرة من استخدام هذه الخاصية بعد مخالفة واحدة، وستتضمن تلك المخالفات تشارك رابط، إلى بيان جماعة إرهابية، من دون كلام.
أفضل ما توقفت عنده رئيسة وزراء نيوزيلندا أرديرن، في دفاعها عن «نداء كرايستشيرش» ذاك الذي لا يتقاطع مع «التشارع»، أو يتنازع مع حرية التعبير الشخصية، قولها إنها تستخدم «فيسبوك» و«إنستغرام» وأحياناً «تويتر»، ولا أحد ينكر قوتها وأهميتها، فهي الوسائل ذاتها التي استخدمها تلاميذ المدارس الذين فقدوا زملاء لهم في الهجوم لتنظيم تجمعات في المتنزهات العامة بـ«كرايستشيرش» المكلومة عينها؛ فوسائل التواصل الاجتماعي تربط الناس، ويجب التأكد من أن حرية التعبير مصونة، في الوقت الذي نقوم فيه بمنع استخدام المنابر الاجتماعية لإيذاء الآخرين، وهذا الحق لا يشمل حق نشر جريمة جماعية.
وأضحت مواجهة خطابات الكراهية مطلباً أممياً وأميركياً أيضاً، بعد أن بدا أن الإنترنت أصبح منطقة ينعدم فيها القانون وخارجة عن السيطرة رغم توفر تقنية التعرف بسرعة على أي محتوى عن التطرف وإزالته، غير أن شركات التكنولوجيا أخفقت في تطبيق هذه التقنية بشفافية وعلى نطاق واسع من تلقاء نفسها، ما يفرض الحاجة إلى تدخل حكومات العالم ليتحمل هؤلاء التنفيذيون مسؤولية أفعالهم. هل ستشهد المنطقة العربية الأيام المقبلة متابعة لإنقاذ العالم من براثن الإرهاب الإنترنتي، إن جاز التعبير؟
هذا بالفعل ما أعلن عنه الرئيس ماكرون، حين أشار إلى أن الأردن سوف يشهد لقاء لمتابعة أعمال «نداء كرايستشيرش»، من أجل القضاء على جميع أشكال العنف والإرهاب والكراهية والتطرف على منصات الإنترنت.
قبل فترة زمنية قال البعض إن «الإنترنت» بجميع فروعه وتفصيلاته هو الوحش الذي تتحدث عنه رؤى الإسكاتولوجيا عند اليمين الغربي أو فرانكشتاين في طبعته الجديدة، التي تسود العالم الآن، وأغلب الظن أن الصراع سوف يبقى محتدماً إلى حين.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.