مقاتلو «داعش» الأوروبيون بين سحب الجنسية والمحكمة الدولية

بعد صدور أحكام الإعدام على 9 فرنسيين من مسلحي التنظيم

نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية  الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)
نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)
TT

مقاتلو «داعش» الأوروبيون بين سحب الجنسية والمحكمة الدولية

نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية  الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)
نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)

عادت مشكلة الأوروبيين الملتحقين بـ«داعش» بين عامي 2014 و2018 إلى واجهة الأحداث، فقد ناقشت وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلوبيه بداية الشهر الجاري مقترحاً، مع بلدان أوروبية، يقضي بتشكيل محكمة دولية لمحاكمة الإرهابيين الأجانب في تنظيم «داعش».
وأشارت وزيرة العدل الفرنسية بيلوبيه لوسائل الإعلام إلى أن هذا المقترح طُرح على المستوى الأوروبي مع وزراء الداخلية والعدل «بمجموعة فندوم» التي تضم وزراء العدل الألماني والإسباني والإيطالي. ورغم أن هذا التحرك الفرنسي يأتي بعد صدور أحكام الإعدام على 9 من مقاتلي «داعش» الفرنسيين، فإن بعض التقديرات الدولية تشير إلى أن نحو ألف رجل وامرأة، وكثير من الأطفال، محتجزون من طرف القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة في سوريا والعراق.
وتحاول الولايات المتحدة منذ بداية سنة 2019 ممارسة مزيد من الضغط على الأوروبيين لاسترجاع المقاتلين السابقين في صفوف «داعش»؛ هذا الضغط الذي بدأه الرئيس ترمب بتغريدتين في فبراير (شباط) 2019 على حلفائه الأوروبيين، لتقديم هؤلاء المحتجزين للمحاكمة في بلدانهم الأصلية، حيث أكد أنه يتعين على فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، وغيرها، أن تعيد 800 رجل من أوروبا من بين المقاتلين المحتجزين. وحذر الرئيس الأميركي ترمب من أنه قد يُطلق سراح «الدواعش» بالعراق، ومن المحتمل أن يعودوا إلى أوروبا لارتكاب جرائم جديدة. ويبدو أن هذا الطلب الأميركي أثار قضية عصية لحد الآن على العلاج أوروبياً، حيث لا يزال الاختلاف بشأن مكان المحاكمة، والصعوبات القانونية المرافقة له، من دون حل.
وإن كانت الدول الأوروبية عملياً قد تركت للقوات الكردية بالعراق مهمة إدارة هذه الأزمة حالياً، فإن الأوروبيين ينتقدون سياسة البيت الأبيض بخصوص محاكمة «الدواعش» الأوروبيين في بلدانهم الأصلية، مشيرين إلى معارضة الرئيس ترمب إعادة الأميركية بصفوف «داعش» هدى مثنى، البالغة من العمر 24 عاماً، التي سافرت إلى سوريا عام 2014، وألغت إدارة أوباما جواز سفرها سنة 2016.
وفي السياق الأوروبي، كانت الحكومة السويدية قد اقترحت منذ الأشهر الأولى من سنة 2019 إنشاء محكمة دولية مخصصة لمقاتلي «داعش». ويبدو أن انضمام فرنسا للمقترح يأتي في سياق البحث عن حل لمشكلة أوروبية لها طابع قانوني وإنساني صعب. فعملية إنشاء المحكمة الدولية تواجه بصعوبات جمة، لا تتعلق فقط بمكان المحكمة، بل تتعداه لاختصاصاتها، والكيفية التي ستتعامل بها المحكمة مع آلاف من المقاتلين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية. وفي هذا الإطار، يُنظر إلى تجربة المحاكم المماثلة في روندا ويوغوسلافيا السابقة على أنها مكلفة وذات مردود ضعيف. ويمتد التباين والاختلاف بين الأوروبيين ليصل المقاربة الإنسانية، فقد قامت السويد مؤخراً بإعادة الأطفال اليتامى السبعة لمقاتلي «داعش» في 7 مايو (أيار) 2019. وجاء هذا القرار بعد ضغط من أجداد الأطفال، وبعض الجمعيات المدنية والحقوقية السويدية، مما دفع وزيرة الخارجية السويدية مارغوت فالستروم، في 13 أبريل (نيسان) 2019، لفتح باب إمكانية استعادة الأطفال. واعتبرت فالستروم أن «السلطات وبلديات السويد يمكنها التعاون مع المنظمات الدولية لاستقبال الأطفال، فالوضع في المعسكر صعب جداً، ومن المهم أن تكون هناك جهود إنسانية، وبلدنا على تواصل حالياً مع مجموعة دول الشمال للقيام بعمل مشترك»، وأضافت أن «القلب يعتصر لرؤية الأطفال يعانون، ونحن لا نؤمن بأن الخطيئة يمكن أن تورث».
من جهتها، خططت فرنسا في البداية لإعادة نحو 150 طفلاً من أسر مقاتلي «داعش» الفرنسيين من سوريا والعراق، لكن الحكومة تراجعت؛ وفسر ذلك بخوفها من رد الفعل الشعبي الرافض لهذه العملية. ومن جهتها، اعتبرت الحكومة الدانماركية مقاتليها وأسرهم من «داعش» ممن «أداروا ظهورهم للدانمارك». وكانت صحيفة «ديفينس بوست»، الأميركية المتخصصة في الأخبار العسكرية، قد أشارت في 13 مايو 2019 إلى أن دول القوقاز وألمانيا والسويد هي أهم الدول التي تعيد أطفالها من «داعش» بمعسكرات في سوريا والعراق.

بداية القضية
وتعود أصول هذه الإشكالية بالخصوص لبداية سنة 2014 وما بعدها، حيث شكل استقطاب آلاف المقاتلين الأجانب واحداً من مصادر توحش وقوة تنظيم أبي بكر البغدادي. وفي ذلك الوقت، ظهر تقليد غريب في وسط الإرهابيين، حيث انتشرت الأشرطة المصورة لحرق جوازات السفر الأصلية من المقاتلين الأجانب، خصوصاً الأوروبيين الملتحقين بدولة «داعش».
ومع توالي هزائم «داعش»، واندحاره النهائي بداية 2019، ظهرت للسطح مشكلة الأطفال من دون جنسية، والعالقين بمخيم يضم 76 ألف لاجئ بالعراق. كما برزت على المستوى الدولي إشكالية استعادة المقاتلين، ورفض دولهم لهم، مع اتخاذ تدابير عملية لعرقلة أي ترحيل محتمل لدولهم الأصلية. وفي هذا السياق، أشارت مجلة الشؤون الخارجية الأميركية (تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية)، في المقال المنشور بتاريخ 6 يونيو (حزيران) الجاري، للكاتب جيتيت كلاوسن، بعنوان «انضمام آلاف الغربيين إلى (داعش)... هل يجب السماح لهم بالعودة؟»، إلى تجربة البريطانية شميمة بيغوم التي انتقلت سنة 2015 في عمر 15 عاماً، حيث هربت بيغوم وصديقان لها من المدرسة من المنزل في شرق لندن، وتوجهوا إلى إسطنبول، ومن هناك استقلوا حافلة إلى الحدود السورية، ووصلوا في النهاية إلى الرقة، حيث انضموا إلى «داعش».
وبمجرد وصول شميمة لعاصمة «داعش»، انخرطت في سلك «العرائس الجهاديات» اللائي يتم إعدادهن من قبل المجندين عبر الإنترنت للزواج من المقاتلين المتشددين في سوريا.
وفي مقابلة أجرتها معها «التايمز» في فبراير (شباط) الماضي، كشفت شيماء بيغوم عن صورة مختلفة لم تكن معروفة عنها. فبعد أن تعقبها صحافي في معسكر للأمم المتحدة مترامي الأطراف للمشردين داخلياً في شرق سوريا، أوضحت بيغوم أنها هربت إلى «داعش» بحثاً عن «عائلة مثالية»، وأنها لم تندم على شيء، وقالت إن رؤية رأس مقطوعة في سلة مهملات يمكن أن «لا تثير غضبها». وفي مقابلة لاحقة مع «هيئة الإذاعة البريطانية»، أشارت إلى أن تفجير مانشستر 2017 كان «نوعاً من الانتقام» لهجمات الغرب على «داعش».
وأنجبت بيغوم وزوجها الداعشي الهولندي ياجو ريدجيك 3 أطفال ماتوا جميعاً، بينما الزوج البالغ من العمر الآن 27 عاماً محتجز في معسكر اعتقال كردي في شمال سوريا، وقد أبدى رغبته في العودة إلى هولندا مع شيماء.
ومن جهتها، أدانت الحكومة الهولندية ريدجيك غيابياً بالانضمام إلى منظمة إرهابية، وهو على لائحة المشتبه فيهم بخصوص عملية إرهابية تهم مدينته في 2018. كما اعتبرت الحكومة زواجه من بيغوم غير قانوني، فلا يحق لهما لم شمل الأسرة في هولندا، أو في أي مكان آخر.

صعوبات قانونية
وبالعودة للزاوية القانونية، تجد الحكومات الأوروبية صعوبة بالغة في معالجة هذه الإشكالية؛ ذلك أن محاكمة «الدواعش» الأوروبيين له جوانب متشعبة، بعضها قانوني والآخر سياسي وأمني. ومن ذلك أن بعض الدول الأوروبية لا تعتبر السفر إلى الخارج للانضمام إلى النزاع المسلح في سوريا وشمال أفريقيا عملاً إجرامياً دائماً، ولم تجرِم السويد مثلاً هذا السفر إلا في عام 2016، مما يعني أنه لا يمكن توجيه الاتهام لأي مقيم سويدي سافر قبل ذلك إلا لجرائم محددة ارتكبت في منطقة النزاع.
من جانب آخر، لا تسمح معظم الدول الأوروبية بالاحتجاز قبل المحاكمة لأكثر من يومين إلى 14 يوماً، وقد ثبت أنه من الصعب مراقبة أعداد كبيرة من المشتبه بهم لفترات طويلة، مع ما يطرحه ذلك من تكلفة مالية باهظة.
ومن جهة أخرى، تتخوف الحكومات الأوروبية من انتقال التطرف إلى سجونها، إذا ما قبلت بعودة المئات من مقاتلي «داعش»، وتمكنت من الزج بهم في السجون الأوروبية.
وعليه، تعمل الحكومات الأوروبية، بقيادة السويد وفرنسا، لاستحداث محكمة دولية تبعد خطر المقاتلين من الجغرافية الأوروبية، وفي الوقت نفسه تضمن ملاحقة قضائية تتوافق والمعايير الدولية للمحاكمة العادلة. وفي هذا الإطار، قال متحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني تيريزا ماي: «يجب تقديم المقاتلين الأجانب إلى العدالة، وفقاً للإجراءات القانونية الواجبة في الولاية القضائية الأكثر ملاءمة». أما وزارة الخارجية الألمانية، فقالت إن إعادة المحتجزين من «الدواعش» إلى الوطن «صعبة للغاية».
ويبدو أن المسعى الفرنسي السويدي القاضي باستحداث محكمة دولية ليس بالأمر السهل. فمن جهة يحظر القانون الأوروبي تسليم المشتبه فيهم للمحاكمة في بلدان قد يواجهون فيها عقوبة الإعدام، أو يتعرضون لظروف غير إنسانية في السجن، ومن جهة ثانية ظهر من تقارير أعدها صحافيون غربيون حضروا المحاكمات الأخيرة ببغداد أن القضاء العراقي معيب، حيث سجل الصحافيون أن بعض المحاكمات استمرت لمدة 10 دقائق فقط، كما يتم إعدام الرجال والنساء المحكوم عليهم بالإعدام على الفور! وشملت هذه الأحكام أكثر من 3 بلجيكيين و11 مواطناً فرنسياً على الأقل، إلى حدود نهاية شهر مايو 2019. وقد أبلغت وزارة الخارجية الفرنسية السلطات العراقية رفضها تنفيذ عقوبة الإعدام على مواطنيها، لكن فرنسا ظلت على رأيها الرافض لمحاكمة مواطنيها المقاتلين بـ«داعش» على أراضيها.
ويبدو أن تعقد الإشكالية دفع بعض الحكومات الأوروبية للبحث عن الحل السهل. فقد أشارت جريدة «الإندبندنت» في مايو (أيار) الماضي إلى أنه تم تجريد ما لا يقل عن 150 مواطناً بريطانياً من جنسيتهم منذ عام 2010، وهو النهج نفسه الذي تبنته كل من أستراليا وبلجيكا والدانمارك والولايات المتحدة، حيث ألغت كل هذه الدول جنسية مواطنيها الملتحقين بـ«داعش»، فيما تناقش دول أخرى (منها سويسرا والنمسا وألمانيا) سن قوانين تسمح لها بذلك، أو البحث عن حلول بديلة.
ومن المؤكد أن سحب الجنسية يواجه بعض الصعوبات القضائية والحقوقية، حيث ألغت بعض المحاكم الأوروبية سحب جنسية الأشخاص المدانين بارتكاب جرائم خطيرة مثل الإرهاب، خصوصا الذين لا يحملون جنسية مزدوجة.
ومن ذلك ما حدث أواخر عام 2018، حيث قام قاضٍ بريطاني بمنع قرار الحكومة تجريد اثنين من المتطرفين من جوازات سفرهما، وأكد أنهما لا يتمتعان بجنسية بديلة صالحة.
ويبدو أنه لا وجود لحل عاجل لمن تبقى على قيد الحياة من نحو 1200 مقاتل أوروبي في صفوف «داعش»؛ ذلك أن القوانين الأوروبية وشرعة حقوق الإنسان الدولية لا تؤيد حل سحب الجنسية، كما أن الوصول إلى اقتراح إقامة محكمة دولية يواجه مشكلات قانونية متشابكة قد تعصف به، ليترك مقاتلو «داعش» الأوروبيون وأسرهم يواجهون مصيرهم المحتوم بالعراق وسوريا.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».