مقاتلو «داعش» الأوروبيون بين سحب الجنسية والمحكمة الدولية

بعد صدور أحكام الإعدام على 9 فرنسيين من مسلحي التنظيم

نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية  الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)
نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)
TT

مقاتلو «داعش» الأوروبيون بين سحب الجنسية والمحكمة الدولية

نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية  الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)
نساء يتحدثن إلى الحراس عند بوابة مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية الذي يحتجز فيه عدد كبير من عوائل «الدواعش» الأجانب (أ.ب)

عادت مشكلة الأوروبيين الملتحقين بـ«داعش» بين عامي 2014 و2018 إلى واجهة الأحداث، فقد ناقشت وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلوبيه بداية الشهر الجاري مقترحاً، مع بلدان أوروبية، يقضي بتشكيل محكمة دولية لمحاكمة الإرهابيين الأجانب في تنظيم «داعش».
وأشارت وزيرة العدل الفرنسية بيلوبيه لوسائل الإعلام إلى أن هذا المقترح طُرح على المستوى الأوروبي مع وزراء الداخلية والعدل «بمجموعة فندوم» التي تضم وزراء العدل الألماني والإسباني والإيطالي. ورغم أن هذا التحرك الفرنسي يأتي بعد صدور أحكام الإعدام على 9 من مقاتلي «داعش» الفرنسيين، فإن بعض التقديرات الدولية تشير إلى أن نحو ألف رجل وامرأة، وكثير من الأطفال، محتجزون من طرف القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة في سوريا والعراق.
وتحاول الولايات المتحدة منذ بداية سنة 2019 ممارسة مزيد من الضغط على الأوروبيين لاسترجاع المقاتلين السابقين في صفوف «داعش»؛ هذا الضغط الذي بدأه الرئيس ترمب بتغريدتين في فبراير (شباط) 2019 على حلفائه الأوروبيين، لتقديم هؤلاء المحتجزين للمحاكمة في بلدانهم الأصلية، حيث أكد أنه يتعين على فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، وغيرها، أن تعيد 800 رجل من أوروبا من بين المقاتلين المحتجزين. وحذر الرئيس الأميركي ترمب من أنه قد يُطلق سراح «الدواعش» بالعراق، ومن المحتمل أن يعودوا إلى أوروبا لارتكاب جرائم جديدة. ويبدو أن هذا الطلب الأميركي أثار قضية عصية لحد الآن على العلاج أوروبياً، حيث لا يزال الاختلاف بشأن مكان المحاكمة، والصعوبات القانونية المرافقة له، من دون حل.
وإن كانت الدول الأوروبية عملياً قد تركت للقوات الكردية بالعراق مهمة إدارة هذه الأزمة حالياً، فإن الأوروبيين ينتقدون سياسة البيت الأبيض بخصوص محاكمة «الدواعش» الأوروبيين في بلدانهم الأصلية، مشيرين إلى معارضة الرئيس ترمب إعادة الأميركية بصفوف «داعش» هدى مثنى، البالغة من العمر 24 عاماً، التي سافرت إلى سوريا عام 2014، وألغت إدارة أوباما جواز سفرها سنة 2016.
وفي السياق الأوروبي، كانت الحكومة السويدية قد اقترحت منذ الأشهر الأولى من سنة 2019 إنشاء محكمة دولية مخصصة لمقاتلي «داعش». ويبدو أن انضمام فرنسا للمقترح يأتي في سياق البحث عن حل لمشكلة أوروبية لها طابع قانوني وإنساني صعب. فعملية إنشاء المحكمة الدولية تواجه بصعوبات جمة، لا تتعلق فقط بمكان المحكمة، بل تتعداه لاختصاصاتها، والكيفية التي ستتعامل بها المحكمة مع آلاف من المقاتلين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية. وفي هذا الإطار، يُنظر إلى تجربة المحاكم المماثلة في روندا ويوغوسلافيا السابقة على أنها مكلفة وذات مردود ضعيف. ويمتد التباين والاختلاف بين الأوروبيين ليصل المقاربة الإنسانية، فقد قامت السويد مؤخراً بإعادة الأطفال اليتامى السبعة لمقاتلي «داعش» في 7 مايو (أيار) 2019. وجاء هذا القرار بعد ضغط من أجداد الأطفال، وبعض الجمعيات المدنية والحقوقية السويدية، مما دفع وزيرة الخارجية السويدية مارغوت فالستروم، في 13 أبريل (نيسان) 2019، لفتح باب إمكانية استعادة الأطفال. واعتبرت فالستروم أن «السلطات وبلديات السويد يمكنها التعاون مع المنظمات الدولية لاستقبال الأطفال، فالوضع في المعسكر صعب جداً، ومن المهم أن تكون هناك جهود إنسانية، وبلدنا على تواصل حالياً مع مجموعة دول الشمال للقيام بعمل مشترك»، وأضافت أن «القلب يعتصر لرؤية الأطفال يعانون، ونحن لا نؤمن بأن الخطيئة يمكن أن تورث».
من جهتها، خططت فرنسا في البداية لإعادة نحو 150 طفلاً من أسر مقاتلي «داعش» الفرنسيين من سوريا والعراق، لكن الحكومة تراجعت؛ وفسر ذلك بخوفها من رد الفعل الشعبي الرافض لهذه العملية. ومن جهتها، اعتبرت الحكومة الدانماركية مقاتليها وأسرهم من «داعش» ممن «أداروا ظهورهم للدانمارك». وكانت صحيفة «ديفينس بوست»، الأميركية المتخصصة في الأخبار العسكرية، قد أشارت في 13 مايو 2019 إلى أن دول القوقاز وألمانيا والسويد هي أهم الدول التي تعيد أطفالها من «داعش» بمعسكرات في سوريا والعراق.

بداية القضية
وتعود أصول هذه الإشكالية بالخصوص لبداية سنة 2014 وما بعدها، حيث شكل استقطاب آلاف المقاتلين الأجانب واحداً من مصادر توحش وقوة تنظيم أبي بكر البغدادي. وفي ذلك الوقت، ظهر تقليد غريب في وسط الإرهابيين، حيث انتشرت الأشرطة المصورة لحرق جوازات السفر الأصلية من المقاتلين الأجانب، خصوصاً الأوروبيين الملتحقين بدولة «داعش».
ومع توالي هزائم «داعش»، واندحاره النهائي بداية 2019، ظهرت للسطح مشكلة الأطفال من دون جنسية، والعالقين بمخيم يضم 76 ألف لاجئ بالعراق. كما برزت على المستوى الدولي إشكالية استعادة المقاتلين، ورفض دولهم لهم، مع اتخاذ تدابير عملية لعرقلة أي ترحيل محتمل لدولهم الأصلية. وفي هذا السياق، أشارت مجلة الشؤون الخارجية الأميركية (تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية)، في المقال المنشور بتاريخ 6 يونيو (حزيران) الجاري، للكاتب جيتيت كلاوسن، بعنوان «انضمام آلاف الغربيين إلى (داعش)... هل يجب السماح لهم بالعودة؟»، إلى تجربة البريطانية شميمة بيغوم التي انتقلت سنة 2015 في عمر 15 عاماً، حيث هربت بيغوم وصديقان لها من المدرسة من المنزل في شرق لندن، وتوجهوا إلى إسطنبول، ومن هناك استقلوا حافلة إلى الحدود السورية، ووصلوا في النهاية إلى الرقة، حيث انضموا إلى «داعش».
وبمجرد وصول شميمة لعاصمة «داعش»، انخرطت في سلك «العرائس الجهاديات» اللائي يتم إعدادهن من قبل المجندين عبر الإنترنت للزواج من المقاتلين المتشددين في سوريا.
وفي مقابلة أجرتها معها «التايمز» في فبراير (شباط) الماضي، كشفت شيماء بيغوم عن صورة مختلفة لم تكن معروفة عنها. فبعد أن تعقبها صحافي في معسكر للأمم المتحدة مترامي الأطراف للمشردين داخلياً في شرق سوريا، أوضحت بيغوم أنها هربت إلى «داعش» بحثاً عن «عائلة مثالية»، وأنها لم تندم على شيء، وقالت إن رؤية رأس مقطوعة في سلة مهملات يمكن أن «لا تثير غضبها». وفي مقابلة لاحقة مع «هيئة الإذاعة البريطانية»، أشارت إلى أن تفجير مانشستر 2017 كان «نوعاً من الانتقام» لهجمات الغرب على «داعش».
وأنجبت بيغوم وزوجها الداعشي الهولندي ياجو ريدجيك 3 أطفال ماتوا جميعاً، بينما الزوج البالغ من العمر الآن 27 عاماً محتجز في معسكر اعتقال كردي في شمال سوريا، وقد أبدى رغبته في العودة إلى هولندا مع شيماء.
ومن جهتها، أدانت الحكومة الهولندية ريدجيك غيابياً بالانضمام إلى منظمة إرهابية، وهو على لائحة المشتبه فيهم بخصوص عملية إرهابية تهم مدينته في 2018. كما اعتبرت الحكومة زواجه من بيغوم غير قانوني، فلا يحق لهما لم شمل الأسرة في هولندا، أو في أي مكان آخر.

صعوبات قانونية
وبالعودة للزاوية القانونية، تجد الحكومات الأوروبية صعوبة بالغة في معالجة هذه الإشكالية؛ ذلك أن محاكمة «الدواعش» الأوروبيين له جوانب متشعبة، بعضها قانوني والآخر سياسي وأمني. ومن ذلك أن بعض الدول الأوروبية لا تعتبر السفر إلى الخارج للانضمام إلى النزاع المسلح في سوريا وشمال أفريقيا عملاً إجرامياً دائماً، ولم تجرِم السويد مثلاً هذا السفر إلا في عام 2016، مما يعني أنه لا يمكن توجيه الاتهام لأي مقيم سويدي سافر قبل ذلك إلا لجرائم محددة ارتكبت في منطقة النزاع.
من جانب آخر، لا تسمح معظم الدول الأوروبية بالاحتجاز قبل المحاكمة لأكثر من يومين إلى 14 يوماً، وقد ثبت أنه من الصعب مراقبة أعداد كبيرة من المشتبه بهم لفترات طويلة، مع ما يطرحه ذلك من تكلفة مالية باهظة.
ومن جهة أخرى، تتخوف الحكومات الأوروبية من انتقال التطرف إلى سجونها، إذا ما قبلت بعودة المئات من مقاتلي «داعش»، وتمكنت من الزج بهم في السجون الأوروبية.
وعليه، تعمل الحكومات الأوروبية، بقيادة السويد وفرنسا، لاستحداث محكمة دولية تبعد خطر المقاتلين من الجغرافية الأوروبية، وفي الوقت نفسه تضمن ملاحقة قضائية تتوافق والمعايير الدولية للمحاكمة العادلة. وفي هذا الإطار، قال متحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني تيريزا ماي: «يجب تقديم المقاتلين الأجانب إلى العدالة، وفقاً للإجراءات القانونية الواجبة في الولاية القضائية الأكثر ملاءمة». أما وزارة الخارجية الألمانية، فقالت إن إعادة المحتجزين من «الدواعش» إلى الوطن «صعبة للغاية».
ويبدو أن المسعى الفرنسي السويدي القاضي باستحداث محكمة دولية ليس بالأمر السهل. فمن جهة يحظر القانون الأوروبي تسليم المشتبه فيهم للمحاكمة في بلدان قد يواجهون فيها عقوبة الإعدام، أو يتعرضون لظروف غير إنسانية في السجن، ومن جهة ثانية ظهر من تقارير أعدها صحافيون غربيون حضروا المحاكمات الأخيرة ببغداد أن القضاء العراقي معيب، حيث سجل الصحافيون أن بعض المحاكمات استمرت لمدة 10 دقائق فقط، كما يتم إعدام الرجال والنساء المحكوم عليهم بالإعدام على الفور! وشملت هذه الأحكام أكثر من 3 بلجيكيين و11 مواطناً فرنسياً على الأقل، إلى حدود نهاية شهر مايو 2019. وقد أبلغت وزارة الخارجية الفرنسية السلطات العراقية رفضها تنفيذ عقوبة الإعدام على مواطنيها، لكن فرنسا ظلت على رأيها الرافض لمحاكمة مواطنيها المقاتلين بـ«داعش» على أراضيها.
ويبدو أن تعقد الإشكالية دفع بعض الحكومات الأوروبية للبحث عن الحل السهل. فقد أشارت جريدة «الإندبندنت» في مايو (أيار) الماضي إلى أنه تم تجريد ما لا يقل عن 150 مواطناً بريطانياً من جنسيتهم منذ عام 2010، وهو النهج نفسه الذي تبنته كل من أستراليا وبلجيكا والدانمارك والولايات المتحدة، حيث ألغت كل هذه الدول جنسية مواطنيها الملتحقين بـ«داعش»، فيما تناقش دول أخرى (منها سويسرا والنمسا وألمانيا) سن قوانين تسمح لها بذلك، أو البحث عن حلول بديلة.
ومن المؤكد أن سحب الجنسية يواجه بعض الصعوبات القضائية والحقوقية، حيث ألغت بعض المحاكم الأوروبية سحب جنسية الأشخاص المدانين بارتكاب جرائم خطيرة مثل الإرهاب، خصوصا الذين لا يحملون جنسية مزدوجة.
ومن ذلك ما حدث أواخر عام 2018، حيث قام قاضٍ بريطاني بمنع قرار الحكومة تجريد اثنين من المتطرفين من جوازات سفرهما، وأكد أنهما لا يتمتعان بجنسية بديلة صالحة.
ويبدو أنه لا وجود لحل عاجل لمن تبقى على قيد الحياة من نحو 1200 مقاتل أوروبي في صفوف «داعش»؛ ذلك أن القوانين الأوروبية وشرعة حقوق الإنسان الدولية لا تؤيد حل سحب الجنسية، كما أن الوصول إلى اقتراح إقامة محكمة دولية يواجه مشكلات قانونية متشابكة قد تعصف به، ليترك مقاتلو «داعش» الأوروبيون وأسرهم يواجهون مصيرهم المحتوم بالعراق وسوريا.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟