«شاعري العزيز: هو ذا بين يديك شابٌ ينضح بالرومانسية، استقبلْه بمحبة لأنه يستحقها، ولأننا نعقد عليه أكبر الآمال». هذا كان نصّ الرسالة التي حبّرها رائد الفكر الاشتراكي الإسباني «فرناندو دي لوس ريّوسّ» في 27 أبريل (نيسان) 1919 ليحملها فيديريكو غارسيّا لوركا إلى الشاعر الكبير خوان رامون خيمينيز الذي كان يومها يجلس على أغصان أورف شجرة في حديقة الشعر الإسباني في ألمع مراحله التاريخية، والذي تُوِّج بجائزة نوبل عام 1956 عندما كان منفيّاً يدرّس في إحدى الجامعات الأميركية.
بعد شهرين على تلك الرسالة جاء ردّ خوان رامون إلى مرسلها كالتالي:
«صديقي العزيز، جاءني شاعرك وترك عندي أجمل انطباع. أعتقد أنه يتمتّع بموهبة كبيرة ويتحلّى بصفة أساسية في الشعر: الحماس. قرأ عليّ مجموعة من القصائد الجميلة جداً، مفرطة بعض الشيء في طولها، لكن الإيجاز يأتي وحده مع الوقت. سيكون من دواعي مسرّتي ألا يغيب عن ناظريّ اعتباراً من اليوم».
ذلك اللقاء كان المدماك الذي تأسست عليه أهم حركة شعريّة في التاريخ الإسباني عُرفت باسم «جيل الـ27»، نسبةً إلى العام الذي وُلدت فيه، والتي كان خيمينيز رائدها ولوركا ألمع نجومها حتى اغتياله عام 1936 في مستهلّ الحرب الأهلية. تلك العلاقة، التي نشأت في غرناطة ونمت طوال عقدين تقريباً لتترسّخ وتستمرّ بين الأسرتين بعد اغتيال لوركا، هي مادة البحث الغني والجميل الذي يقوم عليه كتاب «أيام كتلك الأيّام، غرناطة 1924» لمؤلفه ألفونسو هايتزمان، ويضيء على فصول مغمورة من إحدى أخصب حقب الأدب الإسباني.
كان خوان رامون أصفى شعراء الإسبانية وأكثرهم وجوديّة وأسماهم موسيقية. وكانت قصائده جسراً وطيداً عَبَر عليه الشعر الإسباني إلى حداثة سرعان ما تملّكها فيديريكو وألبسها حرائر عذابات المهمّشين وأناشيد المضطهدين التي كانت تتدفّق بعفوية مذهلة وجماليّة أخّاذة من شرانق عبقريته التي وأدها الفاشيّون ذات ليلة مقمرة في أحد كروم الزيتون على مقربة من غرناطته الحبيبة.
لكن العلاقة الفكريّة والفنيّة بين الشاعرين الكبيرين ارتقت إلى علاقة شخصية حميمة عندما توجّه خوان رامون برفقة زوجته زنوبيا إلى غرناطة في القطار تلبيةً لدعوة لوركا وعائلته في يونيو (حزيران) من عام 1924. وقد بقيت تلك الأيام التي أمضاها الشاعران معاً في مدينة «الحمراء»، كما كان يحلو لفيديريكو أن يسمّيها، تخصّب تربة الشعر الإسباني لسنوات عديدة «وتشفي عيوننا من رمد الحرب الأهلية والحياة التي فرضتها علينا» كما يقول خوان رامون في إحدى الرسائل التي تُنشر لأول مرة في الكتاب، ويضيف: «لم ننسها أبداً تلك الأيام في غرناطة. نعيم الصداقة في مدينة هي أقرب ما تكون إلى الجنّة. أيّام كتلك لا يعيشها المرء سوى مرّات قليلة في حياته» في رسالة إلى عائلة فيديريكو بعد عشر سنوات من اغتياله.
ومن تلك الزيارة وُلدت قصيدة خوان رامون الشهيرة «جنّة العريف» المهداة إلى إيزابيل شقيقة لوركا، والتي اقتبس بعضاً من أبياتها تحيّة لصديقه فيديريكو خلال تسلّمه جائزة نوبل. ومنها أيضاً نشأت مجموعة النصوص النثريّة الرائعة التي نشرها تحت عنوان «منسيّات في غرناطة» ويستعرض فيها جلساته ومحادثاته مع لوركا.
بعد أن بلغه نبأ اغتيال فيديريكو (أعدمه أنصار فرنكو قرب غرناطة في 18 أغسطس «آب» 1936) فور نزوله من السفينة التي أقلّته وزوجته إلى المنفى في بويرتو ريكو، كتب خوان رامون: «رفضت، وما زلت أرفض، تصديق الخبر. وأحاول أن أطرد عنّي هذا الحزن العميق والأكيد الذي يهبط عليّ من سماء الحقيقة. لا، سأقول لا، لا للجميع ولنفسي، إن الشاعر الغرناطي الأشمّ لم يمت، أي إنهم لم يغتالوه، أو يعدموه، أو يشنقوه. لكن هذا الموت الذي لا أصدق، ولا أريد أبداً أن أصدق، هو الموت الذي كانت تقود إليه حياته وأعماله. الموت الذي، منذ طفولته، لا أدري كيف ولماذا، قد صنعه بيده. الموت الذي كتبه في شكل قصيدة والذي كنت أتمنى أن يكون موتي. الموت الذي ما زال ليس موته. لكنهم يقولون إنه قد مات، وإنّ ما حصل قد حصل بهذه الطريقة أو تلك. أصحيح ذلك أيها الشعراء وأصدقاؤنا في الغرناطتَيْن؟».
يقول هايتزمان إن فاجعة اغتيال لوركا «هزّت خوان رامون أكثر من أي حدث آخر في حياته»، وكانت بداية قافلة من الجثث الصديقة التي تعاقبت عليه في منفاه الطويل والنهائي. الفيلسوف والكاتب ميغيل أونامونو، ثمّ الشاعر أنطونيو ماتشادو وبعده الشاعر ميغيل هرنانديز الذي بلغه موته في السجن مصاباً بالسلّ، في رسالة مؤثرة من بابلو نيرودا.
النصوص التي ينشرها الكاتب لأول مرة لزنوبيا، زوجة خوان رامون، تضيء على الحالة النفسية التي استقرّت فيها حياة الشاعر منذ أن بلغه نبأ اغتيال لوركا، والتي رافقته حتى وفاته. تقول في أحد هذه النصوص: «كنت ألمس أحياناً في أفكار خوان رامون بعض الحسد من الطريقة التي مات بها لوركا. والأرجح أن خوان رامون كان ميتاً أو توّاقاً لكي يموت مثل صديقه».
ولعلّ أهمّ ما يكشفه كتاب «أيام كتلك الأيام، غرناطة 1924»، إلى جانب تفاصيل العلاقة بين فيديريكو وخوان رامون، هي المعاناة النفسيّة التي عاشها خيمينيز في المنفى بعد سنوات الخصب التي بدأت مع لقائه مع لوركا اليافع وازدهار الحركة الشعرية التي كان عرّابها الأول، وأعقبتها سنوات الحزن والقمع والخوف والابتزاز والمهانة والموت. سيقول خوان رامون في إحدى الرسائل المنشورة في الكتاب: «جاءتني غرناطة في حلم عميق وأنا في الطريق إليها على متن قطار، أسمع همس الظلّ والماء والهواء، أمضي نهاري مع فيديريكو وأسرته في كنف الحمراء وجنّة العريف». لكن الأوان قد فات، ولم يتبقَّ من ذلك الحلم سوى ظلّه، وخيط رفيع من الدم يزنّر الحمراء الحزينة، إلى الأبد، على رحيل لوركا.
يوم أزهر في غرناطة أجمل الشعر الإسباني
كتاب يضيء على فصول مغمورة من إحدى أخصب الحقب في تاريخه
يوم أزهر في غرناطة أجمل الشعر الإسباني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة