يتوقع الخبراء أن يستمر نمو الاقتصاد العالمي في العام الحالي، لكنهم يحذرون من أن الأوضاع تتغيّر في اتجاه سلبي وتمهّد لحصول ركود عام 2020، أو ربما 2021. ولا شك في أن هذا الموضوع سيكون مدار بحث في قمة العشرين التي تعقد دورتها الرابعة عشرة في اليابان قريباً، وسواها من المنابر واللقاءات المعنية بالاقتصاد.
ويشير الخبراء في المقام الأول إلى أن حزم التحفيز العالمية للاقتصاد تقترب من نهايتها، والضغوط التضخمية تتعاظم، بالإضافة إلى أن النزاعات التجارية المتفاقمة تلقي بأعباء كثيرة على دول عدة أساسية في الاقتصاد العالمي ومساراته.
ويعتبر الاقتصاد الأميركي الذي يعيش مرحلة إيجابية منذ سنوات مع نمو متواصل وتراجع مستمر للبطالة مبعث القلق الأكبر. إذ إن قادة الأعمال في الولايات المتحدة يتفقون مع عدد كبير من الخبراء على أن بلادهم يحتمل أن تدخل مرحلة ركود بحلول نهاية عام 2020 لأسباب عدة تأتي في صدارتها السياسة التجارية الحمائية. والاستنتاج نفسه خلص إليه تقرير صدر حديثاً عن الرابطة الوطنية لاقتصاديات الأعمال بناءً على مسح تضمّن ردود 53 من الخبراء الاقتصاديين. وقال الخبير الأميركي في مؤسسة «أكسفورد إيكونوميكس» غريغوري داكو إن معظم المشاركين في المسح أبدوا خشية من التداعيات السلبية للحروب التجارية، وأبرزها النزاع المتفاقم بين الولايات المتحدة والصين، ونُذُر حربين تجاريتين بين الأولى وكل من الهند والمكسيك، بالإضافة إلى الخلاف المستمر لواشنطن مع الاتحاد الأوروبي.
وإذ اعتبر الخبراء الأميركيون أن خطر حدوث ركود وشيك في الولايات المتحدة لا يزال ضئيلاً، حذّروا من أنه سيرتفع بسرعة في العام المقبل، خصوصاً في النصف الثاني منه ليبلغ في أواخره 60 في المائة. وورد في التقرير أن متوسط التوقعات لنمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأخير من العام 2020 بلغ 1.9 في المائة، بتراجع كبير عن نمو الاقتصاد 3.1 في المائة خلال الربع الأول من العام 2019.
والأرجح أن الولايات المتحدة بلغت المراحل الأخيرة من مسلسل النمو الذي بدأ عام 2009. ولا شك في أن إجراءات مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي) والكونغرس وإدارة الرئيس السابق باراك أوباما ساهمت في انتشال البلاد من الركود، واستمر الاتجاه التصاعدي في عهد الرئيس دونالد ترمب.
ولئن يعتبر أكثر الخبراء أن النزاعات التجارية هي المصدر الأول للخطر على الاقتصاد الأميركي وبالتالي العالمي، فإن ذلك لا يلغي وجود عوامل سلبية أخرى. وفي هذا السياق، تداولت مواقع إلكترونية عالمية عدة في الأيام الأخيرة مقالاً تحليلياً للخبير الاقتصادي والأكاديمي الأميركي نورييل روبيني الذي عمل في الإدارة خلال عهد الرئيس بيل كلينتون. وحذّر الخبير، المعروف عموماً بميله إلى التشاؤم، من حصول ركود عام 2020 بمجرد وقوع صدمة ما، حتى لو تحرّكت البنوك المركزية للتصدّي لها بسرعة. ولفت خصوصاً إلى تقلبات أسواق الأسهم الأميركية، وأخطار مرتبطة بارتفاع أشكال الديون الجديدة، بما في ذلك في العديد من الأسواق الناشئة حيث يحصل الكثير من الاقتراض بعملات أجنبية.
ويتخوّف روبيني كثيراً من التوترات القائمة بين بكين وواشنطن، خصوصاً إذا أدّت إلى إقفال الأولى أسواقها في وجه شركات متعددة الجنسية كانت في الأصل أميركية أو تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها. ففي هذه الحالة ستكون الارتدادات السلبية عالمية نظراً إلى اتّساع رقعة انتشار هذه الشركات العملاقة، الأمر الذي سيؤدي إلى أزمة قد تتحوّل إلى ركود بسبب حجم الديون الخاصة والديون الحكومية حول العالم.
4 أسباب أميركية
من جهتها، حذّرت شيلا بير التي كانت رئيسة الوكالة الفدرالية الأميركية لضمان الودائع إبان حصول الأزمة المالية عام 2008، من الغيوم الرمادية المتلبّدة في سماء الاقتصاد الأميركي الذي لا حاجة إلى القول إن أي أزمة كبيرة فيه ستجرّ العالم إلى أزمة. وتحدّثت عن أربعة بواعث رئيسية للقلق: خفض مستوى رؤوس الأموال الإلزامية للبنوك، تعاظم الديون الخاصة، العجز الكبير في الميزانية الفيدرالية، والحجم الضخم للقروض الطلابية.
في ما يتعلّق بالسبب الأول، قالت بير لمجلة «بارون» الأميركية إن تخفيف القيود على رؤوس الأموال الإلزامية للبنوك يحرمها الوسيلة الضرورية لاستيعاب أي هزّة، تماماً كما حصل في 2008 و 2009. وفي هذا السياق، خلصت ذراع بحثية تابعة لوزارة الخزانة الأميركية إلى أن النظام المالي سيكون في خطر كبير إذا تعثر أحد البنوك الكبرى، رغم الإصلاحات التي اعتُمدت بعد أزمة 2008. وكذلك، يعتقد كينيث روغوف أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد أن البنوك المركزية الأساسية في أنحاء العالم غير مهيأة للتعامل مع أزمة مصرفية جديدة.
عن السببين الثاني والثالث، رأت بير أن شيئاً لم يتغير منذ العام 2008، فالأميركيون ينفقون بالاعتماد على الاقتراض، خصوصاً بواسطة بطاقات الائتمان، فيما الإنفاق الفدرالي يتعاظم مع أن الوضع المالي للخزينة العامة ليس سليماً. وبالتالي، سيكون القطاعان الخاص والعام عاجزين عن امتصاص أي صدمة كبيرة.
أما السبب الرابع فقد يتعجب له البعض للوهلة الأولى، لكن العجب يبطل متى علمنا أن حجم القروض الطلابية في الولايات المتحدة يبلغ 1.3 تريليون دولار. والمشكلة أن التعثر المحتمل لن تدفع ثمنه المؤسسات التعليمية بل الحكومة الفدرالية، تماماً كما حصل مع أزمة القروض السكنية التي استتبعت سقوط حجارة الدومينو في أزمة عام 2008.
في الإطار نفسه، رأت دراسة أجراها خبراء معهد أندرسون للإدارة في جامعة كاليفورنيا لوس أنجليس، أن القفزة التي تحققت في ظلّ السياسات المالية التوسعية لإدارة ترمب ستنتهي قريباً وتنهي معها نمواً بدأ قبلها واستمر عقداً. وتوّقعت أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 1.7 في المائة عام 2019 وإلى مستوى قريب من الركود يبلغ 1.1 في المائة عام 2020.
وكتب الخبير الاقتصادي ديفيد شولمان في دراسة المعهد: «قبل سنة، كنا نتطلّع إلى نمو اقتصادي عالمي متزامن، أما اليوم فقد بدأ تباطؤ عالمي متزامن». ولفت إلى أن ركوداً يحصل أواخر العام المقبل سيشكل بطبيعة الحال ضربة لفرص إعادة انتخاب دونالد ترمب لولاية رئاسية ثانية. وأضاف: «بالنسبة إلى التباطؤ العالمي، يتفاقم الضعف بسبب السياسات الحمائية التي تعتمدها إدارة ترمب والشكوك المرتبطة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وسينتقل الضعف العالمي إلى الاقتصاد الأميركي من خلال بيئة تصدير أقل قوة وانخفاض أرباح الشركات».
وعلى الجانب الإيجابي، تتوقع دراسة معهد أندرسون أن يعدّل الاحتياط الفدرالي سياسته خلال العام المقبل بحيث يلطّف آثار الأزمة إذا وقعت، وبحيث يحافظ الاقتصاد الأميركي على مستوى مقبول من النمو عند حدود 2 في المائة عام 2021. وإذا حصل ذلك، يمكن الحديث عندها عن انكماش أو تباطؤ لا عن ركود حقيقي.
خلاصة القول إن دورة الانتعاش التي قادها صعود الاقتصاد الأميركي لا يمكن أن تستمر، فهي متواصلة منذ 38 فصلاً، علماً أن أكبر دورة من هذا النوع في الولايات المتحدة استمرت 40 فصلاً، أي عشر سنوات. ويؤمل أن يكون مسؤولو الدول الكبرى التي تقود سفينة الاقتصاد في مستوى المسؤولية لتمر دورة الهبوط المتوقعة بسلام وبأقل الأضرار الممكنة، خصوصاً أن آثار أزمة 2008 – 2009 لا تزال ماثلة في الأذهان.