«التنزه بالشعر» في حقائق الكون والأشياء والوجود

عاطف عبد العزيز ينأى عن التورط في صخب العالم في «شيء من هذا الغبار»

«التنزه بالشعر» في حقائق الكون والأشياء والوجود
TT

«التنزه بالشعر» في حقائق الكون والأشياء والوجود

«التنزه بالشعر» في حقائق الكون والأشياء والوجود

يستهل الشاعر عاطف عبد العزيز ديوانه «شيء من هذا الغبار»، الصادر حديثاً عن «دار المتوسط»، بنص عنوانه «رفيف المستحمة» يستدعي من خلاله الرسام الفرنسي بول سيزان، أحد رواد المدرسة الانطباعية في الفن ولوحته الشهيرة «المستحمات». وفي نص بعنوان «أناهيد»، وعلى سبيل التناص أيضاً، يستدعي ليلي مراد وأغنيتها الشهيرة «أنا قلبي دليلي»، كما يستدعي الكاتب الروائي إبراهيم أصلان في نص بعنوان «اللعبة»، يرى أنه يتقاطع مع أجواء إحدى قصص أصلان في مجموعته «خلوة الغلبان»، وفي نص بعنوان «صباح كغيره» يستدعي الشاعرة الأميركية المنتحرة سيلفيا بلاث، ومعها ضمنياً يحضر زوجها الشاعر الإنجليزي تيد هيوز، شاعر البلاط.
لكن ما جدوى هذا الاستدعاء المحمول على التناص، ما دلالته شعرياً وفنياً، بل نفسياً أيضاً... هل أراد الشاعر أن يصنع نوعاً من التماثل الشفيف بين ذاكرتين؛ ذاكرة الصورة أو اللقطة أو الحالة المستدعاة من ناحية، وبين ذاكرة النص الشعري من ناحية أخرى، وهل العلاقة هنا بين سابق ولاحق، بين صورة وظل، بين ما قد كان، وما هو كائن بالفعل... ربما يساعدنا في الإجابة عن كل هذه التساؤلات، أننا أمام ذات شعرية تنأى عن التورط في صخب العالم وضجيجه، تحافظ دائماً على مسافة رخوة بينها وبين الأشياء، تسمح لها باللعب المطمئن، ومراقبة العالم بعين يقظة محبة، ولغة شجية، شديدة الانضباط والرصانة.
ومن ثم، لا يتورط الشاعر في حياة سيزان، أو يرتدي أقنعته، أو يسائله على سبيل المثال: لماذا رسمت أغلب مستحماتك من الظهر، وموَّهت على وجوههن، كأنهن ظل لحقيقة هاربة. الأمر نفسه في «أناهيد»، حيث يتحول دال ليلي مراد وأغنيتها الشهيرة إلى عنصر محفز ومرطب لحالة عاطفية، تومض في النص بين الذات الشاعرة والفتاة التي ساقتها الأقدار للوذ بمصر، بعد أن «أشعل التركُ النار في العائلة»، وتصادف أن رقصت في الفيلم خلف ليلي مراد وهي تغني هذه الأغنية. وفي نص «اللعبة»، يتم استدعاء إبراهيم أصلان، من خلال جمل نصية، ليبدو كشاهد خفي، على مشهد «رجاء» الفتاة السمراء الجنوبية، التي تحولت بيولوجياً من أنثى إلى ذكر. يقلّب النص هذه الحقيقة عبر حوار عبثي خاطف بين زوج الفتاة المفجوع مما جرى لها، وبين صوت آخر تمثله الذات الشاعرة، يوهم بالاعتراف بالشيء، لكنه داخلياً يضمر إقراراً بنفيه والسخرية منه. يشير النص إلى ذلك في عبارة دالة (ص 30) هي: «القدرة على إيلام الآخرين عن بعد»، ثم يعيد تكرارها في النهاية على هذا النحو:
«فكرت أيضاً أن أمنحه سيجارة،
لكني تراجعت في اللحظة الأخيرة،
كأني خشيت أن تنتهي اللعبة مبكراً،
بما قد يجعل أصلان متململاً في تربته.
ومن بعيد، سمعتني أسأله.. «مَن رجاء»؟
بيد أن هذا الاستدعاء الذي يتم فيه التعاطي بحنو مع المشهد، والحرص على أن تظل الصورة محتفظة بإطارها الخارجي، سرعان ما ينقلب رأساً على عقب في نص «صباحٌ كغيره»، حيث تتخلى الذات عن حذرها المخاتل، وتتورط في النص إلى حد المباهاة والتهكم من نفسها، ومن رتابة مشهد الحياة الأسرية المتكرر يومياً، محولة رمزية سيلفيا بلاث المفجعة إلى تميمة للمجد والخلاص من شرور الذات والعالم، وشرك العيش تحت سقف الضرورة... هنا نصبح إزاء صراع مضمر بين ذاكرتين، تمنح إحداهما الأخرى الخيطَ لتشده حتى آخر اللعبة، حتى آخر العبث والمجهول. ما يسم الصورة الشعرية بمسحة من التوحش، كأنها تواجه غريماً قابعاً في سقف الذاكرة والحلم... يقول الشاعر في هذا النص:
كان بوسعها
- لو فكرتْ قليلاً -
أن تدبر لكلينا مقعداً بمقصورة الخالدين
كان يمكن بشيء من التبصر
أن تكون نسخة حديثة ومنقحة
من سيلفيا بلاث
أن ترى في الموقد المنزلي هولوكستها الشخصيَّ
الذي كان سوف يصنع منها
في مقتبل الأيام
أسطورة لا تغيب»
ربما أستطيع أن أقف هنا على دلالة التبعيض (بعض من كل) في عنوان الديوان «شيء من هذا الغبار»، بما يكتنزه من علامات وإشارات توحي بالتماثل والرغبة في الانعتاق، وفي الوقت نفسه الإقرار بما هو واقع بالفعل، وأن الأشياء في حقيقتها وجود نسبي غير مكتف بذاته... ربما ذلك، لكنني أتصور أن الأمر يكمن جذرياً في شق آخر، يتعلق برؤية الشاعر نفسه للشعر.
عاطف عبد العزيز برأيي شاعر مسكون بفكرة شيقة وممتعة معاً، راقبتها في الكثير من دواوينه السابقة، ووصلت إلى كينونتها على نحو خاص في هذا الديوان، وهي فكرة أسميها «التنزه بالشعر»، الشعر نزهة إذن، في حقائق الكون والأشياء والوجود، نزهة مفتوحة على الأمكنة والأزمنة، على ماضيها وحاضرها ومستقبلها، على الإنسان المقيم والعابر والمهمش والمنسي، المسكون بالبساطة والغرابة والألفة. إنها نزهة مسالمة، جل ما تبتغيه أن ترى المشهد في رقته، في نوره الداخلي وصفائه الأخاذ.
يتناثر معنى هذه الفكرة في أجواء الديوان، في شكل رسائل، تارة إلى البحر، وتارة إلى المدينة، وتارة أخرى إلى الذات الشاعرة نفسها، وهي رسائل مسكونة دائماً بروح التجوال والتنزه داخل النص وخارجه. تتزيا أحياناً بالحكمة، خصوصاً في نهايات القصائد، حكمة أن ترى ما لا يُرى، وتسمع ما لا يُسمع، حكمة أن تكون نفسك في نفسك، أن تصفو إليها متخلصاً من شوائب الوجود وشره الأضداد المقيت، إنها الطريق إلى المسرّة، حسبما يؤكد الشاعر في نص بالعنوان نفسه، موجهاً الخطاب إلى الآخر الصديق، تحت رذاذ من السخرية، تطل منه سذاجة واعتباطية الأعراف والتقاليد الاجتماعية قائلاً (ص 15): «بمقدورك التأقلم مع الحقائق المستجدة/ كأي عاشق متحضر/ يمكنك أيضاً جرّها من شعرها الطويل إلى قارعة الطريق/ مثل أي شرقي كرامته في سرواله».
تمنح فكرة التنزه بالشعر الذات فسحة أوسع للتأمل والنفاذ فيما وراء الأشياء، كما تمنحها المقدرة على الاسترخاء، والتقاط الشعر من الثقوب والشقوق والفجوات الكامنة في جسد الزمن وتداعيات الواقع اليومي المعيش، كما توسع من أفق التخييل بإيقاع الفانتازيا، واللعب على دوال لصيقة بطبيعة الوجود الإنساني، مثل التنبه والغفلة والسهو والعزلة، وهو ما يتجسد على نحو ساطع في نصي «ابن الجيران»، و«سأم القاهرة»... في النص الأول يتحول الولد المصاب بالتوحد إلى أثر وشاهد على حضور الكائن في الفراغ، فراغ الصورة والحياة التي انفضّت فجأة، بعد أن يختفي الولد فجأة وتختفي معه ابتسامته، وتتبدل أحوال الشرفة، التي تمثل إطلالته الوحيدة على الحياة... إنه ميراث تنزه الأنا في مرثيتها المباغتة، وكونها الصغير الفسيح، يجسده النص في أسطره الأخيرة قائلاً:
«يمكن للمرء حصرُ ميراثه من العالم:
صديقٌ صغيرٌ يغيب في عزلته المفتوحة
على الضوء.
عبّادة شمس تميل على الجهة الخطأ
كلبٌ مريضٌ بداء جعله يحكُّ جلده - كما ترون -
في حائط الجيران.
أما أنا... فأنا
ألوِّح ما زلتُ، للفراغ الذي يأخذ شكل الولد».
وفي النص الثاني «سأم القاهرة» الأطول بين نصوص الديوان، ويشكل خاتمته، يلجأ الشاعر إلى الترقيم الداخلي، صانعاً نوعاً من الوصل والقطع بين المشاهد والوقائع واللقطات ليضفي على تنوعها عاطفياً واجتماعياً وسياسياً إيقاع المشهد السينمائي، فتبدو كشريط طويل متعدد الرؤى والحالات، تختلط فيه روائح البشر ودبيبهم بروائح المدينة وأجواء شوارعها بزخمها وصخبها ومقاهيها وبيوتها الأثرية العتيقة، كما تطل احتجاجات وانتفاضات الغضب ضد الظلم والقهر... يدور الشريط في تقاطعات وتجاورات شيقة بين فواصل النص، بينما تكتسب الحركة من الداخل إلى الخارج سلاسة التنزه ببطء، ما يجعل مواساة الذات من فوضى هذا السأم والزحام أمراً لطيفاً وطبيعياً ومحتملاً، ففي خضم هذه المشهد يشير الشاعر إلى المتظاهرين رافعي اللافتات المتلاصقين فوق سلم النقابة كالكتاكيت، وفي المقابل، وبحس لا يخلو من المفارقة، وكما يقول النص (69):
«الجنود كانوا يأكلون في العربات الداكنة في بساطة،
لم أعرف لماذا أوجعتْ قلبي،
بينما تلميذاتٌ مراهقاتٌ، كن يعبرن الشارع صاخباتٍ
في مريولات رمادية، وقمصانٍ بيضٍ محبوكة.
للحظة ظننتهن سربَ فراشاتٍ
خرجن للتو من سماء منصوبة خلف كشك السجائر».
هكذا، يمكن للشمس أن تشرق من كشك سجائر، ويمكن للتنزه أن يمنح الوجود معادلة الشعر، بجمال وحب. هذا ما يبقى دائماً في ذاكرة النص وغبار التاريخ.



هل سقط «يوم الثقافة» المصري في فخ «التكريمات غير المستحقة»؟

لقطة جماعية لبعض المكرمين (وزارة الثقافة المصرية)
لقطة جماعية لبعض المكرمين (وزارة الثقافة المصرية)
TT

هل سقط «يوم الثقافة» المصري في فخ «التكريمات غير المستحقة»؟

لقطة جماعية لبعض المكرمين (وزارة الثقافة المصرية)
لقطة جماعية لبعض المكرمين (وزارة الثقافة المصرية)

تحمس وزير الثقافة المصري الدكتور أحمد فؤاد هنو الذي تولى حقيبة الثقافة قبل 6 أشهر، لعقد «يوم الثقافة» بُغية تكريم المبدعين في مختلف مجالات الإبداع، من منطلق أن «التكريم يعكس إحساساً بالتقدير وشعوراً بالامتنان»، لكن كثرة عدد المكرمين وبعض الأسماء أثارت تساؤلات حول مدى أحقية البعض في التكريم، وسقوط الاحتفالية الجديدة في فخ «التكريمات غير المستحقة».

وأقيم الاحتفال الأربعاء برعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، وقدمه الفنان فتحي عبد الوهاب، وكان الوزير قد عهد إلى جهات ثقافية ونقابات فنية باختيار من يستحق التكريم من الأحياء، كما كرم أيضاً الفنانين الذين رحلوا عن عالمنا العام الماضي، وقد ازدحم بهم وبذويهم المسرح الكبير في دار الأوبرا.

ورأى فنانون من بينهم يحيى الفخراني أن «الاحتفالية تمثل عودة للاهتمام بالرموز الثقافية»، وأضاف الفخراني خلال تكريمه بدار الأوبرا المصرية: «سعادتي غير عادية اليوم».

الفنان يحيى الفخراني يلقي كلمة عقب تكريمه في يوم الثقافة المصري (وزارة الثقافة المصرية)

وشهد الاحتفال تكريم عدد كبير من الفنانين والأدباء والمثقفين على غرار يحيى الفخراني، والروائي إبراهيم عبد المجيد، والمايسترو ناير ناجي، والشاعر سامح محجوب، والدكتور أحمد درويش، والمخرجين هاني خليفة، ومروان حامد، والسينارست عبد الرحيم كمال، والفنان محمد منير الذي تغيب عن الحضور لظروف صحية، وتوجه الوزير لزيارته في منزله عقب انتهاء الحفل قائلاً له إن «مصر كلها تشكرك على فنك وإبداعك».

كما تم تكريم المبدعين الذين رحلوا عن عالمنا، وقد بلغ عددهم 35 فناناً ومثقفاً، من بينهم مصطفى فهمي، وحسن يوسف، ونبيل الحلفاوي، والملحن حلمي بكر، وشيرين سيف النصر، وصلاح السعدني، وعاطف بشاي، والفنان التشكيلي حلمي التوني، والملحن محمد رحيم، والمطرب أحمد عدوية.

وزير الثقافة يرحب بحفيد وابنة السينارست الراحل بشير الديك (وزارة الثقافة المصرية)

وانتقد الكاتب والناقد المصري طارق الشناوي تكريم نقيب الموسيقيين مصطفى كامل، قائلاً في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «حتى لو اختاره مجلس النقابة كان عليه أن ينأى بنفسه عن ذلك»، مشيراً إلى أن الاختيارات جاءت على عُجالة، ولم يتم وضع خطوط عريضة لمواصفات المكرمين، كما أنه لا يجوز أن يُرشح نقيب الموسيقيين ورئيس اتحاد الكتّاب نفسيهما للتكريم، وأنه كان على الوزير أن يتدخل «ما دام أن هناك خطأ». لكن الشناوي، أحد أعضاء لجنة الاختيار، يلفت إلى أهمية هذا الاحتفال الذي عدّه «عودة حميدة للاهتمام بالإبداع والمبدعين»، مشدداً على أهمية «إتاحة الوقت للترتيب له، وتحديد من يحصل على الجوائز، واختيار تاريخ له دلالة لهذا الاحتفال السنوي، كذكرى ميلاد فنان أو مثقف كبير، أو حدث ثقافي مهم»، ضارباً المثل بـ«اختيار الرئيس السادات 8 أكتوبر (تشرين الأول) لإقامة عيد الفن ليعكس أهمية دور الفن في نصر أكتوبر».

الوزير ذهب ليكرم محمد منير في بيته (وزارة الثقافة المصرية)

ووفق الكاتبة الصحافية أنس الوجود رضوان، عضو لجنة الإعلام بالمجلس الأعلى للثقافة، فإن «الاحتفال حقق حالة جميلة تنطوي على بهجة وحراك ثقافي؛ ما يمثل عيداً شاملاً للثقافة بفروعها المتعددة»، متطلعة لإضافة «تكريم مبدعي الأقاليم في العام المقبل».

وتؤكد رضوان في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «تكريم نقيب الموسيقيين لا تُحاسب عليه وزارة الثقافة؛ لأنه اختيار مجلس نقابته، وهي مسؤولة عن اختياراتها».

ورداً على اعتراض البعض على تكريم اسم أحمد عدوية، تؤكد أن «عدوية يُعد حالة فنية في الغناء الشعبي المصري وله جمهور، فلماذا نقلل من عطائه؟!».

ولفتت الناقدة ماجدة موريس إلى أهمية وجود لجنة تختص بالترتيب الجيد لهذا اليوم المهم للثقافة المصرية، مؤكدة لـ«الشرق الأوسط» أنه من الطبيعي أن تكون هناك لجنة مختصة لمراجعة الأسماء والتأكد من جدارتها بالتكريم، ووضع معايير محددة لتلك الاختيارات، قائلة: «لقد اعتاد البعض على المجاملة في اختياراته، وهذا لا يجوز في احتفال الثقافة المصرية، كما أن العدد الكبير للمكرمين يفقد التكريم قدراً من أهميته، ومن المهم أن يتم التنسيق له بشكل مختلف في دورته المقبلة بتشكيل لجنة تعمل على مدى العام وترصد الأسماء المستحقة التي لعبت دوراً أصيلاً في تأكيد الهوية المصرية».

المخرج مروان حامد يتسلم تكريمه من وزير الثقافة (وزارة الثقافة المصرية)

وتعليقاً على ما أثير بشأن انتقاد تكريم المطرب الشعبي أحمد عدوية، قال الدكتور سعيد المصري، أستاذ علم الاجتماع والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة، على «فيسبوك»، إن «أحمد عدوية ظاهرة غنائية غيرت في نمط الأغنية الذي ظل سائداً في مصر منذ الخمسينات حتى بداية السبعينات»، معتبراً تكريم وزير الثقافة له «اعترافاً بالفنون الجماهيرية التي يطرب لها الناس حتى ولو كانت فاقدة للمعايير الموسيقية السائدة».