علاء الدين سليم يستكشف في {طلاسم} خفايا النفس المتمردة

فيلمه الثاني لا يقل فرادة عن الأول

عبد الله مينياوي في لقطة من فيلم «طلاسم»
عبد الله مينياوي في لقطة من فيلم «طلاسم»
TT

علاء الدين سليم يستكشف في {طلاسم} خفايا النفس المتمردة

عبد الله مينياوي في لقطة من فيلم «طلاسم»
عبد الله مينياوي في لقطة من فيلم «طلاسم»

بعد 45 دقيقة من بداية فيلم علاء الدين سليم الثاني «طلامس»، ينتقل السرد من متابعة شخصية بطله «س» (الاسم الوحيد الممنوح له) إلى شخصية الزوجة «ف» (الاسم الوحيد الممنوح لها)؛ تمهيداً للقاء بين الشخصيتين يتم في منطقة مهجورة من تونس.
هذا واحد من أغرب اللقاءات في السينما العربية (وبعض العالمية) نسبة إلى أنه ليس لقاءً بين شخصيتين طبيعيّتين (وإن بدت شخصية «ف» كذلك) وليس لقاءً في ظرف طبيعي ناهيك عن المكان ذاته.
المخرج التونسي علاء الدين سليم يبدو في فيلمه الثاني «طلاسم» ما زال متيّـماً بالتشكيلات والعناصر التي أمّـها في فيلمه الأول «آخر واحد فينا»، ذلك الذي تم عرضه في مهرجان ڤينسيا سنة 2016 وخرجنا منه مذهولين لقوّته ورؤيته، وخرج هو بجائزة لويجي ديلورنتس الخاصة.
فيلما علاء الدين سليم لا يشبهان أي فيلم تونسي أو عربي، وحقيقة عالمي، آخر. كلاهما صنع خاص من مخيلة مخرج لديه ما يسرده بطريقة مختلفة وبعالم هو أعقد في الصياغة بمقدار ما هو أبعد عن التقليد.
«آخر واحد فينا» دار حول رجل آخر بلا اسم (منحه المخرج حرف ن) كل ما نعرفه عنه إنه لاجئ غير شرعي من نقطة ما من المغرب العربي يسرق مركباً ويبحر به ليصل به إلى مقصده. حين يحط على الأرض لا يعلم أي أرض هي. هل وصل إلى أوروبا فعلاً، أم أن التيار جرفه إلى موقع أفريقي آخر؟ هل تقدّم إلى حيث أراد، أم تأخر إلى حيث هاجر؟ يمضي ردحاً من الوقت يصارع فيه بطله وضعه المنفرد. إنه وحيد يحاول البقاء حياً في غابة كثيفة تبدو كما لو كانت نهاية العالم. تتقلب أيامه فيها بلا بدايات ونهايات إلى أن يسقط في حفرة عميقة فينقذه رجل مسن سماه المخرج «م» الذي يعيش في تلك الغابة التي ستبقى محل الأحداث طوال الوقت.
في «طلاسم» الذي شهد عرضه العالمي الأول في إطار «نصف شهر المخرجين» خلال مهرجان «كان» الأخير، يتحدث بدوره عن رجل يلجأ إلى ما يوازي تلك الغابة. منطقة مهجورة من الحياة تقع بين ساحل البحر وعمق الطبيعة غير المتداولة بعدما فرّ من الخدمة العسكرية. في النصف الأول من الفيلم نتعرف عليه (عبد الله مينياوي) وهو مجنّد في الخدمة العسكرية في فرقة تلاحق الإرهابيين. رفيق له يبوح له بأنه يكره ما يقوم به متذمراً من المهام الصعبة، ومعتبراً أن الحملة لا تؤدي إلا إلى إفقار وتجويع العباد. بعد ذلك ينتحر رفيق السلاح وفي اليوم التالي يصل «س» خبر وفاة والدته. يمنحه قائده أسبوع عطلة فيعود «س» إلى منزله ويبقى فيه وحيداً و... طويلاً.
القيادة تطلبه فلا يرد على الهاتف، وذقنه تنمو بكثافة وينعزل عن الناس إلى أن يصل الأمن العسكري ليقبض عليه فيهرب. بعد حين يكتشف الأمن مكانه ويلقي عليه القبض لثلاث دقائق أو نحوها قبل أن يهرب - عارياً تماماً هذه المرّة - إلى الغابة التي سيقضي الفيلم باقي أحداثه فيها.
هنا يقطع الفيلم إلى ما يشبه حكاية مستقلة: امرأة متزوّجة من رجل أعمال ثري تعود إلى الفيلا المعزولة (نعرف قريباً بأنها تقع بمحاذاة الغابة التي لجأ إليها س) عادت لتخبر زوجها بأنها حامل، والزوج يمنحها قبلة صغيرة قبل سفره. في اليوم التالي، تخرج لتتمشّى في الجوار وهناك تلتقي بالرجل «س» فتسقط مغشياً عليها.
من هنا هي حكاية شخصيتين التقيا في ظرف خاص، لكنه ظرف مصطنع.
- بداية، هناك الكثير من أوجه التشابه بين فيلمي سليم
كما ذكرنا هو الحرف الأول فقط من أي اسم. وشخصيات منفردة ومنعزلة. وموقع لا بشر آخرين فيه. لكن فوق ذلك هناك إصابة قدم لبطليه «ن» و«س» وشخصيّتان لا حوار بينهما مطلقاً، وحالة هرب ولجوء سابقة تقطع علاقة كل من الرجلين بالمدينة والمدنية.
في «طلاسم» موقع جميل مع طبيعة خلابة. بحر هنا ونهر هناك وبحيرة وبعض المطر. «س» يعيش في مبنى مهجور تحت مستوى الأرض والزوجة الحبلى تنضم إليه بعد قليل من الممانعة. لا يقع أي وضع جنسي بينهما، لكن «ف» سوف تتأقلم وتتعاطف وتبقى وتلد مولودها هناك. خلال ذلك، هناك تواصل بالنظرات يحتوي دوماً على «إكستريم كلوز أب» لعين واحد من عيني كل شخصية وكتابة على الشاشة بالكلمات لما يتواصلا حوله. يقول لها - صمتاً وبالفصحى - «لا تخافي»، ترد - صمتاً أيضاً - «أين أنا؟ أين صوتي؟». يرد: «لسنا في حاجة إلى أصوات لكي نتواصل»... لكننا، كمشاهدين، في حاجة إلى تبرير.
المخرج سليم يبتدع انقطاع الصوت عذراً لإفقاد النصف الثاني من الفيلم أي كلمات. قد نعتاد على هذه التركيبة (التواصل بالنظر عبر لقطات قريبة جداً) لكي نتيح للمخرج الاستفادة من الحالة الماثلة. لكن الرغبة في تبرير ما يقع تبدو قائمة: لماذا قرر ترك الجيش؟ لماذا هرب عارياً من الملابس؟ كيف استخرج الرصاصة من ساقه؟ لماذا رضت «ف» بالوضع سريعاً؟ من أين كل تلك الملابس التي يبدو أن «س» يرتديها؟ وكل ذلك حتى النهاية عندما - وبعد ثمانية أشهر من البحث الدائم - يقرر الزوج البحث مجدداً عن زوجته فيهتدي إلى المكان الذي فُقدت فيه ليجد طفله متروكاً هناك!
على الرغم من كل ذلك، ورغم نهاية متسرعة، للفيلم فرديته صوتاً وصورة. مونتاج الصوت والموسيقى المنسابة منه (كتبها وازو تومبييت) بالغة التأثير. والتصوير (أمين المسعدي) مبهر، خصوصاً في مشهد محلّق يبدأ ليلاً من مئذنة مسجد، وينسحب إلى الوراء فوق المدينة طويلاً قبل أن يستدير يميناً لمسافة أخرى لتحط الكاميرا على الأرض بعد أربع دقائق رائعة.
إذ للفيلم خصوصيته يطالعنا كذلك بأنه أكبر حجماً (كإنتاج) من الفيلم السابق وأكثر خيالاً. هناك مشهد لما يبدو جداراً أسود في وسط الغابة يشبه ذاك الذي في «2001: أوديسا فضائية» لكن أصغر. وهناك أفعى تساوي بحجمها تلك التي يتعارك الوحش معها في فيلم «كينغ كونغ» (1933). ليس أن هذه الغرابة تؤدي إلى فك الطلاسم، لكنها تثير الخيال.


مقالات ذات صلة

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما  مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

في حين ينشغل الوسط السينمائي بـ«مهرجان القاهرة» وما قدّمه وما نتج عنه من جوائز أو أثمر عنه من نتائج وملاحظات خرج مهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال» بمفاجأة رائعة

محمد رُضا‬ (القاهرة)
سينما دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)

شاشة الناقد: فيلمان من لبنان

أرزة هي دياماند بو عبّود. امرأة تصنع الفطائر في بيتها حيث تعيش مع ابنها كينان (بلال الحموي) وشقيقتها (بَيتي توتَل). تعمل أرزة بجهد لتأمين نفقات الحياة.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق الفنان المصري أحمد زكي قدم أدواراً متنوعة (أرشيفية)

مصر تقترب من عرض مقتنيات أحمد زكي

أعلن وزير الثقافة المصري الدكتور أحمد فؤاد هنو عن عرض مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، ضمن سيناريو العرض الخاص بمركز ثروت ‏عكاشة لتوثيق التراث.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

وثائقي ينقل بعيون إسرائيلية وفلسطينية واقع الاستيطان في الضفة الغربية

المخرجان الفلسطيني باسل عدرا (يسار) والإسرائيلي يوفال أبراهام في باريس (أ.ف.ب)
المخرجان الفلسطيني باسل عدرا (يسار) والإسرائيلي يوفال أبراهام في باريس (أ.ف.ب)
TT

وثائقي ينقل بعيون إسرائيلية وفلسطينية واقع الاستيطان في الضفة الغربية

المخرجان الفلسطيني باسل عدرا (يسار) والإسرائيلي يوفال أبراهام في باريس (أ.ف.ب)
المخرجان الفلسطيني باسل عدرا (يسار) والإسرائيلي يوفال أبراهام في باريس (أ.ف.ب)

بعد أن أحدث ضجة كبيرة في مهرجان برلين السينمائي أوائل العام، يُطرح في صالات السينما الفرنسية الأربعاء الوثائقي «لا أرض أخرى» No Other Land الذي صوّرت فيه مجموعة من الناشطين الإسرائيليين والفلسطينيين لخمس سنوات عملية الاستيطان في مسافر يطا في منطقة نائية بالضفة الغربية.

وقد فاز الفيلم بجائزة أفضل وثائقي في مهرجان برلين السينمائي، فيما اتُّهم مخرجاه في ألمانيا وإسرائيل بمعاداة السامية بعدما قالا عند تسلّم جائزتهما إن الوضع الذي يعكسه الوثائقي هو نظام «فصل عنصري».

أحد مخرجي العمل، باسل عدرا، ناشط فلسطيني ولد في مسافر يطا، وهي قرية تتعرض لهجمات متكررة من المستوطنين. أما الآخر، يوفال أبراهام، فهو إسرائيلي يساري كرّس حياته للعمل في الصحافة.

ويستعرض المخرجان الثلاثينيان في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية محطات إنجاز هذا الوثائقي، ويكرران المطالبة بإنهاء الاستيطان.

سيارات لفلسطينيين أحرقها مستوطنون في ضواحي رام الله (د.ب.أ)

يقول يوفال أبراهام عن الفصل العنصري: «من الواضح أنه ظلم! لديك شخصان (أبراهام وعدرا) من العمر نفسه، يعيشان في ظل نظامين تشريعيين مختلفين، تفرضهما دولة واحدة. لا أعتقد أن هذا يجب أن يوجد في أي مكان في العالم في عام 2024 (. .. ) لا يجوز أن يعيش الفلسطينيون في هذه الظروف، تحت سيطرة جيش أجنبي. يجب أن يتمتع كلا الشعبين بحقوق سياسية وفردية، في إطار تقاسم السلطة. الحلول موجودة ولكن ليس الإرادة السياسية. آمل أن نرى خلال حياتنا نهاية هذا الفصل العنصري (...) اليوم، من الصعب جدا تصور ذلك».

وعن اتهامه بمعاداة السامية قال: «هذا جنون! أنا حفيد ناجين من المحرقة، قُتل معظم أفراد عائلتي خلال الهولوكوست. أنا آخذ عبارة معاداة السامية على محمل الجد، وأعتقد أن الناس يجب أن يتساءلوا لماذا أفرغوها من معناها من خلال استخدامها لوصف أولئك الذين يدعون إلى وقف إطلاق النار، وإنهاء الفصل العنصري أو إلى المساواة (...). إنها ببساطة طريقة لإسكات انتقادات مشروعة للغاية. معاداة السامية أمر حقيقي يسجل تزايدا في جميع أنحاء العالم. لذا فإن استخدام هذه العبارة كيفما اتفق فقط لإسكات الانتقادات الموجهة إلى دولة إسرائيل، أمر خطر للغاية بالنسبة لليهود».

وعن اكتفاء الوثائقي بعرض وجهة نظر واحدة فقط ترتبط بالفلسطينيين المطرودين من أرضهم، أوضح أبراهام: «لكي يكون الفيلم حقيقيا، يجب ألا يخلط بين التماثل الزائف (بين وجهتي نظر المستوطنين والفلسطينيين) والحقيقة. ويجب أن يعكس عدم توازن القوى الموجود في المكان. ما كان مهما بالنسبة لنا هو إظهار الاضطهاد المباشر للفلسطينيين.

عندما تنظر إلى مسافر يطا، فإن الخلل في التوازن لا يُصدّق: هناك مستوطنون موجودون هناك بشكل غير قانوني بحسب القانون الدولي، ويحصلون على 400 لتر من المياه في المعدل، بينما يحصل الفلسطينيون المجاورون على 20 لترا. يمكنهم العيش على أراضٍ شاسعة بينما لا يحظى الفلسطينيون بهذه الفرصة. قد يتعرضون لإطلاق النار من الجنود عندما يحاولون توصيل الكهرباء. لذا فإن عرض هذا الوضع غير العادل، مع هذا الخلل في توازن القوى، من خلال وضعه في منظور جانبين متعارضين، سيكون ببساطة أمرا مضللا وغير مقبول سياسيا».

مشهد من فيلم «لا أرض أخرى» (أ.ب)

* باسل عدرا

من جهته، قال باسل عدرا عن تزايد هجمات المستوطنين بعد هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023: «الوضع سيئ وصعب للغاية، منذ عام لم نعد نعرف ما سيحدث (...) في منطقة جنوب الخليل. هجر البعض بسبب الهجمات، خصوصا في الليل، لكن قرى أخرى مثل قريتي بقيت تحت ضغط هائل، وقُتل ابن عمي برصاصة في البطن، كما رأينا في الفيلم. (المستوطنون) يريدون أن يخاف الناس ويغادروا (...) وهم المنتصرون في هذه الحرب في غزة، وهم الأسعد بما يحدث وبما تفعله الحكومة (الإسرائيلية)».