عودة إلى «اتفاق الطائف» وما قبله

جديد كمال الصليبي عن «الجماعة والدولة والأمة في المشرق العربي»

عودة إلى «اتفاق الطائف» وما قبله
TT

عودة إلى «اتفاق الطائف» وما قبله

عودة إلى «اتفاق الطائف» وما قبله

لا يزال بمقدور القارئ العربي اكتشاف جديد للمفكر كمال الصليبي، بعد نحو 8 سنوات من وفاته. فقد عكف محمود شريح على ترجمة بحث بالإنجليزية للراحل، وصدر مؤخراً في كتاب باللغتين: العربية، ولغته الأصلية الإنجليزية عن «دار نلسن» في بيروت. والبحث ينظر في موضوع راهن، رغم أنه كتب على ضوء اتفاق الطائف، ونشر عام 1992 في «ثي بيروت ريفيو»، وعنوانه «الجماعة والدولة والأمة في المشرق العربي» يعرّج فيه على سبب تفكك اللحمة الاجتماعية والسياسية في المنطقة العربية، وبشكل خاص في بلاد الشام؛ لكنه في عمقه يحاول أن يفهم الأمراض اللبنانية المزمنة ويرى إلى شفائها.
صاحب الكتاب الشهير «التوراة جاءت من جزيرة العرب» الذي أثار نقاشات حامية استمرت طويلاً منذ صدور ترجمته العربية عام 1985، وأحدث ثورة في الدراسات التوراتية، يذهب في بحثه الذي بين أيدينا إلى محاولة فهم تركيبة المجتمع اللبناني وسيكولوجيته، بدءاً من حرب عام 1958، مروراً بحرب 1975، مقارناً الوضع اللبناني بما يعيشه الأردن، محاولاً فهم لعبة الولاءات الفردية والجماعية.
وإذا كانت بداية البحث تنحصر في الحيز النظري العام، وتنشغل بالتعريفات لكل من «الدولة» و«الأمة» و«الجماعة» تفادياً للغموض، فإن هذا يسهل على الكاتب، بعد ذلك، شرح فكرته فيما يخص لبنان ومحيطه. فالأمة تعني «شعباً يمتلك حساً بالوحدة، دون أن يعني هذا بالضرورة تملّكه لحكومة مشتركة». أما حين نتحدث عن دولة فهذا يعني «وجود شعب موحد سياسياً يعيش في منطقة جغرافية محددة، بإشراف حكومة مركزية واحدة» ومن هنا يكون الكلام على الحماس الوطني أو حب الوطن. أما «الجماعة» فهي «كيان اجتماعي يجمعه تراث موحّد وصفات مشتركة؛ لكن دون كونه أمّة أو دولة». وبالتالي فدولة ما قد تشتمل على أمم مختلفة. وقد تشتمل أمة ما على جماعات مختلفة أيضاً، لكل منها طبيعتها. كما قد تضم الدولة جماعات تشترك معاً في العيش بانسجام، أو تبقى في نزاع، مع أنها تعيش في ظل حكومة واحدة. هكذا تبقى المفاهيم مطاطية عند كمال الصليبي، الذي يحاول أن يجد في تعريفاته التي يستمدها من لغات أجنبية ما ينطبق على الوضع في دول عربية لا تزال قيد التشكل السياسي، معتبراً أن الخلافات داخل الدولة الواحدة حين تكون قابلة للتسوية، كما حدث في لبنان بعد حرب مدمرة، فهذا يعني أن الكيان قابل للحياة، أما حين تستعصي الحلول فلا تجني الشعوب حينها غير الفوضى والتمزق.
وما الأحزاب السياسية من وجهة نظر الصليبي إلا ممثلة للجماعات داخل الدولة الواحدة، باختلافاتها وتباينات رؤاها، ووظيفتها الفعلية هي محاولة التواصل والتفاهم، وإيجاد صيغ التعايش. وهذا الدور هو بمثابة تعويض عن النقص الذي يعاني منه المجتمع. لكن الأحزاب في بلدين مثل لبنان والأردن، نعما بديمقراطية نسبة إلى محيطهما، لم تتمكن من لعب هذا الدور.
استطاعت الأحزاب الأردنية تخطي الانقسام الديني؛ لكنها لم تنجح في تذويب الولاءات القبلية والمناطقية والإقليمية التي قد تكون أكبر وأهم. أما في لبنان فقد فشلت الأحزاب عموماً في تجاوز الحواجز الدينية والطائفية. لذلك فإذا كان من تشابه بين البلدين، فهو أن التوصل إلى صيغة وحدة وطنية فيما بعد احتاج عملاً ديمقراطياً، لم يتم عبر الأحزاب السياسية؛ بل احتاج تفاهمات بين الجماعات الدينية أو القبلية نفسها المشكِّلة للمجتمع. ففي لبنان لعقد اتفاق الطائف كان لا بد أن تُأخذ الجماعات الدينية بعين الاعتبار، ويتم دمجها في نص الدستور.
ويقرّ الصليبي بصعوبة العثور على دولة عربية تمارس الديمقراطية على أساس حزبي سياسي، دون أن تكون الجماعات المكونة للمجتمع دينية أو قبلية هي الأساس. ويعقد مقارنة مع دولة غير عربية وقريبة جغرافياً هي اليونان، دولة كثرت فيها الخلافات والنزاعات، لكنها في النهاية تمكنت من فض خلافاتها والحفاظ على ديمقراطيتها بتطوير الأحزاب السياسية وتفعليها، على عكس ما يحدث في الديمقراطيات العربية الغضة.
يقدم الصليبي عرضاً مسهباً وشيقاً حول العلاقة الوثيقة بين الانتماءين الديني والقبلي، في المنطقة العربية؛ بحيث يصعب فصل أحدهما عن الآخر. وعلى عكس ما يشاع هما ليسا متناقضين؛ بل هما متمفصلان في لحمة قوية. ويشرح بأن بعض الجماعات القبلية الإسلامية أو المسيحية التي ارتبطت تاريخياً، كانت على الأرجح قد تحوّلت إلى إحدى الديانتين لتعزيز وجودها الاجتماعي الخاص بها. ففي قبيلة أو عشيرة ما، ليس الانتماء خياراً شخصياً؛ بل هو ميراث، كما أن الإحساس بالانتماء إلى عصبية اجتماعية مستمدّ من الشعور بالولاء الطوعي للجماعة. إلى هذا الحد تبدو الأمور مترابطة ومركبة؛ بحيث يصعب الفصل بين المفاهيم والانتماءات والولاءات عند الشخص الواحد، أو المجموعة الدينية أو القبلية. ويصل الأمر إلى حد أن أعراف الشرف والعار أقوى اجتماعياً أحياناً من سطوة الشرع الديني نفسه. كل هذا ليذكر أن الدولة العربية الحديثة لا تزال غضة، ويقارب عمرها السبعين عاماً، وأهلها قبل ذلك كانوا يخضعون في غالبيتهم للشرع الإسلامي كقانون يحكمهم. وهو لا يزال مطبقاً جزئياً على الأحوال الشخصية في بعض الدول أو كلياً في دول أخرى.
وبما أن الصليبي يكتب بحثه وفي ذهنه بلده لبنان، الخارج يوم كتابة بحثه من حرب أهلية طائفية دامية، فهو يعود ليذكّر بتشكل هذا الوطن الصغير، وكيف أن مكوناته بطوائفها كانت على نزاعات سبقت إعلان لبنان الكبير. وبعض هذه الطوائف لم تكن راضية عن الحدود الجديدة التي فرضها الانتداب. السنة والشيعة، كما الدروز، لم يكونوا راضين عن مشاركة اللبننة مع المسيحيين الذين رأوا في الكيان اللبناني ملاذهم الآمن. وعلى نحو مماثل امتنع بعض المسيحيين عن الانضواء تحت لبننة ترتبط وثيقاً بالمصالح السياسية المارونية. أكثر من ذلك أن المسلمين اعتبروا أنفسهم أحق بالحكم من المسيحيين، وبالتالي مقابل القومية اللبنانية التي احتمى بها الموارنة، كان ثمة من يتصدى لها بالقومية العربية. اشتعلت الحرب الأهلية تحت وطأة هذه الخلافات وغيرها، ومع ذلك لم يقسّم لبنان، لأسباب لعل أهمها الوعي العام بـ«هوية سياسية مشتركة» تشكلت تدريجياً، وما استشعره الناس من ضيم وفوضى عند غياب الدولة، وإحساسهم بأن مصلحتهم تلتقي بالتوحد لا بالانقلاب عليه.
يكتب الصليبي مهاجماً زعماء المكونات العشائرية – المذهبية، معتبراً أنهم «مثل زعماء القبائل، يعتمدون على جهل أتباعهم لبسط سلطانهم الاجتماعي والسياسي. فهم مهرة في فنّ خلق أوهام في نفوس أتباعهم لتعزيز مواقفهم، لا سيما متى كانت زعامة العشيرة أو القبيلة تتحكّم بأتباعها عبر الوراثة السلالية. وفي هذه الحالات فإن استثمار الجهل وسط الجماعة يسري في مجرى الوراثة الاستمرارية من جيل زعماء أول، إلى جيل زعماء ثانٍ».
يعرج الكاتب على تشكل الدولة السورية التي أريد لها في البدء أن تكون أربعة أجزاء، وهي دولة دمشق ودولة حلب اللتان التحقتا طوعاً بالدولة السورية، ومن ثم دولة جبل الدروز ودولة العلويين اللتان ضُمتا بعمل عسكري، وقامت دولة مركزية قوية على حساب الديمقراطية. ولم تكن هذه المجموعات لتلتئم لولا تبني القومية العربية على الدوام لبناء اللحمة بين المجموعات المختلفة. والأمر كان مشابهاً في الأردن عند جلاء الانتداب البريطاني عن البلاد. وما كان للمكون الفلسطيني أن يجد أمنه وسلامه لولا أمران أساسيان مشابهان لما حصل في سوريا، وهما تبني العروبة، ومحاولة تطبيق المساواة بين مختلف فئات الشعب، بصرف النظر عن الاختلافات وتباين المذاهب والعشائر.
وبالتالي يرى الصليبي أن واحدة من مشكلات لبنان التي لا نراها في محيطه، هي نكران بعض جماعاته انتماءها العروبي بسبب تمفصله مع الإسلام. وهذا لعب دوراً في تأجيج النزاعات. فالقومية اللبنانية لا تكفي لأنها لا تجمع اللبنانيين على اختلاف مناطقهم وطوائفهم. بينما اعتراف اللبنانيين جميعاً بعروبتهم هو عامل مساعد يحتاج في الوقت نفسه لأن يعاملوا من محيطهم العربي على قدم المساواة، دون تفرقة بين فئة وأخرى. من هنا تأتي أهمية التأكيد على عروبة لبنان في اتفاق الطائف، لحسم خلاف تسببت فيه صيغة 1943 المبهمة، التي اعتبرت لبنان ذا وجه عربي، وهو ما لم يساعد يوماً على المصالحة بين القومية اللبنانية والقومية العربية.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.