باريس تستعد لاستقبال حدائق جديدة في برجيها الشهيرين

إن من يزور باريس أو يسوح فيها الآن، سيجدها متغيرة تماماً بعد خمس سنوات. ستكون أكثر رحابة وخُضرة، ما سيجعلها جديرة بحمل لقب قبلة الأناقة والجمال في العالم. الفضل في هذا يعود إلى عمدتها، آن هيدالغو، التي تحولت إلى واحدة من الشخصيات المكروهة لدى شريحة واسعة من سكان العاصمة الفرنسية بسبب انحيازها للمتنزهين على الأقدام ضد سائقي السيارات. وخلال السنوات الخمس الأخيرة نجحت هيدالغو في تحوير مئات الكيلومترات من الشوارع والجادات لكي تنحسر فيها الممرات المخصصة للسيارات، لصالح ممرات الدراجات الهوائية والأرصفة العريضة للمشاة. إن هذه المهاجرة الأندلسية الأصل التي أوصلها الحزب الاشتراكي إلى منصبها المرموق تستند في سياستها على فكرة محاربة تلوث البيئة، وتقليل الغازات المنبعثة من عوادم السيارات والحافلات السياحية، التي تجعل هواء باريس ثقيلاً وأسود.
قبل فترة، كشفت عمدة باريس عن مشروع ضخم جديد لتوسيع المساحات الخضراء حول برج «إيفل»، على ضفة نهر «السين» في قلب العاصمة. وتبلغ مساحة المناطق الإضافية التي ستكسوها النباتات والأشجار أربعة وخمسين هكتاراً، تتخللها أماكن ومسارات للتنزه سيراً على الأقدام أو بالدراجات الهوائية. هذا يعني أن السيارات ستكون مستبعدة وممنوعة من دخول المنطقة، مثلما عليه الحال في الوقت الحاضر. فقد كانت الحافلات وجميع وسائط النقل العمومية تصل إلى مبعدة أمتار من البرج المسمى «السيدة الحديدية». أما عند اكتمال المرحلة الأولى من المشروع، بحدود عام 2024، فإن بلوغ المنطقة سيكون متاحاً بمترو الأنفاق، من محطة «تروكاديرو»، أو عبر ترتيبات خاصة لوقوف الباصات السياحية في مرأب مخصص لها، ولا يبعد كثيراً عن البرج الذي يعتبر من أكثر الصروح زيارة في العالم.
كانت بلدية باريس قد أطلقت في العام الماضي مناقصة عالمية لاختيار أفضل عرض يسمح بتغيير جمالية الأماكن المحيطة ببرج «إيفل». وجاء في المواصفات المطلوبة أن يسمح المشروع لسكان العاصمة الفرنسية وزوارها بقضاء أوقات ممتعة فيها بعيداً عن ضجيج السيارات، شريطة أن يُنجز الجزء الأكبر قبيل الألعاب الأولمبية التي ستحتضنها باريس في عام 2024 في انتظار إتمام الأشغال بحدود عام 2030. ومن بين 4 عروض اختيرت في القائمة القصيرة للمتنافسين، نجحت الأميركية كاثرين غوستافسون، المتخصصة في هندسة الحدائق، في الفوز بالمناقصة وتقديم عرض لطيف يجعل من البرج والأماكن القريبة منه «جنينة تغرد فيها العصافير»، حسبما جاء في تقديم المشروع.
وحظي عرض منسقة الحدائق الأميركية برضا الباريسيين، ولم يعتبروها غريبة عنهم، ما دامت تلقت علومها في المدرسة الوطنية الفرنسية لتنسيق المساحات الخضراء في فيرساي. لكن المشروع أثار حفيظة أصحاب السيارات ومالكي الشقق الفخمة في الأماكن المحيطة بالبرج. كيف سيتمكنون من بلوغ مرائب الوقوف الكامنة تحت عماراتهم؟
سعت عمدة باريس إلى تقليد عواصم ومدن عالمية كبرى تمتلك رئة خضراء تتنفس فيها «بملء رئاتها». إن لندن، مثلاً، تتباهى بمتنزهات «هايد بارك». ولنيويورك فضاؤها الشاسع المسمى «سنترال بارك». وهناك في برلين حديقة «موير بارك»؛ فهل يأتي المشجعون إلى عاصمة النور لحضور الألعاب الأولمبية، بعد أقل من خمس سنوات، دون أن يعثروا على مساحات مفتوحة تستوعبهم ويتمددون فيها ويستريحون ويتناولون المرطبات وأصابع البطاطا المقلية الفرنسية الشهيرة؟ بعد سنوات قلائل سيكون البرج فسحة تحتضن أكبر حديقة عامة في باريس، تمتد طولاً على 1.6 كيلومتر، يتوسطها كثير من النافورات ومزودة بـ1200 مقعد للجلوس تطل على منظر عام للبرج الفريد في عمارته.
يمكن القول إن وجه المنطقة سيغير بالكامل. وستشمل التغييرات ساحة «تروكاديرو» التي يتوسطها تمثال الماريشال فوش، وجسر «آلماً» الذي ستغزوه الخضرة ويستحوذ عليه المشاة، وكذلك الساحة المقابلة للمدرسة العسكرية، والفضاء المفتوح تحت البرج، المسمى «شان دو مارس» والممتد حتى جسر المترو وخط رقم 6، أحد خطين تخرج فيهما المقطورات من أنفاقها تحت الأرض لتسير على سكك تحملها الأعمدة. وطبعاً، فإن لهذه التغييرات كلفة باهظة. وقد جرى تقديرها بنحو من 72 مليون يورو، تدفعها بالكامل الشركة التي تتولى استثمار البرج وإدارته، أي من عائدات تذاكر الدخول ومن حقوق استخدام صور «السيدة الحديدية»، في الأفلام والمسلسلات ووسائل الإعلام والإعلانات السياحية. وللعلم، فإن 20 مليون شخص يترددون على المنطقة المحيطة ببرج «إيفل» سنوياً، ويشتري 6 ملايين منهم تذاكر لارتقائه عبر المصاعد الكهربائية التي تقود إلى الطابقين الأول والثاني، ثم إلى الطابق الثالث، لمن يريد التمتع بوجبة طعام لا تُنسى في المطعم الدوار المطل على باريس من أعلى نقطة ممكنة فيها. هل كان مصمم البرج، المهندس غوستاف إيفل (1832 - 1923) يحلم بهذا يوم أن شيده من أطنان الحديد لمناسبة محددة هي المعرض الكوني؟!
مع اكتمال المشروع، تكون عمدة باريس قد حققت مسعاها في إتاحة الفرصة للمشاة وراكبي الدراجات الهوائية في قطع العاصمة من شرقها إلى غربها دون أن تعترضهم السيارات. ولا تخفي آن هيدالغو حلمها بتحويل باريس إلى «عاصمة نباتية». وهذا يذكرنا بكثير من المباني الحديثة التي باتت تعتمد الواجهات ذات الحدائق العمودية، مثل متحف «رصيف برانلي» للفنون البدائية، الموجود على مسيرة دقائق من البرج الحديدي. ثم هناك برج «مونبارناس»، أعلى عمارة في باريس. وهي أيضاً قد دخلت طور التجديد من خلال مشروع طموح لتحويل أجزاء منها إلى جنائن معلقة.
كان البرج القاتم يعاني من نفور مستديم بينه وبين سكان العاصمة؛ فهو لا يحمل ملامح معمارية تنسجم مع ما حوله من مبانٍ عتيقة، فضلاً عن أن آثار الزمن تسللت إليه وباتت تهدد سلامة المكاتب المنتشرة في طوابقه والمركز التجاري الذي يحتل طابقه الأرضي، بل إن بعض الأصوات ارتفعت لتطالب بهدم هذا «الطوطم» الأسود الذي يقطع استرسال النظر ويعيق تأمل حي مونبارناس الذي كان مرتع الفنانين والمسارح الشهيرة، في النصف الأول من القرن الماضي. وقد جاء مشروع التحديث لينقذ البرج من الهدم وليمنحه حياة ثانية، خضراء هذه المرة. ومن التحويرات التي سيخضع لها إضافة شرفات مزروعة بالنباتات المتدلية وطوابق أقرب إلى الأرض تكون بمثابة حدائق حقيقة تنبت فيها مختلف الأشجار.
مرة أخرى، خضع المشروع لمسابقة عالمية أعلنت عنها جمعية شاغلي البرج. وفازت به 3 مكاتب هندسية فرنسية تقدمت بعرض مشترك وُصِف بأنه «مسؤول ومثالي ويحترم البيئة». وطبعاً، حظي المشروع بمباركة عمدة باريس التي وجدته يندرج ضمن رؤيتها لبث الخضرة في كل مكان، وسط غابة الإسمنت التي كادت تلتهم المدينة العتيقة وضواحيها. وبهذا، فإن من زار باريس وساح فيها من قبل سيجد مدينة أكثر رحابة لو عاد إليها بعد 5 سنوات، أي عاصمة جديرة بحمل لقب قبلة الأناقة والجمال في العالم.