مهرجان بيروت الدولي (بياف) يكرم 18 مبدعا من لبنان والعالم

منهم ويليام حنا وجوزف برباري مبتكرا الرسوم الكرتونية «توم آند جيري»

المغنية الفرنسية باتريسيا كاس تستلم جائزتها في مهرجان «بياف»
المغنية الفرنسية باتريسيا كاس تستلم جائزتها في مهرجان «بياف»
TT

مهرجان بيروت الدولي (بياف) يكرم 18 مبدعا من لبنان والعالم

المغنية الفرنسية باتريسيا كاس تستلم جائزتها في مهرجان «بياف»
المغنية الفرنسية باتريسيا كاس تستلم جائزتها في مهرجان «بياف»

لم تكد تمر 24 ساعة على إقامة مهرجان «موركس دور»، حتى كانت بيروت على موعد آخر مع الفرح والفن من خلال إقامة مهرجان بيروت الدولي (بياف) في دورته الخامسة في منطقة «زيتونة باي» وسط المدينة.
حضر الحفل الذي كرم 18 مبدعا من لبنان والعالم، حشد من أهل الصحافة والفن، بالإضافة إلى نجوم من العالم العربي، كالممثل حسين فهمي، والمطربة لطيفة، وكذلك المغنية الفرنسية باتريسيا كاس التي كانت أيضا من بين الشخصيات المكرمة.
تحت عنوان دورة «ويليام حنا وجوزف برباري» وهما الأميركيان لبنانيا الأصل اللذان ابتكرا أكثر من 70 شخصية كارتونية وبينها «توم آند جيري»، افتتحت الدورة الخامسة للمهرجان الذي أخذ على عاتقه تكريم مبدعين من لبنان والعالمين؛ العربي والغربي.
واستهل الحفل بكلمة لرئيس لجنة المهرجان ومنظمه الدكتور ميشال ضاهر، أكد فيها أن بيروت هي أرض المبدعين، فكان من البديهي أن يستقطب المهرجان شخصيات مميزة أبدعت في حقول السياسة والفن والعلوم والتجارة والهندسة وغيرها ليجري تكريمها.
وكان اللافت في المهرجان، الذي جرى عرضه مباشرة على محطة «إم تي في» والذي شارك في تقديمه الإعلاميان ناديا البساط ومحمد قيس، هو أن يتولى مكرمون سابقون فيه، أمثال الفنانات أليسا، ولطيفة، والممثلة نادين الراسي، تقديم الجوائز لأصحابها الذين جاؤوا من مختلف دول العالم، ومن بينها الولايات الأميركية، والمملكة العربية السعودية، وأرمينيا، وفرنسا، ومصر، والجزائر، وغيرها.
وكانت الأديبة أحلام مستغانمي أولى المكرمات في المهرجان عن إبداعها في كتابة الشعر وتأليف قصص ترجمت إلى مسلسلات درامية، فشكرت القائمين على المهرجان لاختيارها مؤكدة أن لبنان بلد الحرف والحضارات وسيبقى كذلك إلى الأبد.
أما وزير السياحة في لبنان، ميشال فرعون، فلم يحضر المهرجان بصفته راعيا رسميا له فقط، بل بصفته مكرما سياسيا، ابن بيت سياسي عريق، فعمل وجاهد لإظهار الوجه الجميل للبنان منذ توليه زمام أمور وزارة السياحة، رغم الأوضاع غير المستقرة التي كانت له بالمرصاد، فأشار بدوره إلى أن لبنان بلد مليء بالاستثناءات، وأن المهرجان بحد ذاته يجري في مكان وزمان وأوضاع استثنائية تصب في خانة تحدي شعبه الدائم للصعاب.
وعن فئة الغناء جرى تكريم المطرب وائل كفوري، كونه أحد الفنانين اللبنانيين، الذي أبدع في أدائه الغناء اللبناني طيلة مشواره الفني، منذ كان عمره 22 عاما، وبعد عرض ريبورتاج مصور عن أهم المحطات المضيئة في مشواره الغنائي، أدى أغنية «يا روحي بحبك» مفتتحا المهرجان على طريقته.
وبعده مباشرة أطلت المغنية الفرنسية المشهورة باتريسيا كاس بعد أن جرى تسميتها واحدة من بين المكرمين في «بياف»، فتسلمت جائزتها من الفنانة إليسا، والنائب السابق مصباح الأحدب، مبدية سعادتها بوجودها في لبنان من جديد هي التي زارته في المرة الأولى في عام 1994، وارتجلت قسما من أغنيتها الشهيرة «mon mec a moi»، ولتنسحب عن المسرح ولتؤدي الفنانة إليسا واحدة من أغانيها الجديدة «يا مرايتي».
وبعد أن جرى تكريم لبنانيين ذاع صيتهم في العالم، أمثال الوزيرة ليلى الصلح، والمهندس المعماري برنار خوري، كانت المحطة الثالثة مع فريال المصري من المملكة العربية السعودية التي استطاعت تمثيل الحزب الديمقراطي بصفتها نائبا في أميركا، وبالتحديد عن ولاية كاليفورنيا.
أما الوجه الفني اللبناني الذي لطالما اشتاق إليه اللبنانيون منذ فترة طويلة والتقوه في هذه المناسبة، فكان للمطربة هدى حداد (شقيقة فيروز)، فجرى تكريمها بصفتها مبدعة من لبنان وأدت في هذه المناسبة واحدة من أغانيها المعروفة.
ومن بين النساء المكرمات أيضا في هذا المهرجان، كاتبة المسلسلات اللبنانية كلوديا مرشيليان، إضافة إلى الممثلة اللبنانية كارمن لبّس.
وخص المهرجان الطبيب اللبناني المشهور في بريطانيا، نادي حكيم، بالتكريم لتميزه في مجال «زراعة الأعضاء»، وكونه أول من تمكن في العالم من زرع «البانكرياس» لمريض عانى من فقدان هذا العضو في جسمه، وسلّط المهرجان الضوء على الوجه الآخر للطبيب اللبناني؛ حيث إنه عازف كلارينيت، وقد أصدر 7 ألبومات في هذا المجال.
ومن مصر جرى تكريم المبدع في مجال التمثيل الفنان حسين فهمي، فسلمه جائزته كل من المطربة التونسية لطيفة والممثل اللبناني رفيق علي أحمد، وكان للفنانة التونسية وصلة غنائية على المسرح؛ بحيث أدت أغنية «أحلى حاجة فيّ» من ألبومها الجديد.
وذكر اسم المقدمة التلفزيونية كارين بستاني أكثر من مرة من قبل بعض المكرمين الذين جاؤوا من خارج لبنان، مستشهدين بأهمية برنامجها التلفزيوني «أسماء من التاريخ»، الذي ساهم في التعريف بهم وفي تسميتهم لهذه الجوائز التكريمية، ومن بين هؤلاء المكرمين السينمائي الأميركي اللبناني الأصل سيلفيو تابت، والطبيب نادي حكيم، والسيدة فريال المصري من السعودية.
ومن بين المكرمين أيضا رجل الأعمال اللبناني وائل ضو، الذي لمع اسمه في مجال التسويق في دولة الإمارات العربية، وبعدها؛ أي في القسم الأخير من المهرجان، جرى تكريم كل من عازف البيانو غي مانوكيان، والممثل بيتر سمعان، والنحّات أنطوان برباري.
وكانت نهاية المهرجان مع التينور اللبناني ماتيو خضر، الذي منح جائزة الإبداع عن تميزه في العالم بصوته الأوبرالي (5 أوكتاف)، فكان واحدا من بين الـ63 مغني «كونترتينور» في العالم، الذي أهدى الحضور واحدة من أغنياته الأوبرالية، فشكّلت مسك الختام.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)