لعنة «الأمن المهتز» تلاحق طرابلس مجدداً

الفقر المدقع العامل الأبرز وراء التحاق عدد كبير من شباب المدينة بالمجموعات المتطرفة

شرطيون لبنانيون في موقع الهجوم الذي تعرضت له دورية لقوى الأمن الداخلي في مدينة طرابلس يوم الإثنين الماضي (رويترز)
شرطيون لبنانيون في موقع الهجوم الذي تعرضت له دورية لقوى الأمن الداخلي في مدينة طرابلس يوم الإثنين الماضي (رويترز)
TT

لعنة «الأمن المهتز» تلاحق طرابلس مجدداً

شرطيون لبنانيون في موقع الهجوم الذي تعرضت له دورية لقوى الأمن الداخلي في مدينة طرابلس يوم الإثنين الماضي (رويترز)
شرطيون لبنانيون في موقع الهجوم الذي تعرضت له دورية لقوى الأمن الداخلي في مدينة طرابلس يوم الإثنين الماضي (رويترز)

ظنّت طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني، أنها طوت في عام 2015 صفحة سوداء من تاريخها لطّختها دماء المئات من أبنائها الذين قُتِلوا سواء في الصراع المذهبي التاريخي الطويل بين أبنائها العلويين الذين يسكنون في «جبل محسن» وأبنائها السنّة الذين يتمركز قسم كبير منهم في «باب التبانة»، أو في التفجيرات الانتحارية المتلاحقة التي شهدتها. إلا أن لعنة «الأمن المهتز» عادت لتلاحقها مجدداً مع إقدام أحد العناصر اللبنانيين الذين كانوا يقاتلون في صفوف «داعش» بسوريا على استهداف آليتين للجيش وقوى الأمن الداخلي في المدينة عشية عيد الفطر، ما أدى إلى مقتل 4 عناصر أمنيين عن طريق الغدر.
وعلى الرغم من كل التطمينات التي تصدر من هنا وهناك حول كون الحادثة فردية وأن الإرهابي الذي فجّر نفسه غير مرتبط بقيادة التنظيم أو بمجموعة كبيرة، تفاقمت مخاوف الطرابلسيين من عودة المسلسل الأمني الدامي ليطرق أبوابهم بقوة بعد نحو 4 سنوات من الاستقرار الذي نعموا به كما باقي المناطق اللبنانية، وذلك منذ سير القوى السياسية بالتسوية التي أدت لانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وتسمية سعد الحريري رئيساً للحكومة.
وتتركز الأنظار حالياً على العناصر الذين قاتلوا إلى جانب التنظيمات المتطرفة سواء في سوريا أو العراق وعادوا في الفترة الأخيرة إلى لبنان بعد أن تشربوا «الفكر المتطرف» واكتسبوا خبرات قتالية وأخرى مرتبطة بكيفية تنفيذ أعمال إرهابية. وفيما تتكتم الأجهزة الأمنية حول العدد التقريبي لهؤلاء، تتحدث بعض المصادر عن أنه يتخطى الـ500، علماً بأن أعداداً أخرى منهم تُقدَّر بـ600 جرت محاكمتهم في فترات سابقة بعد أن تم إلقاء القبض على معظمهم عند حدود لبنان الشرقية، وهم لبنانيون وسوريون وفلسطينيون، في وقت لا يزال المئات من أمثالهم قيد التحقيق والمحاكمة.
وقبل نحو أسبوع، أعلنت قيادة الجيش اللبناني أن مديرية المخابرات أحالت إلى القضاء المختص، 8 عناصر ينتمون إلى خلية تابعة لتنظيم «داعش» بعد أن تم رصدهم وتوقيفهم في مناطق لبنانية مختلفة، وقد دخلوا الأراضي اللبنانية خلسة إثر تضييق الخناق عليهم في الداخل السوري وبالتحديد في منطقة الباغوز. وكانت مديرية المخابرات تسلّمت، العام الماضي، ثمانية لبنانيين، بالتعاون مع الاستخبارات الأميركية كانوا يقاتلون في صفوف «داعش» في سوريا والعراق، وباشرت التحقيق معهم بإشراف القضاء العسكري. وقد أدت التحقيقات إلى توقيف عناصر تابعين للتنظيم في لبنان، كانوا ضمن خلايا نائمة.

الأولوية للعمل المخابراتي
لا تزال الأجهزة الأمنية والعسكرية تدقق في العملية الأمنية الأخيرة التي شهدتها طرابلس، وإن كانت مصادر أمنية لا تخفي أنه يتم التحقيق مع عدد من الموقوفين لتبيان ما إذا كان الإرهابي عبد الرحمن مبسوط الذي نفذ العملية قد خطط لها وحيدا أم أنه مرتبط بخلية إرهابية. وتشير مصادر عسكرية إلى أن العمل اليوم يتم على خطين أساسيين لتفادي تكرار العملية التي شهدتها طرابلس سواء في المدينة نفسها أو في مناطق لبنانية أخرى، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه، ومنذ فترة، بدأ الانكباب على محاولة ضبط الحدود رغم صعوبة الأمر لغياب العدد والعتاد اللازم لقطع الطريق على عمليات تهريب وعودة العناصر الإرهابية من سوريا إلى لبنان. وأوضحت أن الطبيعة الجغرافية لجهة تداخل الأراضي والقرى تصعّب المهمة رغم أن أبراج المراقبة التي تم إنشاؤها غطت مساحات كبيرة إضافة للدوريات التي نقوم بها والتي هي الأخرى أسهمت بضبط الوضع ولكن ليس بالمستوى المطلوب، وهو ما يجعلنا نركّز بشكل أساسي على العمل الأمني والمخابراتي الداخلي الذي يقوم على ملاحقة ومتابعة العناصر العائدين، وقد أسهم ذلك إلى حد كبير بالتضييق عليهم ما صعب مهمتهم بضرب الاستقرار الداخلي. وتشدد المصادر العسكرية على وجوب أن يترافق كل هذا العمل الأمني والمخابراتي مع العمل على محاربة الفكر التكفيري، وهذا يتطلب مجهوداً كبيراً وتضافر جهود عدة فرقاء، لافتة إلى أن تطوع عدد كبير من أبناء طرابلس في الجيش يساهم كثيرا في هذا المجال إضافة إلى الدور الذي تلعبه مديرية التعاون المدني – العسكري في الجيش، التي تنفذ الكثير من المشاريع الإنمائية والنشاطات.
وشهد لبنان ما بين عامي 2013 و2015 عدداً كبيراً من التفجيرات الإرهابية، أغلبها نفّذت بواسطة انتحاريين، دخلوا بسيارات مفخخة من سوريا إلى لبنان، والبعض الآخر عبر دراجات نارية مفخخة وأحزمة ناسفة أوقعت عشرات الضحايا، والآن يُخشى من عودة هذا الكابوس، وفق التقييم الأمني، رغم أن خطره تقلّص إلى حدّ كبير.
ولا ينفي السياسي الطرابلسي والمستشار السياسي لرئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، الدكتور خلدون الشريف، أن العملية الإرهابية التي شهدتها طرابلس «معرضة للتكرار في المدينة كما في أي منطقة لبنانية أخرى، فالخلايا الإرهابية موجودة بكل مكان في العالم وقد ضربت في عدد كبير من الدول، وبالتالي المطلوب العمل اليوم على تعزيز الأمن الوقائي ورفع مستوى التضامن بين أهل الحكم، لأن الأمن الاجتماعي كما الأمن السياسي أساسيان لتوفير الاستقرار الأمني». ويضيف الشريف في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «القوى الأمنية تقوم بدور ممتاز، لكن المطلوب تنسيق أكبر في ما بينها ومتابعة الأشخاص المشكوك بهم بشكل لا يمس الأمن العام والأمن القومي».
ويرى الشريف أنه من الطبيعي والمنطقي أن يعود العناصر الذين قاتلوا إلى جانب المجموعات المتطرفة سواء في سوريا والعراق إلى المناطق ذات الغالبية السنية؛ إن كان طرابلس أو عكار أو البقاع الغربي وغيرها من المناطق، لأن كل هؤلاء من أبناء الطائفة السنية، وبالتالي سيعودون إلى البيئة التي ينتمون إليها، مشدداً على أن ذلك لا يعني على الإطلاق أن هذه البيئة كلها متطرفة، بل على العكس تماماً، باعتبار أن عدد المتطرفين صغير جداً، وهو ما أثبتته التجربة الأخيرة حين عبّر أهالي طرابلس عن كرههم ولفظهم للعملية الإرهابية الأخيرة التي استهدفتهم أصلاً. ويضيف: «لا شك أن الأمن الوقائي عنصر أساسي للتعامل مع هؤلاء العناصر مع أهمية إنشاء مراكز تأهيل للخارجين منهم من السجون لإعادة تكوين شخصيتهم».

خطر إدلب يلاحق لبنان
يعتبر العميد المتقاعد محمد رمال أن ما دفع الخلايا النائمة الإرهابية للتحرك مجدداً من بوابة طرابلس هو الجو العام في البلد وإقحام الأجهزة الأمنية مادّةً من مواد السجال السياسي، لافتا إلى أن الإرهاب لا يتوقف بتوقيف أشخاص وعناصر فالفكر يبقى موجودا، وحين يتحين أصحاب هذا الفكر الفرصة المناسبة لا يتأخرون عن تنفيذ ضرباتهم. ويوضح رمال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن الخلايا النائمة تستفيد من أوضاع متشنجة سواء سياسية أو أمنية لتخرج لإعادة ممارسة نشاطها الإرهابي، أما في مرحلة الاستقرار فهي تجمد عملها لأنها تعي أن لا قدرة وجرأة لها لتخرج في أوضاع مماثلة تسهل عملية كشفها. ويضيف: «أخيرا عاد التشنج السياسي إلى البلد على خلفية ملفات عديدة، حتى إنه تناول مواضيع وقيادات أمنية، ما جعل هذه الخلايا تعتقد أن الفرصة باتت مواتية بعد نحو 3 أو 4 سنوات من الاستقرار والتنسيق الأمني الممتاز بين الأجهزة الذي منع تحركها».
ويتحدث رمال عن مصدرين أساسيين لمد الخلايا النائمة بالعناصر حالياً، أولاً: المجموعات التي يتم توقيفها فتحاكم وتنهي محكوميتها أو يتم الإفراج عنها لأسباب أو لأخرى، وثانياً، المجموعات التي تأتي من سوريا، لافتاً إلى أن «الأنظار تتجه اليوم إلى محافظة إدلب، وما إذا كانت الأمور تتجه هناك لحسم عسكري لصالح النظام السوري ما سيدفع المسلحين هناك للبحث عن منفذ وبما أن معظم الأبواب مغلقة بوجههم سواء لجهة الحدود التركية - السورية أو العراقية - السورية، فإن قسماً كبيراً منهم قد يتجه إلى لبنان باعتبار أن هناك مناطق حدودية غير ممسوكة تماماً». ويضيف: «إذا وجد هؤلاء وضعا أمنيا متوترا وبيئة مناسبة فقد يعودون لممارسة الأعمال الإرهابية. ونخشى أن يكون ما حصل في طرابلس أخيرا محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء من خلال محاولة جس النبض حول إمكانية أن يكون الشمال اللبناني مكانا مناسبا لتحرك المسلحين الذين يدخلون إلى لبنان».
وقد تحولت محافظة إدلب السورية التي تسيطر على الأجزاء الأكبر منها، «هيئة تحرير الشام»، التي تشكل «جبهة النصرة» عمودها الفقري، إلى مأوى لعشرات المطلوبين للسلطات اللبنانية الذي غادروا مخيم «عين الحلوة» للاجئين الفلسطينيين الواقع في مدينة صيدا جنوب لبنان قبل نحو عامين. فبعد الإعلان عن وصول شادي المولوي، وهو أحد أبرز هؤلاء المطلوبين إلى الشمال السوري في عام 2017 انضم إليه هيثم الشعبي الملقب بـ«أبو مصعب»، وهو أحد أبرز مسؤولي «الشباب المسلم»، وكان يتزعم مجموعة مؤلفة من نحو 40 عنصراً في المخيم. وقد غادر «عين الحلوة» برفقة الشعبي أيضاً محمد العارف وهو أحد المنتمين إلى «جبهة النصرة»، وقاتل في صفوفها بسوريا، لينضما بذلك لآخرين سبقوهم ومنهم «أبو خطاب» الذي اتهمه الجيش اللبناني بتزعم خلية كانت تخطط لتنفيذ عمليات «إرهابية» في الداخل اللبناني.
واليوم وبعد إعادة طرح مصير إدلب على طاولة المباحثات، يتخوف المسؤولون اللبنانيون من عودة من فروا من لبنان إليه مع عشرات آخرين من العناصر المتطرفة في حال تقرر الحسم العسكري هناك. وما يفاقم المخاوف هو عدم قدرة الجيش اللبناني سواء من حيث عدد عناصره أو العتاد الذي يمتلكه من ضبط الحدود الشاسعة مع سوريا بشكل كلي، ما قد يسهل مهمة تسلل هؤلاء إلى أكثر من منطقة لبنانية خصوصاً المناطق التي قد يجدون فيها أرضية مناسبة لاستعادة نشاطهم.

الفقر والسياسة... سببا البلاء
يُعتبر الفقر المدقع العامل الأبرز الذي يؤدي لالتحاق عدد كبير من شباب المدينة بالمجموعات المتطرفة، إذ تُعد طرابلس من أفقر المدن على حوض البحر المتوسط، وهو ما جعل كثيراً من أبنائها يلتحقون بالتنظيمات الإرهابية ويشاركون بأكثر من 20 جولة قتال بين باب التبانة وجبل محسن منذ عام 2007. وبحسب الأرقام المتوافرة لدى مجموعات المجتمع المدني، فإن 57 في المائة من المقيمين في طرابلس يعيشون تحت خط الفقر والحرمان، فيما 77 في المائة من العائلات في المدينة محرومة اقتصاديا (95 في المائة في التبانة والسويقة). وتصل نسب البطالة في طرابلس إلى مستويات مرتفعة جدّاً، تصل لثلث الشباب، فيما لا يتخطى دخل نحو نصف الأسر في طرابلس 500 دولار أميركي شهرياً.
ورغم كل الوعود التي أغدقها زعماء المدينة على أهلها خلال الانتخابات النيابية الماضية، لم يلحظ هؤلاء تطبيق أي منها على أرض الواقع. وهو ما تعبّر عنه ح. ي. (40 عاماً) لافتة إلى أن المدينة لا تزال تتخبط في فقرها وعوزها، وكأنه لم يكن ينقصها إلا تحريك الوضع الأمني مجددا كي يتحول الوضع فيها إلى «كارثي» بكل ما للكلمة من معنى. وتشير ح. ي. في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن أكثر من يثير السخرية هو أن «من لم يلتفت إلينا طوال العام الماضي عاد إلى المدينة في الانتخابات الفرعية الأخيرة ليردد نفس الوعود التي رددها في مايو (أيار) 2018، لكن جواب الأهالي كان حاسما هذه المرة، باعتبار أن نسبة الاقتراع لم تتجاوز الـ12.5 في المائة».
وقد تمكن رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي من حصد العدد الأكبر من المقاعد النيابية في المدينة في الانتخابات العامة بحيث فاز تيار «العزم» الذي يرأسه بـ4 مقاعد مقابل 3 لـ«تيار المستقبل» الذي يرأسه رئيس الحكومة سعد الحريري، ومقعد لفيصل كرامي.
إلا أن المعركة الانتخابية الضارية التي شهدتها طرابلس في مايو 2018 لم تتكرر أخيراً خلال الانتخابات الفرعية التي شهدتها المدينة بعد إبطال المجلس الدستوري نيابة مرشحة «المستقبل» ديما جمالي، فقد نجح الحريري في الأشهر الماضية بإصلاح علاقته بكل الزعماء والقوى الطرابلسية انطلاقاً من ميقاتي مروراً بوزير العدل السابق أشرف ريفي، وقد طوى مع الأخير ثلاث سنوات من الخلافات المستحكمة، ما مهَّد لفوز جمالي مجدداً بمقعدها النيابي.
وكان الافتراق وقع بين الحريري وريفي على أثر إعلان الأخير استقالته بشكل مفاجئ من حكومة الرئيس تمام سلام، في 21 فبراير (شباط) 2016، من دون التنسيق مع الحريري الذي سمّاه وزيراً للعدل في تلك الحكومة، ووصل الخلاف ذروته بين الرجلين، خلال الانتخابات البلدية التي خاضها ريفي في طرابلس بمواجهة تحالف الحريري ورئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي، وتمكن خلالها ريفي من اكتساح المقاعد البلدية بكاملها، لكنه أخفق في تكرار هذا الانتصار في الانتخابات النيابية.

الحقبة السوداء
وعرفت طرابلس ما بين عامي 2007 و2015 «حقبة سوداء» في تاريخها، فشهدت منطقتا جبل محسن وباب التبانة أكثر من 20 جولة قتال أدت لمقتل وجرح المئات، وتأججت جولات العنف هذه بعد العام 2011 على خلفية النزاع السوري مع وقوف غالبية السنَّة في لبنان إلى جانب المعارضة السورية وتأييد العلويين لنظام الرئيس السوري بشار الأسد.
وفي شهر أغسطس (آب) 2013 تم تفجير مسجدي «التقوى» و«السلام» في طرابلس، ما أدى إلى سقوط 42 قتيلاً ونحو 500 جريح. واتهم القضاء اللبناني في عام 2016 ضابطين في المخابرات السورية بالوقوف وراء التفجيرين وشملت الخلية اللبنانية المنفذة 5 أشخاص من جبل محسن، بحسب القرار الاتهامي.
واستمر المسلسل الأمني في عام 2014. إذ شهدت منطقة التبانة، مواجهات بين الجيش ومجموعتي شادي المولوي وأسامة منصور المنتميين فكريّاً لـ«جبهة النصرة»، انتهت بهروبهما من المنطقة.
وفي يناير (كانون الثاني) من عام 2015، قُتِل 9 أشخاص وأصيب 37 آخرون بجروح في تفجيرين انتحاريين وقعا في منطقة جبل محسن ذات الغالبية العلوية. إلا أن هذا المسلسل وصل إلى نهايات سعيدة مع توصل القوى السياسية المعنية إلى نوع من التسوية في العام نفسه أدَّت إلى خروج أمين عام الحزب العربي الديمقراطي رفعت عيد من جبل محسن إلى سوريا، علماً بأن المحكمة العسكرية الدائمة أصدرت حكماً غيابيّاً قضى بإنزال عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة بحقه، وذلك لإدانته بجرم التحريض على الاقتتال بين منطقتي جبل محسن وباب التبانة وتوزيع الأسلحة والحضّ على القتل، بينما صدرت مذكرة بحث وتحرٍّ في حق والده علي عيد للتحقيق معه في مسألة إخفاء أشخاص مقربين منه متهمين بالتورط في تفجيري المسجدين بطرابلس.
ولا يزال رفعت عيد في سوريا، وهو يحمّل حلفاءه في قوى «8 آذار» مسؤولية «نفيه». وقد قال في حديث سابق لـ«الشرق الأوسط» إن «التسويات السياسية في لبنان دائماً تحصل على دمنا، وليس الخصوم فقط من يتحملون المسؤولية، بل عتبنا أيضاً على حلفائنا بالدرجة الأولى الذين هم من طلبوا منا الخروج من طرابلس وجرت معنا اتصالات من أعلى المستويات لهذا السبب»، رافضاً تسمية هذه الجهات.



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري