أفغانستان وجهة مفضلة لـ«الدواعش»

تحذيرات أممية من تحول الأراضي الأفغانية مسرحاً للتنظيم

عناصر من «داعش» بعد اعتقالهم في جلال آباد شرق أفغانستان أبريل الماضي (إ.ب.أ)
عناصر من «داعش» بعد اعتقالهم في جلال آباد شرق أفغانستان أبريل الماضي (إ.ب.أ)
TT

أفغانستان وجهة مفضلة لـ«الدواعش»

عناصر من «داعش» بعد اعتقالهم في جلال آباد شرق أفغانستان أبريل الماضي (إ.ب.أ)
عناصر من «داعش» بعد اعتقالهم في جلال آباد شرق أفغانستان أبريل الماضي (إ.ب.أ)

هل أضحت الأراضي الأفغانية محجاً لـ«الدواعش» بعد اندحارهم في سوريا والعراق، ومع التضييق الذي يلاقونه في ليبيا وعموم أفريقيا؟ قبل بضعة أيام كان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، يدعو لاستخدام «الدرون» (الطائرات من دون طيار) وغيرها من وسائل المراقبة الحديثة لمتابعة حدود ومناطق أفغانستان، تلك التي صارت على حد تعبيره «محجاً لفلول الإرهابيين الفارين من سوريا والعراق»... ماذا وراء تصريح صاحب العسكرية الروسية والخبير بشؤون دولة مجاورة كان للسوفيات اليد العليا فيها لنحو عقد من الزمان؟
وتختمر يوماً تلو الآخر في عقول الكثيرين، وحتى بعد الانهيار الذي جرى لها في الشرق الأوسط، إلا أنها تبحث بجدية عن بطن رخوة حول العالم تصلح لأن تضحى مركزاً جديداً لصولاتها وجولاتها المقبلة، تلك التي لن تعتمد فيها على فكرة التنظيم التراتبي العنقودي، بل التوجيه والإلهام الدوجمائي وربما الآيديولوجي من على البعد البعيد إن جاز التعبير.
في هذا السياق، يمكن القطع بأن ظهور زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي الأخير، إنما كان يقصد منه إبقاء تأثير التنظيم حياً في عقول أتباعه المشتتين حول العالم، ودفع كل منهم إلى الحرية في اختيار أعمال الإرهاب التي يقوم بها، وإيقاع أكبر الأضرار بالأطراف المعتبرة أعداء منذ زمان وزمانين.
يقول الكاتب والصحافي الفرنسي نيكولاس هينين مؤلف كتاب «أكاديمية الجهاد: صعود (داعش)»، الذي قضى 10 أشهر رهينة لدى التنظيم عبر صفحات «الغارديان» البريطانية: «إنه رغم هزيمة (داعش)، فإنه لم يقتصر تأثير التنظيم على الأشخاص العزل، كونه أصبح علامة تجارية عالمية، فقد سعى التسجيل المصور الأخير للبغدادي إلى التأكيد على ضرورة الانتشار لاستمرار القتال، حيث لم يعد الفوز هو الهدف الأسمى لمقاتلي التنظيم، فمع سقوط الخلافة، فإن الغرب انتصر بوضوح في المعركة، لكنه لم يربح الحرب». ويضيف نيكولاس: «هنا يتعين علينا السؤال: هل يقوم (الدواعش) الآن بنقل تنظيمهم إلى أفغانستان التي مزق الاحتلال السوفياتي ولاحقاً الغزو الأميركي نسيجها الاجتماعي، ولهذا باتت أراضيها مغائر للإرهابيين من مشارق الشمس إلى مغاربها، ومن الشمال إلى اليمين، كل تنظيم باسمه، وكل جماعة بتوجهاتها؟».
لم يكن الروس وحدهم في واقع الحال من تحدثوا عن ضراوة نشوء وارتقاء الدواعش من جديد على الأراضي الأفغانية، فقد شاركهم الرأي المدعوم بالمعلومات الاستخبارية الأميركيون هناك، ففي 1 مايو (أيار) الحالي، نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مسؤول أميركي كبير قوله إن «عناصر (داعش) اختاروا أفغانستان ملجأ لهم»، مضيفاً: «إننا حال لم نبقِ على الضغوط لمكافحة الإرهاب ضد فرع (داعش) في أفغانستان، فإن هجوماً نوعياً قد يقع على الأرجح على أمتنا خلال هذا العام».
والشاهد أن المسؤول السابق ذكره وهو غالباً مصدر استخباراتي ولهذا لم يكشف عن اسمه، لم يكن الوحيد من الجانب الأميركي الذي تناول القصة، إذ تكلم السيناتور الأميركي الديمقراطي المعروف جاك ريد، الذي يشغل عضوية لجنة القضايا العسكرية في مجلس الشيوخ الأميركي، مشيراً إلى أنه بعد زيارة ميدانية له لأفغانستان تأكد من أن قدرات الفرع المحلي لتنظيم داعش «ولاية خراسان»، قد ازدادت حضوراً ونفوذاً، وأن الأحلام التي رسمتها وزارة الدفاع الأميركية عام 2017 بأن ينتهي حضور هذا التنظيم في 2019 قد تبخرت، فقد تبين له أن الأمر ليس مشكلة صغيرة في جنوب ولاية ننغرهار، حيث معقل «داعش» شرق البلاد، وأن هناك حاجة لوقت أطول لتسوية الإشكالية، لا سيما أن تقريراً أخيراً للأمم المتحدة أشار إلى أن أعداد «داعش» على الأراضي الأفغانية تقترب من 5 آلاف عنصر، ما يصلح لنواة جديدة، ومرحلة أخرى من جولات الخلافة المزعومة.
وتدور التساؤلات حول «هل من عوامل مساعدة تجعل من إعادة (داعش) لتنظيم صفوفه في أفغانستان أمراً وارداً وممكناً؟».
أغلب الظن أن ذلك كذلك وفي المقدمة منها حالة الاضطراب الأهلي والتناحر القبلي المسلح بين القوات الحكومية وقوات «طالبان»، تلك المعارك التي لا تتوقف ولا تنتهي، ولهذا فإن الدواعش يتسربون وبقوة من بين الجانبين، ويرسخون من حضورهم، في غفلة من الطرفين المتطاحنين منذ عقود طوال.
يمكن للمرء أيضاً أن يرصد ملامح ومعالم أخرى تجعل من أفغانستان أرضاً خصبة للدواعش، والسبب هنا هو أن كل الجماعات المتطرفة المناهضة لحركة طالبان الأفغانية، قد صارت منجذبة للانضمام إلى «داعش»، لا سيما أن طروحات التنظيم تتجاوز الحدود الضيقة والجبلية لأفغانستان، وتتيح مجالات أوسع من حرية النضال بحسب المفهوم الحركي لتلك المنظمات التي اعتادت القتال منذ وقت طويل.
والمؤكد أن هناك نقطة في غاية الإثارة وتحوم من حولها شبهات كثيرة، وموصولة بالسياقات الدولية للإرهاب وبالدواعش، وبمن يقف وراءهم أو يتلاعب بهم كعرائس مسرح الموسيقى.
في هذا السياق، تتحتم علينا الإشارة إلى وجود تقارير إخبارية وربما استخباراتية متزايدة، تشير إلى أن دعماً ومدداً عسكريين يصلان إلى عناصر «داعش» على الأراضي الأفغانية من جهات غير معلومة، وليس سراً أن عدة دول مجاورة قد أشارت بأصابع الاتهام تلميحاً تارة وتصريحاً تارة أخرى إلى الولايات المتحدة الأميركية... هل لهذا الكلام من موثوقية أو موضوعية؟
قبل نحو عام تقريباً، توجه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بتساؤلات رسمية ومباشرة للقوات الأميركية في أفغانستان ولـ«الناتو» عن هوية الطائرات المجهولة التي تلقي الأسلحة والمساعدات الأخرى إلى الجماعات الإرهابية، في مناطق أفغانية مختلفة، ولم يتلقَ الجانب الروسي رداً حتى الساعة.
في التحليل يمكن للمرء أن يربط بين ما يجري على الأراضي الأفغانية ولعبة الشطرنج الإدراكية الدولية، تلك المحتدمة بين روسيا والولايات المتحدة، وإن لم يكن بالضرورة التحليل صائباً بالمطلق، فإن بعضاً منه يقترب بشكل أو بآخر من الحقيقة عينها.
مقطوع أن هناك جولة ثانية من الحرب ما بعد الباردة تستعر مؤخراً بين موسكو وواشنطن، وفيها سباق ضروس على ملء مربعات القوة الجغرافية وربما الديموغرافية حول العالم.
وفيما روسيا تعزز من صداقاتها في الخلفية الجغرافية التاريخية لواشنطن، أي قارة أميركا الجنوبية، وما يجري في فنزويلا خير دليل على ذلك، حيث خبراء روس تم استدعاؤهم رسمياً من قبل نظام مادورو، يضحى من الطبيعي التساؤل: «لماذا لا تلجأ واشنطن إلى أعمال مشابهة بالقرب من روسيا وأيضاً الصين؟ وقد كان للأميركيين خبرة سابقة مع جماعات الإسلام السياسي في مواجهة السوفيات على الأراضي الأفغانية، ذلك يوم كان يتم استقبال أعضاء (طالبان) في البيت الأبيض، في ضيافة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، وفي الوقت نفسه كانت وسائل الإعلام المرئية والمقروءة تخرج على الأميركيين واصفة إياهم بأنهم (المقاتلون الأحرار)».
هل تكرر واشنطن المشهد من دون اعتبار لدروس التاريخ والخسائر التي لحقت بها من جراء «طالبان» و«القاعدة»؟
ما تقدم في كل الأحوال يبقى داخل دائرة الاحتمالات، غير أن تصريحات شويغو توضح لنا إلى أي حد ومد هناك صحوة روسية هدفها عدم السماح بتكرار الألاعيب الأميركية مرة أخرى.
لم تعد مسألة الحضور الداعشي في أفغانستان إرهاصات أو تسريبات إعلامية، بل حقائق مزعجة للآسيويين، الذين يعلمون تمام العلم أنهم ربما على مقربة من مواجهات بالوكالة، لا سيما بعد مقتل 43 «داعشياً» مسلحاً على الأقل من «الدواعش» في غارتين جويتين منفصلتين شرق أفغانستان، في الأسبوع الأول من مايو الحالي، وقد استهدفت الغارتان معسكرات تدريب تابعة لـ«داعش» في حي شابارا بإقليم كونار بشرق البلاد.
والمفاجأة أنه كان بين القتلى عدد من الباكستانيين والأوزبك وجنسيات آسيوية أخرى، بل الأكثر صدمة أن من بين القتلى كان هناك قيادي «أوزبكي» بارز تم التعرف عليه، كان من الداعمين لتنظيم «القاعدة» على الأراضي الأفغانية، قبل أن ينضم إلى صفوف «داعش»، الأمر الذي يعني أن هناك حركة توجه ارتدادية من قبل المناوئين لـ«طالبان» وعناصر «القاعدة» السابقين، للانجذاب نحو الدواعش ما يجعل مستقبل حضورهم أقوى عوداً وأشد إرهاباً. يوماً تلو الآخر، يتحول المشهد الأفغاني الداخلي إلى مزيد من العبث والتشظي، فالكل يقاتل الكل، فيما عقول «داعش» تستقطب مزيداً من الشباب الذي سئم التناحر الداخلي الأفغاني. تستقطبهم عبر مشاغبات ومشاغلات عقلية، واستغلال للمشاعر والمعتقدات الدينية، وباللعب على الأوتار المتناقضة، لا سيما البطالة المنتشرة هناك، وأدلجة أدمغتهم بزعم أن حروب «داعش» هي دفاع عن شرع الله، وأن الجنة ثمن لمن يموت منهم.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».