الحب في فضاء افتراضي

شيرين فؤاد تبحث في تحولاته وهويته الإلكترونية

الحب في فضاء افتراضي
TT

الحب في فضاء افتراضي

الحب في فضاء افتراضي

يرصد هذا الكتاب طبيعة العلاقات الإنسانية في الفضاء الإلكتروني، ويحلل دوافعها ونوازعها المتنوعة عاطفيا واجتماعيا وثقافيا، وما تكتسبه من صفات وعادات جديدة، تبدو مغايرة للشائع والمألوف في الواقع العام، ويوضح إلى أي مدى ترتبط هذه العلاقات خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي بفكرة الحرية التي لا سقف لها، وأيضا بفكرة التخفي في قناع الصورة، أو الآخر كرمز، والتي يلجأ إليها البعض أحيانا لإتاحة فرصة أكبر للتعبير الحر، والهروب الرشيق بعيدا عن أسوار الذات وقيود الواقع الشائكة، خصوصا على المستوى الشخصي والأسري.
يحمل الكتاب عنوان «البعد الآخر.. الهوية والحب والجنس في عالم افتراضي». وعلى مدار نحو 250 صفحة من القطع المتوسط، نجحت مؤلفته الكاتبة شيرين فؤاد، في أن تجعل القارئ يخوض مغامرة شيقة، في عالم أصبح لصيقا به، ويشكل إحدى ضروريات حياته. وهو ما جعل الكتاب يدخل على قائمة الكتب الأكثر مبيعا في سوق النشر المصرية، وتتولى حاليا طبعته الثانية مؤسسة «الأهرام» الصحافية، بعنوان جديد هو «الحب الإلكتروني»، وكانت طبعته الأولى صدرت عن دار «إشراق» للنشر بالقاهرة، وهي دار حديثة النشأة.
يستهل الكتاب فصوله الأولى بمناقشة مفهوم الفضاء الافتراضي، من منظور علمي صرف، من حيث المكان كحيز مادي، وعلاقات الجغرافيا ببعد المسافة والحجم والمسار، وكيف يختصر هذا الفضاء ويختزل كل هذه الأبعاد، فلا يبدو فضاء افتراضيا تماما، وإنما نتعايش معه، ونتفاعل مع حقائقه كامتداد لفضائنا الذاتي والعقلي والنفسي، يوفر إمكانيات ووسائل اتصال إنسانية هائلة، آمنة ومريحة إلى حد كبير، يمكن تحت مظلتها، وبوسائط بسيطة بلورة صورة وهوية افتراضية، يسهل الدخول والخروج منها وإليها في أي وقت، دونما حواجز أو عراقيل.
وبالتحليل ومتابعة الوقائع والأحداث عن قرب، ومن زوايا مختلفة ترصد المؤلفة أبعاد هذه العلاقة المتشعبة في سياقاتها المباشرة والمستترة، والمتخيلة، على المستوى النفسي والثقافي والعاطفي، وتتواصل معها من منطلق أنها أحد المكتسبات المهمة، شديدة الحساسية في التعاطي مع التكنولوجيا الحديثة وثورة الاتصالات خاصة على الإنترنت. وتوضح كيف انعكس كل هذا التحول على الفضاء الشخصي للإنسان؟ كيف اخترقه؟ ليخرج من نطاق فضائه الذاتي إلى فضاء أكثر اتساعا، لا مترامي الأبعاد، حيث العالم في قبضة يده وأنامله، لم يعد مجرد فكرة صماء، بل يمكنه بضغطة إصبع على جهاز الحاسوب، أن يتعرف على شوارده وسكناته وصراخه، وما يموج في داخله هنا وهناك، ويتخيل نفسه في قلب الأحداث، يحسها ويسمعها ويشاهدها، وكأنها تحدث على مرمى حجر منه.
ولا يتعامل هذا الكتاب مع أطراف هذه العلاقة من منظور مادي محض، أو في سياق الثنائيات المعرفية المجردة، ولا يتمسح في قضايا الوجود الكبرى، كعلاقة الخير والشر، أو النور والظلام، أو الكره والحب، وإنما يتعامل معها، باعتبارها شكلا جديدا من أشكال الإرادة الإنسانية، والحلم الإنساني. فهي علاقة مفتوحة دائما على قوس البدايات والنهايات تنحل فيها العقد والفواصل السميكة في الزمن والبشر والأشياء.. وهي علاقة - بحسب الكتاب - تؤسس خطوتها في الحلم، وتتوسل به، من أجل معرفة ذاتها ومعرفة ذات الآخر، وإعادة اكتشاف الاثنين معا، على قاعدة مرنة، يصبح فيها المجهول، فقط مجرد خط وهمي معصوب العينين مؤقتا، ربما إمعانا في التمويه والتخفي، وإثارة المزيد من الدهشة والجاذبية، فوق طاولة العلاقة، التي تجابه دوما حلم النزول من أرض الفضاء الافتراضي الرخو المثير، إلى أرض الواقع الخشن، حيث الأقدام الغليظة وضغوط ومخاوف الحياة.
أيضا لا ينشغل الكتاب كثيرا بمدارات الأعراف والتقاليد الاجتماعية والبحث عن مظان وحدود لـ«شرعنة العلاقة» في الفضاء الإلكتروني، فهي علاقات حرة لا ترتب مسؤولية مادية على كاهل المنخرطين فيها. بل يوضح الكتاب كيف أنها قد تصل في «غرف الدردشة» إلى آفاق شديدة الحساسية تتجاوز نطاق الألفة العاطفية، والمفاهيم العادية للصداقة، صعودا لمشارف العلاقة الجنسية، والتي قد يصل فيها التعارف الحميم إلى التعرف بالصوت والصور المتبادلة العابرة والمقيمة خاصة على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك»، المسرح الميداني الأساس لموضوع الكتاب. وهنا يحلل الكتاب بشفافية بالغة الدقة الأطر والدوافع المتنوعة التي تهيئ وتفرز هذا النوع من العلاقة. وتلفت المؤلفة إلى خطورة تحولها إلى علاقات ضدية، تنهض كبديل، أو شكل تعويضي بالمعني النفسي، يفرض ضمنيا نوعا من المقارنة بين شريك «السايبر سكس» والشريك الفعلي في الحياة، حينئذ تتحول «ازدواجية العلاقة» بدورها إلى فعل اعتيادي، يجد فيه أطراف العلاقة في الفضاء الإلكتروني متنفسا إنسانيا وعاطفيا شديد الإغواء، بل منافسا قويا لحياة زوجية، ربما بردت وفترت، ولم يبق منها سوى هيكل اجتماعي هش يترنح على أرض الواقع.
وفي المقابل يطرح الكتاب قضايا إنسانية شائكة، تقف على حافة هذا الفضاء الافتراضي البديل، تصل خطورتها إلى حد الجريمة الإنسانية المغلفة بنزق الحب وغبار حماقاته وأشواكه، ومنها على سبيل المثال، قضايا التحرش الجنسي، الخيانة الإلكترونية، الزنا الإلكتروني. ويوضح كيف تتسرب كل هذا القضايا، بتلقائية أحيانا، وكأنها تفيض عن المشهد أو ثمرة طبيعة لمداراته العاطفية، وأحيانا أخرى تبدو كاستثمار متعمد للحظات الغزل المموه باصطناع اللهفة والحنين، لاستثارة الضحية واستمالتها في اتجاه معين. ويفند الكتاب أنواعا من التحرش الجنسي، منها اللفظي والبصري، وغير المباشر أو الموجه باستخدام وسائط جنسية كالصور والألعاب الإباحية.
وفي كل فصول الكتاب تقدم المؤلفة وبأسلوب شيق الفضاء الإلكتروني كحقيقة علمية خالصة، ورافدا مهم من روافد المعرفة الإنسانية، وتمهد لذلك بمناقشة كينونة هذا الفضاء في رؤى وأفكار عدد من الفلاسفة والعلماء المختصين (كانط - نيوتن - ليبنتز - آينشتاين - أندرسن)، بل تناقش - من واقع خبرتها الدراسية في علوم الحاسب الآلي - معايير الأخلاق في الفضاء الإلكتروني، بكل مفرداته، من علاقات فردية، ومنتديات ومجموعات لها أنشطة ما، أو ذات طبيعة خاصة.
تبقى من أجمل الأشياء التي يتكشف عنها هذا الكتاب، هو مقاربته لخصوصية الظاهرة الإنسانية في الفضائي الإلكتروني، لافتا إلى أنها تتسم بكثافة عاطفية سريعة التحول والتصعيد، تتسم بالديناميكية وتتمتع بطبيعة جدلية خاصة، تتبلور في أشكال حديثة من التأثير والتأثر، تنعكس على منحنى العلاقات العاطفية، مدا وجذرا، صمتا وصخبا، جاذبية ونفورا.. لكن يبقى هذا الفضاء هو البيئة الأسرع، ليس فقط في تكوين الهويات الجديدة العابرة للتخوم التقليدية للهوية، وإنما أيضا لاكتشاف البعد الآخر لها، حتى على مستوى الحضور والغياب.
لقد عرض الكتاب كل هذه الظواهر، وسبر أغوارها بحيادية وموضوعية تامتين. ولم يتعامل مع أطراف العلاقات المتنوعة في الفضاء الإلكتروني، على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الاجتماعية والثقافية والآيدلوجية، وحتى على مستويات أعمارهم، كعينة اختبار عشوائية، وإنما تعامل معهم كحالات إنسانية، رسخ هذا الفضاء هويتها المضطربة في الواقع، ووضعها في اختبار حر أمام مرايا متعددة وحرة أيضا، وفي حالات أخرى كان الحصاد عكس ذلك.
لذلك كله، أتصور أن هذا الكاتب نجح بسلاسة شديدة أن يدشن فكرة لاحت لي من خلال مطالعتي لموضوعه المثير، وهي فكرة «القارئ المعايش» التي تشعر معها بأن الكتاب أصبح صديقا لك.



متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»


قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة
TT

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «سيمياء الخطاب الشعري... مقاربات نقدية في الشعرية المعاصرة» للناقد والأكاديمي المصري الدكتورأحمد الصغير، أستاذ الأدب العربي.

يقدم الكتاب عبر (428) صفحة من القطع المتوسط، رؤى تأويلية لعوالم قصيدة النثر، من خلال رصد الملامح الجمالية والمعرفية في قصيدة الحداثة، ويعتمد على مقاربة سيميائية تأويلية من خلال إجراءات السيمياء والتأويل عند روبرت شولز، وبيرس، وجريماس، وسعيد بنكراد، وكمال أبو ديب، وعز الدين إسماعيل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف... وغيرهم.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وتسع عشرة قراءة نقدية، منها: بنية الخطاب الدرامي في الشعرية العربية المعاصرة، بناء الرمز في قصيدة محمد سليمان، بلاغة المفارقة في توقيعات عز الدين المناصرة، تعدد الأصوات في ديوان «هكذا تكلم الكركدن» لرفعت سلام، «قراءة في الشعر الإماراتي، عين سارحة وعين مندهشة» للشاعر أسامة الدناصوري، «في المخاطرة جزء من النجاة»... قراءة في ديواني «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» للشاعر حلمي سالم، قراءة في ديوان «الأيام حين تعبر خائفة» للشاعر محمود خير الله، قراءة في ديوان «الرصيف الذي يحاذي البحر» للشاعر سمير درويش، قراءة في ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» للشاعر محمد القليني، أسفار أحمد الجعفري «قليل من النور، كي أحب البنات»، شعرية الأحلام المجهضة «لعبة الضوء وانكسار المرايا» للنوبي الجنابي، قراءة في «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبد الرحمن مقلد، وشكول تراثية في قصيدة علي منصور، وصوت الإسكندرية الصاخب في شعر جمال القصاص، وشعرية الحزن في ديوان «نتخلص مما نحب» للشاعر عماد غزالي، وشعرية المعنى في ديوان «في سمك خوصة» للشاعر محمد التوني، وشعرية المجاز عند أسامة الحداد.

يقول الصغير في المقدمة: تأتي أهمية هذا الكتاب من خلال الوقوف على طرح مقاربات نقدية استبصارية، معتمدة على المقاربات التطبيقية للقصيدة العربية المعاصرة تحديداً، وذلك للكشف عن بنية الخطاب الشعري في الشعرية العربية المعاصرة، مرتكزاً على منهجية معرفية محددة؛ للدخول في عوالم القصيدة المعاصرة، مستفيدة من مقاربات السيميائية والتأويلية بشكل أساس؛ لأن القصيدة العربية، في وقتنا الراهن، ليست بحاجة إلى شروح تقليدية، لأنها صارت قصيدة كونية، ثرية في المبنى والمعنى، تحتاج لأدوات نقدية متجددة، تسهم في عملية تفكيكها وتأويلاتها اللانهائية، كما يطرح البحث أدوات الخطاب الشعري التي اتكأ عليها الشعراء المعاصرون، ومن هذه الأدوات «الرمز الشعري، المفارقة بأنواعها، والدرامية، الذاتية، والسينمائية، السردية، وغيرها من الأدوات الفنية الأخرى».

يذكر أن أحمد الصغير، يعمل أستاذاً للأدب والنقد الحديث بكلية الآداب، جامعة الوادي الجديد. ومن مؤلفاته «بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث»، و«النص والقناع»، و«القصيدة السردية في شعر العامية المصرية»، و«القصيدة الدرامية في شعر عبدالرحمن الأبنودي»، و«تقنيات الشعرية في أحلام نجيب محفوظ». و«آليات الخطاب الشعري قراءة في شعر السبعينيات»، و«التجريب في أدب طه حسين».