كرة القدم تلعب بالنار وتؤجج لهيب الكراهية

في يوم من الأيام، كان يجري استغلال كرة القدم كأداة لتحقيق السلام، الآن أصبحت أكثر احتمالاً لأن تثير الكراهية بين متابعيها، خصوصاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
لقد مرت 16 عاماً منذ أن كشف سفين غوران إريكسون ونانسي ديل أوليو النقاب عن مبادرتهما «كرة من أجل السلام»، التي عمدا من خلالها إلى نقل كرة واحدة مليئة بالأمل عبر مختلف القارات، بحيث تتمكن القيادات داخل المناطق التي تمزقها الحروب من ركل الكرة أمام الكاميرات. وجاء إطلاق المبادرة عبر حفل تدشين فخم حضره الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، وخلال الحفل، بدت نانسي متألقة بينما كان سفين يتحرك بهدوء في الخلفية، وبدا كما الحال معه دوماً أشبه بمدير بنك طيب القلب يغني الترانيم في أعياد الميلاد ويتطوع في نادي الروتاري المحلي، في الوقت الذي يحتفظ فيه برأس مقطوع لبائع متجول في حقيبته.
ودارت فكرة المبادرة حول أن مشهد الزعماء وهم يركلون الكرة كفيل بوضع نهاية للصراعات المسلحة. من جانبه، قال ديفيد بيكام، موجهاً حديثه إلى الأطفال في تلك المناطق الذين يتطلعون نحو السلام، لكن لا يزالون غير واثقين مما إذا كان ينبغي عليهم السعي خلفه أم لا: «نصيحتي لأي من الأطفال الباحثين عن السلام... انطلقوا خلفه واسعوا من أجله دائماً». وعندما نعود بأذهاننا اليوم إلى هذا الفترة، تبدو لنا فترة أكثر بساطة وحماقة بكثير.
بجانب كونها مضللة بالتأكيد. وحتى في وقت كثرت فيه المشروعات التي لا تهدف في حقيقتها سوى للتباهي الشخصي، عكست هذه المبادرة سوء تقدير فادح. الحقيقة أن نخبة كرة القدم اليوم أصبحوا يشكلون أكثر من أي وقت مضى النقيض التام لرؤية سفين للسلام. اليوم، تحولت كرة القدم إلى مجال يسوده الغضب الشديد والمواقف المتطرفة والقبلية المشتعلة. والآن، نتهيأ لصيف من الكراهية.
من الصعب الفرار من هذا الانطباع هذه الأيام. وتبدو مشاعر الغضب المرتبطة بكرة القدم في أكثر صورها حدة عبر شبكة الإنترنت. في نهائي بطولة كأس الاتحاد الإنجليزي الأسبوع الماضي، ثارت موجة غضب محدودة عبر وسائل الإعلام بسبب إقدام أحد مشجعي مانشستر سيتي على اقتحام المقصورة الخاصة بممثلي وسائل الإعلام وشرع في توجيه انتقادات إليهم بالتحيز ضد النادي، وتحدث عن مؤامرات تحاك ضد سيتي وتوجه مبهم باتجاه نشر مقالات بالصحف حول محمد صلاح مهاجم ليفربول، الفائز بجائزة الحذاء الذهبي لأفضل هدافي بطولة الدوري الممتاز.
وجاء هذا التصرف من جانب أحد مشجعي مانشستر سيتي ليثبت أن الغضب المشتعل في صفوف جماهير ناديه عبر شبكات التواصل الاجتماعي له وجود حقيقي من لحم ودم على أرض الواقع. ويبدو أن جماهير النادي يساورها غضب غير مسبوق حتى في وقت حقق فيه فريقهم إنجازاً كبيراً بفوزه بثلاثية محلية من البطولات. الواقع يشير إلى أن جهات البث والصحف عمدت إلى تحويل مشاعر القبلية الكروية إلى سلاح يؤجج نيران الفتن.
على أرض الواقع، أمثال هذا المشجع لا يشكلون سوى أقلية صاخبة، لكنها في الوقت ذاته تعكس تماماً المزاج العام الأوسع نطاقاً المفعم بكراهية لا تزال تحدد نبرة وشكل كرة القدم على مستوى النخبة.
دائماً ما انطوت كرة القدم على مشاعر غضب، ناهيك بالعنف الصريح الذي ضرب الملاعب في فترات مضت. إلا أن كرة القدم لا تتبعك باستمرار، ويمكن احتواؤها داخل 90 دقيقة فقط. غير أن الوضع الآن تبدل بعض الشيء، فاليوم لم يعد العالم يتوقف عن الحديث يومياً عن الكرة والمنافسات. وداخل المساحة التي خلقتها شبكات التواصل الاجتماعي، يجري تشكيل المزاج الكروي العام وإمعان النظر في المواقف المثيرة للغضب ليتحول الأمر برمته إلى صرخة غضب رقمية لا تتوقف.
وقد جرى تحويل هذه القبلية إلى سلاح بأسلوب دقيق. جرى ذلك بادئ الأمر على أيدي مسؤولي جهات البث والصحف الذين أصبحوا متمرسين في إشعال الحرائق وتأجيج الانقسامات، ورأوا في ذلك نفعاً من الناحية التجارية. وبعد ذلك، جرت إدارة هذا الغضب على نحو أكثر خبثاً وشراً. ومثلما اتضح من دقيقتي أورويل في رواية 1984، فإن الغضب قد يكون أداة مفيدة.
من جهته، يحق لمانشستر سيتي مقاومة التحقيق الذي يجريه «يويفا» بخصوص مدى التزام النادي باللعب المالي النظيف إذا ما شعر أن التحقيق خاطئ. وربما تجري تبرئة ساحة النادي نهاية الأمر. إلا أن النبرة التي تتبعها هذه المقاومة والبيانات العنيفة الصادرة عن النادي تعكس على أفضل تقدير عجزاً عن رؤية الواقع بموضوعية، وعلى أسوأ تقدير توفر لمحة من النظام المعتمد على القرارات والمواقف الحادة بالنادي الذي يشكل مشروعاً رياضياً استثنائياً.
ثمة طموح هائل في قطاعات كثيرة للغاية من صناعة كرة القدم اليوم، وإن كان غالباً ما يجري إخفاؤه خلف قناع الورع المقيت ذاته الذي ارتداه سفين غوران إريكسون ومشروعه الكروي.
الأسبوع الماضي، خاض تشيلسي مباراة تحت عنوان «صفارة نهاية الكراهية قبل سفر الفريق إلى باكو لخوض مباراة نهائي بطولة الدوري الأوروبي التي ستقام بأكملها لخدمة نظام كريه، وهي مباراة ستحث الروسي رومان أبراموفيتش مالك النادي، عدو الكراهية والأوليغارك، على تنفيذ أول زيارة له لمباراة لتشيلسي هذا العام. كما أنه غني عن القول أن نهائي البطولة هذا العام سيقام في دولة غنية بالنفط تملك مالاً وفيراً تحرقه على كرة القدم كواحدة من أدوات القوة الناعمة».
وأخيراً وقبل أيام قليلة تخلى جياني إنفانتينو رئيس الفيفا عن خطته لتنظيم بطولة كأس العالم بمشاركة 48 دولة. لقد بدت تلك الفكرة سخيفة بين دول منظمة خلقت عداء بين جيرانها، وبالتأكيد فإن إنفانتينو رغم كل الأوهام السائدة حول كونه منقذ ومخلص كرة القدم، كان يعي أن هذه الفكرة لن تلقى رواجاً. وعند النظر إلى تعاون «الفيفا» مع دول الخليج نجد أنه دار برمته حول الاستفادة من الثروات المالية لهذه الدول والبلد المنظم للمونديال والمتعطش للنفوذ. كما أبدى إنفانتينو تقارباً كبيراً مع روسيا، انعكس على حصوله على ميدالية من فلاديمير بوتين.
وحتى هذه اللحظة، لا تزال كرة القدم تقتفي أثر الكراهية أيضاً وليس المال فقط. وينطبق هذا القول على العالم بوجه عام، حيث شكلت الكراهية الوقود الذي اتخذ على أساسه كثير من المواقف العامة المهمة. والآن نحن في انتظار ما سيحدث من عواقب وخيمة بمجرد أن تفوه أحدهم بلفظ «بريكست» عندما يسافر المنتخب الإنجليزي إلى البرتغال لمدة 6 أيام في يونيو (حزيران) لتبدأ حلقة جديدة من مسلسل صيف الكراهية.
أما الرد الوحيد العقلاني لكل هذا فهو المقاومة بكل تأكيد عبر محاولة إدارة الصراعات الكروية القبلية والتصدي لمسؤولي الأندية الذين يعمدون تعبئة جماهير النادي كأنهم جيش علاقات عامة، وكذلك لمسؤولي وسائل الإعلام الذين يغذون التعصب ويعمدون على تأجيجه.
المهم ألا نستسلم للكراهية، فهي لن تؤدي بنا سوى إلى الظلام وملايين التغريدات الغاضبة وحالة مؤسفة من الانقسام، وبمرور الوقت سيتولد بداخلنا شعور أننا فقدنا شيئاً عميقاً وجميلاً خلال الطريق.