رغم رحلته الكبيرة وإنجازاته الرائدة في عالم الرواية التي توجته بأول أديب عربي يحصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1988، تظل هناك جوانب كثيرة في رحلة نجيب محفوظ الأدبية لم يسلط عليها الضوء بشكل كاف، ويتيح اكتشافها مساحة أكبر من المعرفة لهذا الأديب الاستثنائي في تفاصيل رحلته الإنسانية التي أثرت في أدبه وتأثرت به.
عن هذه المساحة يجيء أحدث كتاب عنه «نجيب محفوظ بختم النسر»، الصادر ضمن إصدارات المركز القومي للسينما بمهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية، ويرصد كاتبه طارق الطاهر رئيس تحرير صحيفة «أخبار الأدب» رحلة نجيب محفوظ الوظيفية التي شغلها على مدى 37 عاماً (من 1934 إلى 1971)، وتنقل فيها بين 3 أماكن، هي جامعة القاهرة التي تخرج منها، ووزارة الأوقاف التي بدت بعيدة عن تخصصه، ثم وزارة الإرشاد القومي التي تولى فيها عدة مناصب قيادية مهمة، منها مدير الرقابة، ثم مدير مؤسسة دعم السينما، ثم رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما.
وبالطبع، فإن أوراق محفوظ الوظيفية ليست مثل أي أوراق. وكما يذكر الكاتب، فقد حولها محفوظ إلى حياة تنطق بمسيرته، ونستطيع أن نرصد من خلالها مسيرته الاجتماعية، وأسفاره خارج مصر، بل تاريخ وطن بمؤسساته وشخصياته وتحولاته، وقد تضمن الكتاب كثيراً من الوثائق الخاصة بمحفوظ التي تعرض مجتمعة للمرة الأولى.
يتضمن الكتاب سبعة فصول عن رحلة أديب نوبل الوظيفية؛ يأتي الأول تحت عنوان «حياة في أوراق رسمية»، ليستعرض بداياته منذ مولده في 8 شارع بيت القاضي بمنطقة الجمالية بالقاهرة، في 11 ديسمبر (كانون الأول) 1911، لأب عمل موظفاً، هو عبد العزيز إبراهيم، وقد أطلق على مولوده اسم نجيب محفوظ اعترافاً بفضل طبيب النساء الشهير الذي يحمل الاسم نفسه، والذي استطاع إنقاذ المولود بعد عملية ولادة متعثرة. وقد عاش الطفل شبه وحيد؛ كان إخوته يكبرونه بسنوات، ومن هنا التصق بأمه. التحق محفوظ بمدرسة خليل أغا الابتدائية، وبعد انتقال أسرته للعباسية التحق بمدرسة الحسينية التي حصل منها على الشهادة الابتدائية عام 1925، ثم حصل بعدها بثلاث سنوات على شهادة التوجيهية، ولم يكتف بهذه الشهادة مثل أغلب زملائه بل واصل الدراسة عامين حتى حصل على شهادة البكالوريا في يونيو 1930. فقد كان الأب مهتماً بتعليم أبنائه حتى النهاية، وكانت غايته أن يلتحقوا بسلك القضاء أو الطب «لكن نجيب فضل كلية الآداب، وتحديداً قسم الفلسفة بجامعة فؤاد الأول (القاهرة)، ليحصل على الليسانس في يوليو 1934. وخلال دراسته للفلسفة، التحق بمعهد الموسيقى العربية، ليدرس الغناء والعزف على آلة القانون، لكنه لم يستمر في الدراسة سوى عام واحد، مفضلاً التفرغ للفلسفة.
لماذا تم فصله من الجامعة؟
بدأ محفوظ مشواره الوظيفي عام 1934، حينما سعى والده لتعيينه كاتباً بالجامعة المصرية، وتبدو السنوات الخمس التي قضاها موظفاً بالجامعة هادئة، فسجله الوظيفي يخلو من أي جزاءات، وتقاريره السرية تؤكد كفاءته، لكنها انتهت بفصله، وجاء قرار الفصل موقعاً من قبل السكرتير العام للجامعة، بتاريخ 13 فبراير (شباط) 1939، والسبب تعيينه مراجعاً بقسم الإدارة والمحفوظات بوزارة الأوقاف، وهي الوظيفة الثانية التي انتقل إليها كسكرتير برلماني للوزير، ومكث بها 17 عاماً، بعدما اختاره وزير الأوقاف حينذاك الشيخ مصطفى عبد القادر بنفسه. وخلال عمله في الأوقاف، كان على محفوظ أن يخفى هويته كمؤلف، بناء على نصيحة الكاتب كامل الكيلاني الذي سبقه للعمل بالوزارة، وأن يخفى انتماءاته السياسية الوفدية أيضاً.
ثم جاءت المحطة الثالثة في مشواره الوظيفي عام 1957، حينما انتقل للعمل بمصلحة الفنون بوزارة الإرشاد القومي (وزارة الثقافة)، التي تولى فيها عدة مناصب مهمة، منها مدير الرقابة. وكان قد اختاره للعمل معه الأديب يحيى حقي الذي عينه مديراً لمراقبة السينما والسيناريو. وفي الوقت نفسه، اتخذ محفوظ قراراً لافتاً بأن يتوقف عن كتابة السيناريو لأي من شركات السينما التي اعتادت أن يكتب لها قبل اختياره لهذا المنصب الجديد، حتى ينأى بنفسه عن أي شبهات.
وعن توليه هذا المنصب، وموقفه من الرقابة، قال محفوظ إن «الرقابة شر لا بد منه، وإن اختلاف درجات النضج بين الناس يستلزم الرقابة، بشرط أن تكون موجهة ناحية القيمة الفنية». وفي أول اجتماع له مع العاملين بجهاز الرقابة، أوضح لهم الأسلوب الجديد في تمرير الأعمال الفنية، مؤكداً أنها ليست قيداً على الفنان، وأن الأصل في الفن الإباحة، وأن المنع مثل الطلاق أبغض الحلال. وقد نجح محفوظ خلال رئاسته للرقابة في وقف كل أشكال الرشوة التي كانت سائدة قبله، ونجح في أن يقدم رؤية جديدة لمفهوم الرقابة، وانحاز بقوة شخصيته ونزاهته للفن الراقي، ولم يصدر قراراً إلا ما يرضى ضميره، وعبر للكاتب رجاء النقاش عن ذلك، قائلاً: كانت أسعد لحظات حياتي الوظيفية تلك الفترة التي قضيتها في الرقابة، رغم المضايقات الكثيرة التي تعرضت لها من هؤلاء الذين لا يؤمنون بأن الرقابة يمكن أن تكون نصيراً للفن، لقد اختلفت مع أصحاب هذه العقليات، وكانوا يتقدمون بالشكاوى ضدي إلى وزير الثقافة الذي كان يأمر بتشكيل لجنة لبحث الشكوى، كانت تنحاز في النهاية لوجهة نظري، وجاء إبعاده من الرقابة عقب نشر رواية «أولاد حارتنا» بصحيفة «الأهرام»، حيث شن د. حسن عباس، وزير الاقتصاد، حملة على د. ثروت عكاشة، قائلاً إنه أسند الرقابة لرجل متهم في عقيدته الدينية.
وجاءت رئاسة محفوظ لمؤسسة السينما بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت هي المحطة الأخيرة في مشواره الوظيفي التي قال عنها: «بقيت عامين في هذا المنصب لم أفتح كتاباً، ولم أكتب كلمة، وعشت في اكتئاب عام؛ كانت السينما مفلسة ولا توجد سيولة، وكان الممثلون يأتون إلى مكتبي ويهددون بإلقاء أنفسهم من النافذة بسبب البطالة، وكنا نعمل في أجواء من الاتهامات والتشكيك، وهي الفترة التي وقعت فيها هزيمة يونيو 67. وطلب محفوظ إبعاده، ليتم تعيينه مستشاراً لوزير الثقافة حتى خرج للمعاش عام 1971.
ورغم كل ذلك، فإن شهادة وزير الثقافة د. ثروت عكاشة عن فترة عمله بالوزارة جاءت منصفة تماماً لمحفوظ، إذ أكد أن «رفقة محفوظ كانت ممتعة مثمرة، بحكمته البالغة وإدراكه العميق للمشاكل، مما خفف عنى كثيراً من أعباء تلك الفترة المضنية». وعن خلاصة ما جناه من رحلته الوظيفية، قال محفوظ للروائي جمال الغيطاني: «أعطتني حياتي في الوظيفة مادة إنسانية عظيمة، وأمدتني بنماذج بشرية أثرت في كتاباتي، لكنها استحوذت على نصف يومي على مدى 37 عاماً، وفي هذا ظلم كبير، إذ من المستحيل أن يتفرغ الأديب لإبداعه في مصر. ولو كنا مثل أوروبا، وصدر لي كتاب متميز، لتغيرت حياتي وتفرغت للأدب، فإن كل أديب صادق يتمنى أن يتفرغ للكتابة. ورغم ذلك، فقد دفعتني الوظيفة لأستغل كل دقيقة في حياتي بطريقة منظمة، وهذا أثر إيجابي آخر أحفظه لها».
رحلة نجيب محفوظ الوظيفية على مدار 37 عاماً
اتسمت بالانضباط وأمدته بنماذج بشرية أثرت في كتاباته
رحلة نجيب محفوظ الوظيفية على مدار 37 عاماً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة