أقرّت الحكومة اللبنانية بعد 19 جلسة من المباحثات، مشروع موازنة عام 2019 بصيغته النهائية على أن يحال إلى المجلس النيابي، وذلك على وقع استمرار التحركات الشعبية الرافضة المساس برواتب القطاع العام والعسكريين المتقاعدين وفرض الضرائب.
وعقدت جلسة في القصر الجمهوري أمس برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون الذي عرض لعدد من الملاحظات حول المشروع، طالباً من الوزراء المباشرة في إعداد مشروع موازنة عام 2020 كي يحال إلى مجلس النواب ضمن المهلة الدستورية.
وتحدث رئيس الحكومة سعد الحريري عن جلسات مجلس الوزراء الـ19 التي عقدت خلال الأيام الماضية، وأعطى الكلام لوزير المال علي حسن خليل الذي قدّم عرضاً بما آل إليه مشروع الموازنة بعد دراسته وإدخال التعديلات عليه بناء على النقاش الذي دار في الجلسات. وقد أبدى عدد من الوزراء ملاحظاته على مشروع الموازنة الذي أقر بعد نقاش مستفيض، بحسب ما جاء في بيان الرئاسة.
ومع إقراره بأن عدد الجلسات الذي تطلبه بحث الموازنة غير مسبوق، قال وزير المالية علي حسن خليل: «إننا أمام تحوّل استثنائي ومهم جداً؛ وهي رسالة إلى المجتمع الدولي بأننا جديون، وستنعكس إيجاباً على الوضع اللبناني». وسجّل تحفظ لـ«القوات اللبنانية» و«الحزب الاشتراكي» على بعض البنود، فيما أعلن خليل أن الموازنة أقرّت تماماً، كما أحيلت بعد الجلسة الأخيرة في السراي الحكومي، ولم يطرأ أي تعديل عليها لا بالأرقام ولا بالمواد، وأكد أن الرقم الذي تم التوصل إليه في خفض العجز مشجع جداً من دون اعتراض أحد.
ورأى أن «دراسة الموازنة جاءت في ظل وضع اقتصادي ضاغط جداً، وبعد الظروف الاستثنائية التي مرّ بها لبنان العام الماضي جراء تأخير تشكيل الحكومة، فضلاً عن الضغوطات المختلفة وأزمات المنطقة، كل هذه الأحداث أدّت إلى رفع عجز الموازنة إلى نحو الـ11.4 في المائة»، مشيراً إلى أن «الموازنة جاءت في سياق مالي متضخم، ودين عام يزداد، وخدمة دين مرتفعة. من هنا كنا أمام تحدي خفض نسبة العجز إلى أقصى حدّ ممكن، وفي الوقت نفسه إقرار خطوات إصلاحية بنيوية في المجالات التي تشكّل العناصر الأساسية للموازنة».
وأوضح أن 35 في المائة من الموازنة عبارة عن رواتب ومخصّصات ومعاشات تقاعد، و35 في المائة خدمة دين عام، و11 في المائة عجز كهرباء، ونحو 9 في المائة إنفاق استثماري، والباقي نفقات تشغيلية للدولة... «من هنا؛ كان التركيز على استهداف ومعالجة كل النقاط الأساسية في الموازنة، فتم البحث في موضوع خدمة الدين العام، وإعادة النظر في مجموعة من الأمور التي ترتبط بحوافز ومخصّصات إضافية وتعويضات غير مبرّرة. وتم إقرار خطة الكهرباء والبدء بخفض العجز في هذا القطاع».
وأضاف: «في المجمل، نحن أمام تحوّل استثنائي ومهم جداً؛ إذ أقرّ في موازنة هذا العام خفض النفقات وزيادة الواردات بما يؤسّس لمعالجة بعض من الخلل الحاصل في الوضعين الاقتصادي والمالي»، مشيراً إلى أن «هذه الموازنة تؤسّس لموازنتي العامين المقبلين 2020 و2021، لذلك يجب أن ننظر إليها من هذا المنطلق»، لافتاً إلى أن «هناك أموراً كثيرة ستُستكمل في الموازنات المقبلة، كما أن هناك قرارات في مجلس الوزراء اتفقنا عليها يجب أن تترجم على شكل نتائج إيجابية على المستويين المالي والاقتصادي».
وأشار إلى أنه «في هذه الموازنة، وصل الإنفاق إلى حدود الـ23340 مليار ليرة لبنانية، تضاف إليها 2500 مليار، وهي سلفة لدعم كهرباء لبنان. في المقابل، لدينا واردات 190016 مليار ليرة، بزيادة عن المعدل المقرر سابقاً، مما يعني أن نسبة العجز بالمقارنة مع الناتج المحلي تصل إلى 7.59 في المائة، وهو رقم مُرضٍ جداً ويعبّر عن التزام حقيقي سُجّل خلال النقاشات التي جرت في الأسابيع الماضية، ويعكس إرادة حقيقية لدى الحكومة في أن تسير في المسار التصحيحي للوضع المالي»، مع تأكيده على أن «المهم قدرة الدولة والحكومة على الالتزام بهذا الرقم».
وشدد على أنه «كوزارة مالية سنعمل بأعلى درجات الجدية للبقاء في حدود نسبة العجز المقدرة تماماً كما وردت اليوم في هذا المشروع، خصوصا أننا بنينا هذا الأمر على نسبة نمو محدودة (1.2 في المائة) ليصل الناتج المحلي إلى نحو 90 ألف مليار، وبمزيد من الجدية، وبأي عنصر إيجابي ممكن أن يطرأ على الوضع العام، يمكن أن نحافظ عليه وقد يتحسّن. وفي الوقت نفسه، نحن نبعث برسالة واضحة إلى المجتمع الدولي وكل الصناديق الملتزمة بالوقوف إلى جانب لبنان، مفادها بأننا جديّون في هذا المجال، وسيترجم هذا الأمر ضخاً وإطلاقاً لمشاريع استثمارية جديدة يكون لها أثر كبير في دفع عجلة الاقتصاد».
ضبط التهرب الجمركي
في المقابل، لفت خليل إلى العمل على قوانين من شأنها المساهمة في ضبط التهرب الجمركي، وقال: «نحن في طور إقرار مجموعة من القوانين المكمّلة للوصول إلى أفضل وأعلى المعايير في التزام إقرار قانونين على الأقل؛ قانون الشراء العام والمناقصات، وقد أنجزت هذا القانون مع دفاتر الشروط النموذجية وأرسلتها إلى مجلس الوزراء، وفي أقرب جلسة، بعد التنسيق مع وزارة التنمية الإدارية، سيقرّ مشروع قانون الشراء العام أو الصفقات العمومية وسيحال إلى المجلس النيابي. إضافة إلى تحديث قانون الجمارك وفق المعايير التي تسمح بتعزيز الانضباط الجمركي. في هذا المجال أيضاً، هناك قرارات لمجلس الوزراء وتوصيات صدرت خلال هذه الجلسات بأن نضع موضع التنفيذ مجموعة من الإجراءات المتعلقة بهذا المجال، أي ضبط التهرّب الجمركي إلى أقصى حدّ».
وزاد: «نحن معنيون بأن نعمل بشكل جدي على إجراءات تساعد على تحسين ميزان المدفوعات، انطلاقاً من تحسين الميزان التجاري والعجز فيه. حصلت خطوات - قد تكون هناك بعض الملاحظات وتحفظات عليها - لكنني مجبر على أن أقول إن الحكومة اتخذت هذه الإجراءات على أمل أن تؤدي الغرض منها، ويجب أن تستكمل بالتركيز على دعم القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة وتخفيف التركيز على الاستيراد من الخارج وتقليص حجم الاستنزاف من العملات الأجنبية من لبنان إلى الخارج. كما هو معروف؛ العجز في الميزان التجاري كبير جداً، وقد استوردنا في 2018 بما يقارب 20 مليار دولار، وصدّرنا بـ3.8 مليار دولار، وهذا العجز يضغط على الاحتياط بالعملات الأجنبية».
وفيما يتعلق بموضوع الرواتب، أكد خليل عدم المساس بها، قائلا: «أثبتت الأيام أن كل الإشاعات التي أُطلقت حول تخفيض الرواتب والمسّ بمستحقات أو بحقوق العسكريين والإدارة والأساتذة والجامعة... وغيرها، غير واقعية. كان هناك ضخّ لكثير من الإشاعات. الأيام أثبتت صحة كلامنا منذ البداية؛ أنه لن يكون هناك مسّ ولا اقتطاع من الرواتب أو المخصصات لهؤلاء الأشخاص».
وحول اللغط الحاصل بشأن «التدبير رقم 3» الخاص بالعسكريين، أكد خليل «الموازنة لم تقارب اليوم هذا الموضوع لا في جوانبه المالية ولا في الصياغات القانونية، تُرك للمناقشة في مجلس الدفاع الأعلى ليحال إلى الحكومة لاتخاذ الموقف المناسب منه أو صدور المرسوم الذي ينظم كيفية توزيع القوى العسكرية والأمنية على التدابير (1) و(2) و(3)». ومع تأكيده على أن «الرقم الذي وصلنا إليه في خفض العجز مشجع جداً من دون اعتراض أحد»، لفت إلى أن «تخفيض العجز هو حاجة وطنية قبل أن يرتبط بمؤتمر (سيدر)، لكن هناك نظرة إيجابية من الخارج إلى ما تم تحقيقه، في الخطوات الإصلاحية وبمستوى تخفيض العجز».
وأفيد بأن وزراء «القوات» تحفظوا على بعض الأرقام المرتبطة بعائدات الاتصالات والمرفأ والأملاك البحرية والتهرب الضريبي، وطلبوا توضيح الحاجة لإجراءات متعددة للوصول إلى أرقام الموازنة والشروع بإصلاحات بنيوية قبل موازنة 2020. كما أفيد بأن وزراء «الاشتراكي» أصروا على رفع التخمينات على الأملاك البحرية وطالبوا بإعادة النظر في خفض رواتب الوزراء والنواب والرؤساء.
وقال نائب رئيس الحكومة غسان حاصباني: «بعد 19 جلسة خفّضنا 1.3 في المائة من الموازنة التي اقترحها وزير المال، ولم يبلغ العجز فعليا 7.5 في المائة من الناتج، وهناك أرقام يمكن أن تكون أفضل، فتحفظنا على بعض النقاط، ونحن مع أن تمضي الموازنة لتُناقش في مجلس النواب، وتحفّظنا على بعض النقاط لعدم الخوض في التفاصيل وتأخير إقرارها».
أما وزير الدفاع إلياس بوصعب فقال: «اقترحنا التخفيض بالخطة الخمسية، وهذه أمور تم تأجيلها لموازنة 2020، وحاولنا سحب ضريبة الدخل، وغير ممكن وضع ضريبة دخل على المتقاعد أكبر ممن هو في الخدمة الفعلية، وسينقل الخلاف إلى المجلس النيابي».
ترحيب أممي
ورحب المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيش، بموافقة الحكومة على مشروع موازنة عام 2019، آملاً «إقرارها في مجلس النواب بأسرع وقت ممكن بعد مراجعة شاملة ومعمقة». وقال في بيان إن «إقرار موازنة العام 2019 يتيح الفرصة لاتخاذ تدابير أولية لخفض العجز. كما أنها فرصة للبدء بإدخال الإصلاحات اللازمة بطريقة مستدامة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً كجزء من الجهد الأوسع نحو تنشيط الحكم الرشيد والمحاسبة والاستثمار وتوفير فرص عمل».