روسيا والعرب: المصالح بعد الآيديولوجيا

عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)
عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)
TT

روسيا والعرب: المصالح بعد الآيديولوجيا

عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)
عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)

استغرقت السياسة العربية لروسيا نحو العقدين من الزمن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لتعيد صياغة ذاتها، وتحدد أولوياتها، وتنجح في تسويق نفسها بصور تتناسب مع تعدد الاهتمامات والمصالح والمحاور العربية، حتى ليبدو أن لموسكو سياسات مختلفة ومتنوعة باختلاف الدول العربية، وتنوع التطلعات في هذه المنطقة.
الاعتبارات الآيديولوجية التي نَظّمت العلاقات السوفياتية - العربية بين عشرينيات القرن الماضي وتسعينياته، اختفت مع اختفاء الاتحاد السوفياتي، لكن المقومات السابقة للسياسة الروسية السابقة على نظيرتها السوفياتية، كانت قد اختفت أيضاً ما فرض على روسيا الاتحادية الجديدة التفكير في أطر حديثة لدورها في الإقليم. بكلمات ثانية، قامت السياسة الروسية في الحقبة القيصرية على السعي إلى الاستفادة القصوى من ضعف السلطنة العثمانية التي كانت تحكم أجزاء واسعة من العالم العربي. فكان التقدم الروسي جنوباً يجري عسكرياً في مناطق البلقان والقوقاز والقرم عن طريق الحروب المباشرة، أو دعم الثورات والانتفاضات المحلية ضد الحكم العثماني، على غرار دعم تمرد والي مصر علي بك الكبير وتحالفه مع ظاهر العمر في فلسطين ما نجم عنه قصف البحرية الروسية لمدينة بيروت، التي كانت في أيدي الأتراك، واحتلالها لفترة وجيزة سنة 1773 على سبيل المثال. ويترافق، من جهة ثانية، مع ضغوط سياسية ودبلوماسية ومطالب بضمان أمن الحجاج إلى الأراضي المقدسة في فلسطين، حيث أنشأ الروس عدداً من المدارس والأديرة.
قطع العهد السوفياتي مع هذه الممارسات، وكان اهتمام السلطة البلشفية الوليدة بالعالم العربي هامشياً وملحقاً بسياستها نحو «شعوب الشرق» التي كان أكثرها خاضعاً للاستعمار، إضافة إلى ما اعتبره السوفيات تخلفاً في البنى الاجتماعية والاقتصادية المحلية ما يؤجل التحاقها بالثورة العالمية التي كانت موسكو قد عيّنت نفسها عاصمة لها. هذا الموقف تغيّر بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور أهمية الشرق الأوسط كساحة منافسة مع الغرب في إطار الحرب الباردة، حيث دعم الاتحاد السوفياتي دعماً ملموساً حركات التحرر الوطني، وما سمي في ذلك الحين «الأنظمة التقدمية» التي أعلنت العداء للاستعمار، وعملت على التخلص من هيمنته والتبعية له.
بيد أن العامل الآيديولوجي لم يكن المكوّن الوحيد للسياسة السوفياتية نحو المنطقة. فعلى الرغم من التأييد المذكور للأنظمة التقدمية ولحركات التحرر، كانت موسكو تخوض حرباً ضارية ضد الولايات المتحدة وحلفائها للبقاء في الشرق الأوسط. فبعد انتصارات كبيرة سجلتها عبر تأييدها لزعامة جمال عبد الناصر، الذي بلغ الذروة في تشييد السد العالي، ثم في إرسال آلاف الخبراء الذين انخرطوا في القتال مباشرة في حرب الاستنزاف بعد هزيمة 1967، مع تجاهل السوفيات القمع الذي كان يتعرض له الشيوعيون العرب، الذين كان من المفترض أن يكونوا الحلفاء الطبيعيين لموسكو التي فضّلت مصالحها الجيو - استراتيجية على المبادئ الأممية، وبعد نجاحها في إحباط مشروع حلف بغداد، تغيّرت الرياح العربية مع طرد الرئيس أنور السادات للخبراء السوفيات في 1972، وتبني حافظ الأسد في سوريا سياسة انفتاح حيال الغرب، خلافاً لسلفه اليساري صلاح جديد، وتصاعد نفوذ دول الخليج التي لم يكن عدد منها يقيم علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفياتي.
أعوام التسعينيات الروسية المضطربة كانت فترة شبه جامدة في العلاقات الروسية - العربية، بسبب انشغال موسكو في ترتيب أوضاعها الداخلية، وتأرجح زعامة بوريس يلتسين بين الانضواء في التحالف الغربي وبين الخضوع لضرورات الأمن القومي الروسي. وبدأت في تلك الفترة تباشير الأفكار «الأوراسية» بالظهور والدعوة إلى إرساء الأمن الروسي على الامتداد الجغرافي الهائل بين القسم الآسيوي من روسيا وصولاً إلى غرب أوروبا. ما يفترض تركيز الاهتمام على إقامة تحالفات ضمن ثلاث دوائر: «الجوار القريب» أي دول الاتحاد السوفياتي السابقة. والصين كعمق اقتصادي، سواء للصادرات النفطية والعسكرية الروسية، أو كقوة صاعدة على الجناح الشرقي لروسيا. والدائرة الثالثة هي أوروبا التي ترتبط روسيا بصلات تاريخية معها لا تقتصر على التبادل التجاري، بل تشمل أيضاً التأثر والتأثير في السياسات الداخلية، وإن على نحو غير مباشر.
في بداية العقد الثاني من القرن الحالي، عادت المنطقة العربية لتبرز من بين الاهتمامات الروسية. الهدوء النسبي الذي شهده العالم العربي في التسعينيات، لم يكن إلا هدوءاً سابقاً للعاصفة التي انطلقت مع احتلال العراق، ثم اندلاع الثورات العربية، وانهيار «النظام العربي الرسمي»، جراء تناقضات أكثرها داخلي. واعتبرت روسيا أنها ما زالت مهددة بالتطويق من حلف شمال الأطلسي الذي لم يتوقف عن قبول أعضاء كانوا من حلفاء موسكو السابقين، والتأكيد على بناء الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا، ومساندة من تراهم روسيا أعداء لها في أوكرانيا وجورجيا وغيرهما.
أزمة شبه جزيرة القرم، كانت نقطة تجاوزت ارتدادتها أوروباً، ووصلت إلى المناطق التي اعتادت موسكو إدراجها ضمن ساحاتها المضمونة. المثال الأبرز على ذلك كان التحوّل الكبير في السياسات الروسية في سوريا. فبعد أن كان الكرملين يساند نظام بشار الأسد في المحافل الدولية، كمجلس الأمن، ويمده بالسلاح والمال، انتقلت هذه المساندة بعد أزمة القرم إلى التدخل العسكري المباشر، وإرسال عشرات الطائرات الحربية وآلاف الجنود للحيلولة دون سقوط النظام السوري، الذي قدّر مسؤولون روس أنه لن يصمد أكثر من ثلاثة شهور بعد خسارته السيطرة على مدينة إدلب وبلدة جسر الشغور الاستراتيجية، وتقدم المعارضة المسلحة إلى أطراف الساحل السوري الذي يعتبر معقل النظام في صيف 2015.
وفي الوقت الذي ساد فيه أن التدخل هذا سينسف كامل العلاقات الروسية مع الدول العربية الأخرى التي كانت تساند المعارضة السورية، تمكنت الدبلوماسية الروسية من تحويل الأنظار العربية إلى ضرورة التعاون في مجالات تهم الطرفين، خصوصاً في تصدير الطاقة، والتحكم في الأسعار التي شهدت في تلك الفترة انخفاضاً حاداً حمل الروس والعرب على البحث عن حلول للأزمة، في منأى عن استمرار الخلاف في الملف السوري، في الوقت الذي لم تغير فيه موسكو مواقفها من مسائل حساسة تهم العرب مثل القضية الفلسطينية. تغلّب إذن الجانب العملي في العلاقات الروسية - العربية، واستطاع الجانبان تحييد عناصر التفجير، وفق جدول أولويات قد لا يكون مثالياً، إلا أنه يعكس موازين القوى الحالية، وتبدل اهتمامات العرب، وما ينتظرونه من دولة بحجم روسيا ووزنها.


مقالات ذات صلة

السعودية... نظام جديد للبتروكيماويات لتعزيز كفاءة قطاع الطاقة وتحقيق الاستدامة

الاقتصاد أحد مصانع «الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك)»... (واس)

السعودية... نظام جديد للبتروكيماويات لتعزيز كفاءة قطاع الطاقة وتحقيق الاستدامة

يمثل إقرار مجلس الوزراء السعودي «نظام الموارد البترولية والبتروكيماوية» خطوة استراتيجية على طريق تعزيز المنظومة التشريعية لقطاع الطاقة في البلاد.

محمد المطيري (الرياض)
الاقتصاد العاصمة السعودية الرياض (واس)

«ستاندرد آند بورز» تتوقع تأثيراً محدوداً لزيادة أسعار الديزل على كبرى الشركات السعودية

قالت وكالة «ستاندرد آند بورز» العالمية للتصنيف الائتماني إن زيادة أسعار وقود الديزل في السعودية ستؤدي إلى زيادة هامشية في تكاليف الإنتاج للشركات الكبرى.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد رجل يستخدم جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به بجوار شعارات «لينوفو» خلال مؤتمر الهاتف المحمول العالمي في برشلونة (رويترز)

«لينوفو» تبدأ إنتاج ملايين الحواسيب والخوادم من مصنعها في السعودية خلال 2026

أعلنت مجموعة «لينوفو المحدودة» أنها ستبدأ إنتاج ملايين الحواسيب الشخصية والخوادم من مصنعها بالسعودية خلال 2026.

الاقتصاد أحد المصانع التابعة لشركة التعدين العربية السعودية (معادن) (الشرق الأوسط)

الإنتاج الصناعي في السعودية يرتفع 3.4 % في نوفمبر مدفوعاً بنمو نشاط التعدين

واصل الإنتاج الصناعي في السعودية ارتفاعه في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مدعوماً بنمو أنشطة التعدين والصناعات التحويلية، وفي ظل زيادة للإنتاج النفطي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد أكبر مدينة للثروة الحيوانية في منطقة الشرق الأوسط (واس)

بـ2.4 مليار دولار... السعودية تعلن عن أكبر مدينة للثروة الحيوانية بالشرق الأوسط

أعلنت السعودية، الأربعاء، عن أكبر مدينة للثروة الحيوانية في منطقة الشرق الأوسط بقيمة 9 مليارات ريال (2.4 مليار دولار)، لتعزيز أمنها الغذائي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري