«جدة القديمة» تعانق التراث والتاريخ

جهود حثيثة لوضعها على قائمة التراث العالمي

جانب من جدة التاريخية
جانب من جدة التاريخية
TT

«جدة القديمة» تعانق التراث والتاريخ

جانب من جدة التاريخية
جانب من جدة التاريخية

في كل مدن العالم، توجد «بؤر» تاريخيّة، تستمدّ أهميّتها من قِدمها وطرزها ومعالمها العمرانيّة، وتزداد أهميّتها عندما تقترن تلك الأماكن بأحداث مهمّة ترتبط بتاريخ المدن وتحوّلاتها الحضريّة والسياسيّة.
في المملكة العربيّة السعودية، التي مضى على تأسيسها 120 عاماً وعلى توحيدها قرابة 90 عاماً، هناك في الذهن مواقع في معظم المدن والأقاليم، كقلاع المصمك في الرياض، والكوت في الهفّوف، وبرزان في حائل، وجدة القديمة المسمّاة شعبيّاً «البَلَد» أو «التاريخيّة»... وغيرها كثير، مرّت بأيام تستحق في نظر السعوديين أن تسمّى من أيام التاريخ المجيد في تأسيس الكيان، وظلّوا على مدى العقود يستذكرون الأدوار التاريخيّة التي مرّت بها.
وبالنسبة لجدة التاريخيّة في وسط المدينة، فكانت استقبلت الملك الفاتح عبد العزيز آل سعود عام 1924 بعدما آل حكم الحجاز إليه، واستطاع بحكمته وبجهوده الدؤوبة أن يجعل الإقليم جزءاً آمناً متمماً للمملكة الجديدة من الخليج إلى البحر الأحمر.
والحقيقة أن أهل الحجاز قد وجدوا في قدراته الذهنيّة والقياديّة ما جعلهم يُجمعون على قبوله ويقتنعون بأهليّته للمُلك، فبايعوه على ذلك، بل لقد قادوا بعد 7 أعوام مبادرات الدعوة لتوحيد الحجاز ونجد والأحساء وعسير والأقاليم الأخرى، وقد استقبله في زياراته المتعدّدة بيوتات جدّة التاريخيّة وأُسرها ووُجهاؤها (آل نصيف - آل باناجه - آل قابل - آل زينل - آل الجفّالي - آل الفضل... وغيرهم) واستضافته دورهم.
وتقوم الدوائر المعنيّة بالتراث منذ سنوات بجهود حثيثة لتأهيل هذه المنطقة (جدة التاريخيّة) وسعت لوضعها على قائمة التراث العالمي لدى اليونيسكو، لما تضمّه من تراث معماري أصيل يعبّر عن البناء الحجازي التقليدي برواشينه الخشبيّة الجميلة والذوق التصميمي الرفيع، مما أعاد الحياة إلى تلك الأحياء وحماها من الاندثار والتآكل والابتذال، وجعلها مقصداً سياحياً شعبيّاً للأهالي والزوّار والمقيمين يضاهي المدن السياحيّة العالميّة في الغرب والشرق. ولم ينقطع ملك البلاد وولي العهد والحاكم الإداري والوزراء المعنيّون عن زيارتها بين حين وحين لاستذكار دورها التاريخي، وللإشراف على مراحل التطوير التي تمرّ بها، ولتشجيع القطاعات الاقتصاديّة على الاستثمار بها واجتذاب السياحة إليها، حتى صارت هناك الآن حركة نهاريّة ليليّة دؤوب.
في السعودية، كانت شؤون التراث والثقافة مشتّتة، تتنازعها أجهزة حكوميّة عدّة، وصارت محط تجارب تنظيميّة على مدى 30 عاماً، إلى أن استقر الرأي في العام الماضي على جعلها وزارة إشرافيّة مستقلّة، استلّت من غيرها كل الاختصاصات الصلبة والإبداعيّة الناعمة، المتّصلة بالثقافة حسب العرف الدولي، وصار المجتمع الثقافي ينظر من جديد بعين التفاؤل لمستقبلها.
بإنشاء وزارة مستقلّة تصاعدت من جديد آمال المثقّفين، بأن تنظر الوزارة بعين الشفقة على الكتاب لحمايته من بخس تجار النشر وغبن المكتبات، وبأن تصبح مرافق الوزارة الجديدة بيوتاً فعليّة مفتوحة للقاءات المثقفين وندواتهم، وأن يجعلوها بمنأى عن التحوّطات الأمنيّة التي غالباً ما تحيط بالمرافق الإعلاميّة أيام كان الاقتران قائماً بين الثقافة والإعلام، وأن يبعثوا القنوات التلفزيونيّة الثقافيّة التي حوصرت فيما مضى، بحيث تحظى بالتطوير الذي يأمله المثقّفون بدلاً من الشطب والإلغاء... والكلام عن مطالب المثقّفين يطول فيما يتّصل بالآمال والتطلّعات.
- باحث وإعلامي سعودي



«مساعدة الصمّ»... مبادرة تُثلج قلب مجتمع منسيّ في لبنان

مؤسِّسة المبادرة مع فريقها المُساعد للنازحين الصمّ (نائلة الحارس)
مؤسِّسة المبادرة مع فريقها المُساعد للنازحين الصمّ (نائلة الحارس)
TT

«مساعدة الصمّ»... مبادرة تُثلج قلب مجتمع منسيّ في لبنان

مؤسِّسة المبادرة مع فريقها المُساعد للنازحين الصمّ (نائلة الحارس)
مؤسِّسة المبادرة مع فريقها المُساعد للنازحين الصمّ (نائلة الحارس)

قد ينشغل اللبنانيون في زمن الحرب بأخبارها وأحوال النازحين وكيفية تأمين حاجاتهم. لكنّ قلةً منهم فكّرت بجزء من المجتمع اللبناني؛ هم الأشخاص الصمّ. فهؤلاء يفتقدون القدرة على السمع وسط حرب شرسة. لا أصوات القذائف والصواريخ، ولا الانفجارات والمسيّرات. ولا يدركون إعلانات التحذير المسبقة لمنطقة ستتعرّض للقصف. وقد تكمُن خطورة أوضاعهم في إهمال الدولة الكبير لهم. فهي، كما مراكز رسمية ومستشفيات ووسائل إعلام، لا تعيرهم الاهتمام الكافي. فتغيب لغة الإشارة التي يفهمونها، ليصبح تواصلهم مع العالم الخارجي صعباً.

من هذا المنطلق، ولدت مبادرة «مساعدة الصمّ»، فتولاها فريق من اللبنانيين على رأسهم نائلة الحارس المولودة من أب وأم يعانيان المشكلة عينها. درست لغة الإشارة وتعاملت من خلالها معهما منذ الصغر؛ الأمر الذي دفع بأصدقائها الصمّ، ملاك أرناؤوط، وهشام سلمان، وعبد الله الحكيم، للجوء إليها. معاً، نظّموا مبادرة هدفها الاعتناء بهؤلاء الأشخاص، وتقديم المساعدات المطلوبة لتجاوز المرحلة.

بلغة الإشارة يحدُث التفاهم مع الأشخاص الصمّ (نائلة الحارس)

تقول نائلة الحارس لـ«الشرق الأوسط» إنّ القصة بدأت مع صديقتها ملاك بعد نزوح أهلها الصمّ إلى منزلها في بيروت هرباً من القصف في بلدتهم الجنوبية، فتوسّعت، من خلالهم، دائرة الاهتمام بأصدقائهم وجيرانهم. وعندما وجدت ملاك أنّ الأمر بات يستدعي فريقاً لإنجاز المهمّات، أطلقت مع هشام وعبد الله المبادرة: «اتصلوا بي لأكون جسر تواصل مع الجمعيات المهتمّة بتقديم المساعدات. هكذا كبُرت المبادرة ليصبح عدد النازحين الصمّ الذين نهتم بهم نحو 600 شخص».

لا تواصل بين الصمّ والعالم الخارجي. فهم لا يستطيعون سماع أخبار الحرب عبر وسائل الإعلام، ولا يملكون «لاب توب» ولا أدوات تكنولوجية تخوّلهم الاطّلاع عليها لحماية أنفسهم. كما أنّ لا دورات تعليمية تُنظَّم من أجلهم ليتمكّنوا من ذلك.

كي تلبّي نائلة الحارس رغبات الصمّ وتجد فرصاً لمساعدتهم، كان عليها التفكير بحلّ سريع: «لأنني أدرس لغة الإشارة والترجمة، دعوتُ من خلال منشور على حسابي الإلكتروني متطوّعين لهذه المهمّات. عدد من طلابي تجاوب، واستطعتُ معهم الانكباب على هذه القضية على أرض الواقع».

معظم الصمّ الذين تعتني بهم المبادرة في البيوت. بعضهم يلازم منزله أو يحلّ ضيفاً على أبنائه أو جيرانه.

يؤمّن فريق «مساعدة الصمّ» جميع حاجاتهم من مساعدات غذائية وصحية وغيرها. لا تواصل من المبادرة مع جهات رسمية. اعتمادها الأكبر على جمعيات خيرية تعرُض التعاون.

كل ما يستطيع الصمّ الشعور به عند حصول انفجار، هو ارتجاج الأرض بهم. «إنها إشارة مباشرة يتلقّونها، فيدركون أنّ انفجاراً أو اختراقاً لجدار الصوت حدث. ينتابهم قلق دائم لانفصالهم عمّا يجري في الخارج»، مؤكدةً أنْ لا إصابات حدثت حتى اليوم معهم، «عدا حادثة واحدة في مدينة صور، فرغم تبليغ عائلة الشخص الأصمّ بضرورة مغادرة منزلهم، أصرّوا على البقاء، فلاقوا حتفهم جميعاً».

ولدت فكرة المبادرة في ظلّ مصاعب يواجهها الأشخاص الصمّ (نائلة الحارس)

وتشير إلى أنّ لغة الإشارة أسهل مما يظنّه بعضهم: «نحرّك أيدينا عندما نتحدّث، ولغة الاشارة تتألّف من هذه الحركات اليومية التي نؤدّيها خلال الكلام. كما أن تعلّمها يستغرق نحو 10 أسابيع في مرحلة أولى. ويمكن تطويرها وتوسيعها بشكل أفضل مع تكثيف الدروس والتمارين».

عدد الصمّ في لبنان نحو 15 ألف شخص. أما النازحون منهم، فقلّة، بينهم مَن لجأ إلى مراكز إيواء بسبب ندرة المعلومات حول هذا الموضوع. كما أنّ كثيرين منهم لا يزالون يسكنون بيوتهم في بعلبك والبقاع وبيروت.

بالنسبة إلى نائلة الحارس، يتمتّع الأشخاص الصمّ بنسبة ذكاء عالية وإحساس مرهف: «إنهم مستعدّون لبذل أي جهد لفهم ما يقوله الآخر. يقرأون ملامح الوجه وحركات الشفتين والأيدي. وإنْ كانوا لا يعرفون قواعد لغة الإشارة، فيستطيعون تدبُّر أنفسهم».

يغيب الاهتمام تماماً من مراكز وجهات رسمية بالأشخاص الصمّ (نائلة الحارس)

إهمال الدولة اللبنانية لمجتمع الصمّ يبرز في محطّات عدّة. إن توجّهوا إلى مستشفى مثلاً، فليس هناك من يستطيع مساعدتهم: «ينبغي أن يتوافر في المراكز الرسمية، أسوةً بالخاصة، متخصّصون بلغة الإشارة. المشكلات كثيرة في كيفية تواصلهم مع الآخر. فالممرض في مستشفى قد لا يعرف كيفية سؤالهم عن زمرة دمهم. وليس هناك مَن يساعدهم لتقديم أوراق ووثائق في دعوى قضائية. هذه الثغر وغيرها تحضُر في مراكز ودوائر رسمية».

تختم نائلة الحارس: «التحدّي في الاستمرار بمساعدة الأشخاص الصمّ. فالإعانات التي نتلقّاها اليوم بالكاد تكفينا لأيام وأسابيع. على أي جمعية أو جهة مُساعدة أخذ هؤلاء في الحسبان. فتُدمَج مساعدات الأشخاص العاديين مع مساعدات الصمّ، وبذلك نضمن استمرارهم لأطول وقت».