السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل

دمشق تنام مبكرا.. وسكانها يحلمون بالكهرباء والماء

السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل
TT

السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل

السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل

«ابني على الخط.. أبلغني بأن مياه الخزان خلصت.. المشكلة أن المياه مقطوعة منذ ثلاثة أيام». بهذا الحوار انتهت سهرة نيرمين مع صديقاتها، والتي كن خططن لها قبل أسبوع، للذهاب إلى أحد المقاهي في حي أبو رمانة لتناول القهوة والنرجيلة. لم يخرجن للاستمتاع بمساء دمشق الرطب منذ فترة طويلة.. لكن مشكلة المياه وغيرها من المشاكل اليومية كانقطاع الكهرباء، وصعوبة التنقل، والانفجارات المتتالية، جاءت لتنغص عليهن اللقاء، فعدن باكرا كل واحدة إلى منزلها للانخراط في حلها بعد أن فشلن في الهروب منها ولو لبعض الوقت.
هي المشكلات التي باتت جزءا لا يتجزأ من حياة السوريين عموما. يقول «نزار ت»: «لقد اعتدنا عليها حتى بتنا لا نعرف العيش خارجها». فهو يضطر للنوم مبكرا للاستيقاظ ليلحق بموعد وصول المياه، ويشغل محرك استجرار المياه لملء الخزان، فإذا حصل وتأخر في السهر قد تحرم عائلته في اليوم التالي من المياه. ويلفت إلى أنه في حياته كلها لم يكن يوما ملتزما بمواعيد نومه واستيقاظه كما هو الآن في ظل انقطاع المياه والكهرباء.
أما عن المناسبات العامة والخاصة مثل طقوس رمضان والعيد، والزواج والأفراح عموما، فيهز رأسه ساخرا بأسف ويقول «نسيناها منذ ثلاث سنوات».. ويتابع أن جاره أخبره بصدور فواتير الهاتف قائلا «انتبه وأنت تقرأها، فقد تفسد عليك يومك»، ثم يؤكد «كل أسباب إفساد الحياة تكالبت علينا». وعن كيفية قضاء الحاجيات من الأسواق يقول «العام الحالي هو الأفقر في كل شيء منذ ثلاث سنوات، فبالكاد أفطر مع عائلتي المتوافر لدينا من طعام وشراب، ثم يستلقي كل واحد منا على أريكة مستسلما للصمت وكأننا نمارس رياضة اليوغا، فإذا حصل وجرى حديث فيكون شجارا حول توزيع المهام في البيت مثل مراقبة خزان المياه، وتأمين بنزين للمولد، وشراء شموع وتبديل أنبوبة الغاز، ودفع فواتير الكهرباء والنت.. إلخ. عدا ذلك فإننا نصارع الضجر والانتظار في حال انقطاع الكهرباء، وفي حال توافرها ننصرف إما إلى التلفزيون أو الإنترنت».
«رياض ن»، شاب مقبل على الزواج لكنه متردد خشية أن يزيد إلى حياته أعباء جديدة. يقول «نسينا السهر خارج المنزل.. وتناول الطعام في المطاعم منذ سنوات، بسبب غياب الأمن. في المناسبات مثلا خاصة رمضان عام 2011.. أسقطنا الحلويات واللحوم والنقل والموالح والمسليات، وكل ما له علاقة بالرفاهية، كما ألغينا من قاموسنا احتفالات الأعراس، واختزلت تجمعات العزاء في ساعتين وقت الظهيرة، وبات توفير ما يصرف على الرفاهية يذهب إلى إعانة النازحين والمشردين من أهلنا ومعارفنا.. وتقاسم الرغيف أحد أبرز همومنا. وفي رمضان عام 2012 ألغينا الأطباق المنوعة بسبب الغلاء الفاحش، ودعوات الأهل الأصدقاء، ولم يعد لدينا ما يجعلنا نفكر في تقاسم الرغيف والمنزل مع أهلنا المشردين، فقد أصبحنا جميعنا محتاجين، نحلم بالسفر واللجوء والنزوح. العام الحالي أضفنا إلى قائمة الممنوعات قائمة إجبارية.. يتحكم فيها انقطاع المياه والكهرباء». وفي رمضان 2015 قد تتحقق النكتة الرائجة في سوريا اليوم عن «التمني بأن يكون شهر رمضان مثل المونديال مرة كل أربع سنوات ولا تشترك فيه سوريا».
يعيش سكان دمشق أزمة مياه خانقة اشتدت منذ أشهر مع حلول شهر رمضان. تقول «ناديا م» إن «أزمة المياه أنستنا أزمة الكهرباء التي اعتدنا عليها منذ ثلاث سنوات، وتمكنا إلى حد ما من إيجاد بدائل» سواء بمولدات كهربائية أو بطاريات ساكنة تسد بعض الاحتياج وليس كله كتشغيل الإنارة والتلفزيون.. أما «البراد فقد أصبح نملية (خزانة طعام بدائية)». وتعتبر ناديا انقطاع المياه «كارثة» لعدم القدرة على توفير بدائل سهلة وبالأخص في المباني العالية، حيث لا تصل المياه إلى الطبقات الرابعة والخامسة إلا بشق الأنفس، مشيرة إلى أن هذا العام يمر قاسيا جدا بسبب انقطاع الماء والكهرباء، مما اضطرها إلى جلب طعام جاهز من الأسواق على غير عادتها، كما ألزمت أولادها بعدم استخدام صحون وأدوات طعام كي لا يتراكم الجلي. وتقول «تناولنا الطعام في المنزل على ضوء الشموع من دون ملاعق وشوك وسكاكين وصحون وكأننا في رحلة إلى صحراء قاحلة».
لكن هذا الحل المؤقت الذي لجأت إليه عائلة «ناديا م» لا يمكن أن يكون حلا دائما لارتفاع كلفته، فليس من السهل الاعتماد على الطعام الجاهز يوميا لكلفته الباهظة قياسا بمستوى الدخل المتدني، لغالبية السوريين الذين بالكاد يؤمنون قوت يومهم وبالأخص العائلات الكبيرة. ويشير أبو عمار إلى حل آخر لكنه أكثر كلفة وهو الخروج إلى المطاعم، فهو مكتف ماديا إلى حد ما، ولكن لم يعد بإمكانه ارتياد المطاعم مع عائلته كالسنوات السابقة، فكل شخص يكلف وسطيا ألفي ليرة في مطعم عادي، أي أن عائلته المؤلفة من ستة أفراد ستحتاج إلى 12 ألف ليرة كأقل تقدير. وقال إن بإمكانه ارتياد المطعم مرة أو مرتين خلال الشهر، لكن بالتأكيد ليس أكثر، لذلك قرر مع عائلته الذهاب مرتين خلال الأسبوع إلى متنزه شعبي في منطقة الربوة غرب دمشق لشرب الشاي والقهوة والتمتع بالهواء البارد عندما تكون الكهرباء مقطوعة، كحل لتجاوز الأمسيات الصعبة في المنازل.
وتواجه الحكومة السورية واحدة من أعقد المشكلات الخدمية التي تتعرض لها منذ ثلاث سنوات، ومع أن أزمة المياه ليست مستجدة ولا وليدة الظروف الأمنية الراهنة، فإن الأحداث الدامية فاقمتها إثر استهداف خطوط تغذية الكهرباء على عمليات ضخ المياه، والتي تزامنت مع حالة جفاف لم تمر مثلها منذ عام 1932، بالإضافة للمشكلة الأهم والأكبر وهي غياب التخطيط والفساد في إدارات الدولة عبر العقود الماضية التي أنهكت البنية التحتية وراكمت مشكلاتها في قطاع الخدمات كالمياه والكهرباء والاتصالات والصحة وغيرها، لتتفجر الأزمات واحدة تلو الأخرى في السنوات الثلاث الأخيرة تحت وطأة القصف والاشتباكات العنيفة.
وبينما تختلط أسباب انقطاع الكهرباء والماء بين تقنين تتبعه الحكومة بسبب الشح وأعمال هجومية تستهدف محطات الكهرباء والماء، أعلنت الحكومة السبت الماضي أن «محطات توليد المنطقة الجنوبية توقفت عن العمل بسبب قطع إمدادات الوقود عنها نتيجة قطع خط الغاز المغذي لها في منطقة شرق جيرود في ريف دمشق من قبل المجموعات المسلحة». وقالت وزارة الكهرباء في بيان صحافي إن «توقف هذه المحطات أدى إلى زيادة ساعات تقنين الكهرباء في المنطقة الجنوبية، وإن وزارة النفط والثروة المعدنية تعمل على معالجة الموضوع». أما مؤسسة المياه والصرف الصحي في دمشق وريفها فلم تفلح تطميناتها وإعلانها عن مشاريع لحل أزمة المياه في تبديد القلق الذي ازداد في الأسبوع الأخير، وبحسب تصريحات إعلامية لمدير عام مؤسسة المياه والصرف الصحي المهندس حسام حريدين فإن الحكومة بدأت مشروع المنطقة الغربية، وهو رديف لريف دمشق للمساعدة في حل مشكلة ريف دمشق في المنطقة الغربية على مرحلتين تؤمن المرحلة الأولى منه 800 لتر في الثانية، والمرحلة الثانية تؤمن 1430 لتر في الثانية.. و«إنه يتم العمل حاليا على إحداث توازنات بين الريف والمدينة ضمن إطار وجود عدالة في تأمين كميات المياه للجميع في مختلف المناطق»، وإن «وضع الريف متابع بشكل جيد».
وتعاني المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في ريف دمشق من تنامي ضغط الاستهلاك بسبب نزوح السكان من المناطق المجاورة الساخنة، مما يجعل تأمين كل الخدمات صعبا جراء الاختلال الذي أصاب التوزع الديموغرافي. وحاول حريدين طمأنة مواطنيه إلى أن «وضع مياه الشرب مستقر خلال المرحلة المستقبلية».‏ لكنه لم يوضح كيف سيتم تجاوز الأزمة المتفاقمة حاليا، بل انصرف للحديث عن إنجاز دراسات متعلقة بمصادر المياه الدائمة في المنطقة العربية، و«عزم» الحكومة تنفيذ مشاريع آبار تكفي الزيادة السكانية لنهاية 2040، وأن «الآبار المقرر تنفيذها توفر مياه الشرب بغزارة 1400 لتر/ الثانية، وهي كافية لتأمين مياه الشرب لنحو 14 تجمعا سكانيا في ريف دمشق»، وإنه تم البدء في استثمار بئرين في منطقة الريمة في جبال الحرمون توفران 500 متر مكعب ويستفيد من المصدرين الجديدين المشتركون في كل من جديدة عرطوز وصحنايا.
كلام مدير مؤسسة المياه إن دل على شيء فهو يدل على أنه لا انفراج قريبا في أزمة المياه، إن لم تكن متجهة لمزيد من التفاقم، فثمة مناطق في ريف دمشق وأحياء أطراف العاصمة تغيب المياه عنها لعدة أيام، بل إن أحياء وسط العاصمة راحت تعاني من المشكلة ذاتها. ويشير «نزار ت» إلى أنه تمكن إلى حد ما من التغلب على مشكلة الكهرباء بأن تبادل مع جيرانه خطوط الكهرباء و«النت»، بحيث يعطيهم من منزله في حال كانت متوافرة عنده ومقطوعة عندهم، والعكس بالعكس، بحيث أصبحت مهمته طوال اليوم تبديل قواطع توصيل الكهرباء، لكن ليس بإمكانه فعل ذلك بالنسبة للمياه. ويقول «بالإمكان شراء مياه للشرب لكن ماذا بخصوص الحمام والمطبخ؟ إنها كارثة».
يشار إلى أن مناطق واسعة من ريف دمشق ذات الكثافة السكانية العالية ازدهرت فيها تجارة بيع المياه في السنوات العشر الأخيرة، كبلدات صحنايا وأشرفية صحنايا وجرمانة والديماس وغيرها من المناطق، لكنها لأول عام تنشط داخل العاصمة. رغم أن تقنين المياه بدأ منذ أكثر من أربعة عشر عاما في أحياء الأطراف، كالعباسيين والقابون وبرزة والحجر الأسود والقدم وكفرسوسة والمزة، فإن التقنين لم يكن يتسبب في أزمة خانقة كالأزمة الراهنة، إذ لم يك التقنين يتجاوز بضع ساعات باليوم يمكن تعويضها من خزانات المياه، التي تملأ بواسطة محركات استجرار مياه، وبالأخص سكان الطبقات العلوية التي تعتمد عليها الغالبية العظمى من السوريين لتأمين المياه، ومع تفاقم الأزمة هذا العام ازدهرت تجارة المياه، التي تباع بالمتر المكعب بسعر تجاوز الألف ليرة سورية (الدولار يعادل 170 ليرة) وهو مبلغ باهظ قياسا لسعر المياه الرسمي.
وذلك بينما تغيب أي بارقة أمل بقرب انتهاء الحرب والفوضى الجارية في سوريا. فمعظم السوريين في الداخل باتوا على قناعة بأن الحرب لن تتوقف قبل عشر سنوات على أقل تقدير، أما عودة الحياة إلى سابق عهدها فلن تكون قبل خمسين عاما.
لذا يقول «نبيل د» إنه لم يعد يشغل باله موعد انتهاء الحرب، وما يشغله الآن كيف يمكنه البقاء والتغلب على المشكلات الحياتية اليومية التي لا تنتهي. ويقول بأسف «أمس سرقت وأبنائي مياها من خزان الجيران. كنت مضطرا.. فعلت هذا خلال شهر رمضان!! لأن الضرورات تبيح المحظورات. هكذا نبرر انعدام الأخلاق.. لا بأس إنها أخلاق الحرب».
التغلب على الظروف القاسية بات الشغل الشاغل لمعظم السوريين في المناطق الآمنة الخاضعة لسيطرة النظام، والتي بدت الأسبوع الماضي في حالة استرخاء قياسا لفترات سابقة، مع قيام النظام في الأسبوع الأول من رمضان بإزالة عدد من الحواجز من شارع المجتهد وصولا إلى ساحة كفرسوسة، وهو الذي يمر بمقار أمنية كبيرة ودوائر حكومية، ومن شارع بيروت عند جسر الرئيس حتى ساحة الأمويين، وهو من أكثر المناطق حساسية لقربه من مبنى نادي الضباط ومبنى هيئة الأركان العامة الذي تعرض لتفجير في عام 2012، بالإضافة لشوارع أخرى. بالإضافة لعودة الناس إلى ارتياد المتنزهات في مناطق ريف دمشق الخاضعة لسيطرة النظام وعودة جزئية للحركة إلى شوارع العاصمة في ساعات متأخرة من الليل، مع مشهد الجنود المدججين بالسلاح على الحواجز في حالة استرخاء يتابعون برامج رمضان عبر أجهزة الموبايلات أو يجرون دردشات (واتس أب) مع ذويهم وصديقاتهم، ناهيك عن مشاهد أخرى مستجدة باتت رائجة لشبان عساكر مدججين بالسلاح يتمشون مع صديقاتهم في الحدائق أو يختلون تحت ظلال الأشجار ليلا. فيما يستلقي المشردون من منازلهم في الحدائق وعلى الأرصفة بعد يوم حار وطويل بانتظار انفراج لا يبدو أنه قريب.. مع ترداد دائم لقول «ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت.. وكنت أظنها لن تفرج».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».