السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل

دمشق تنام مبكرا.. وسكانها يحلمون بالكهرباء والماء

السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل
TT

السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل

السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل

«ابني على الخط.. أبلغني بأن مياه الخزان خلصت.. المشكلة أن المياه مقطوعة منذ ثلاثة أيام». بهذا الحوار انتهت سهرة نيرمين مع صديقاتها، والتي كن خططن لها قبل أسبوع، للذهاب إلى أحد المقاهي في حي أبو رمانة لتناول القهوة والنرجيلة. لم يخرجن للاستمتاع بمساء دمشق الرطب منذ فترة طويلة.. لكن مشكلة المياه وغيرها من المشاكل اليومية كانقطاع الكهرباء، وصعوبة التنقل، والانفجارات المتتالية، جاءت لتنغص عليهن اللقاء، فعدن باكرا كل واحدة إلى منزلها للانخراط في حلها بعد أن فشلن في الهروب منها ولو لبعض الوقت.
هي المشكلات التي باتت جزءا لا يتجزأ من حياة السوريين عموما. يقول «نزار ت»: «لقد اعتدنا عليها حتى بتنا لا نعرف العيش خارجها». فهو يضطر للنوم مبكرا للاستيقاظ ليلحق بموعد وصول المياه، ويشغل محرك استجرار المياه لملء الخزان، فإذا حصل وتأخر في السهر قد تحرم عائلته في اليوم التالي من المياه. ويلفت إلى أنه في حياته كلها لم يكن يوما ملتزما بمواعيد نومه واستيقاظه كما هو الآن في ظل انقطاع المياه والكهرباء.
أما عن المناسبات العامة والخاصة مثل طقوس رمضان والعيد، والزواج والأفراح عموما، فيهز رأسه ساخرا بأسف ويقول «نسيناها منذ ثلاث سنوات».. ويتابع أن جاره أخبره بصدور فواتير الهاتف قائلا «انتبه وأنت تقرأها، فقد تفسد عليك يومك»، ثم يؤكد «كل أسباب إفساد الحياة تكالبت علينا». وعن كيفية قضاء الحاجيات من الأسواق يقول «العام الحالي هو الأفقر في كل شيء منذ ثلاث سنوات، فبالكاد أفطر مع عائلتي المتوافر لدينا من طعام وشراب، ثم يستلقي كل واحد منا على أريكة مستسلما للصمت وكأننا نمارس رياضة اليوغا، فإذا حصل وجرى حديث فيكون شجارا حول توزيع المهام في البيت مثل مراقبة خزان المياه، وتأمين بنزين للمولد، وشراء شموع وتبديل أنبوبة الغاز، ودفع فواتير الكهرباء والنت.. إلخ. عدا ذلك فإننا نصارع الضجر والانتظار في حال انقطاع الكهرباء، وفي حال توافرها ننصرف إما إلى التلفزيون أو الإنترنت».
«رياض ن»، شاب مقبل على الزواج لكنه متردد خشية أن يزيد إلى حياته أعباء جديدة. يقول «نسينا السهر خارج المنزل.. وتناول الطعام في المطاعم منذ سنوات، بسبب غياب الأمن. في المناسبات مثلا خاصة رمضان عام 2011.. أسقطنا الحلويات واللحوم والنقل والموالح والمسليات، وكل ما له علاقة بالرفاهية، كما ألغينا من قاموسنا احتفالات الأعراس، واختزلت تجمعات العزاء في ساعتين وقت الظهيرة، وبات توفير ما يصرف على الرفاهية يذهب إلى إعانة النازحين والمشردين من أهلنا ومعارفنا.. وتقاسم الرغيف أحد أبرز همومنا. وفي رمضان عام 2012 ألغينا الأطباق المنوعة بسبب الغلاء الفاحش، ودعوات الأهل الأصدقاء، ولم يعد لدينا ما يجعلنا نفكر في تقاسم الرغيف والمنزل مع أهلنا المشردين، فقد أصبحنا جميعنا محتاجين، نحلم بالسفر واللجوء والنزوح. العام الحالي أضفنا إلى قائمة الممنوعات قائمة إجبارية.. يتحكم فيها انقطاع المياه والكهرباء». وفي رمضان 2015 قد تتحقق النكتة الرائجة في سوريا اليوم عن «التمني بأن يكون شهر رمضان مثل المونديال مرة كل أربع سنوات ولا تشترك فيه سوريا».
يعيش سكان دمشق أزمة مياه خانقة اشتدت منذ أشهر مع حلول شهر رمضان. تقول «ناديا م» إن «أزمة المياه أنستنا أزمة الكهرباء التي اعتدنا عليها منذ ثلاث سنوات، وتمكنا إلى حد ما من إيجاد بدائل» سواء بمولدات كهربائية أو بطاريات ساكنة تسد بعض الاحتياج وليس كله كتشغيل الإنارة والتلفزيون.. أما «البراد فقد أصبح نملية (خزانة طعام بدائية)». وتعتبر ناديا انقطاع المياه «كارثة» لعدم القدرة على توفير بدائل سهلة وبالأخص في المباني العالية، حيث لا تصل المياه إلى الطبقات الرابعة والخامسة إلا بشق الأنفس، مشيرة إلى أن هذا العام يمر قاسيا جدا بسبب انقطاع الماء والكهرباء، مما اضطرها إلى جلب طعام جاهز من الأسواق على غير عادتها، كما ألزمت أولادها بعدم استخدام صحون وأدوات طعام كي لا يتراكم الجلي. وتقول «تناولنا الطعام في المنزل على ضوء الشموع من دون ملاعق وشوك وسكاكين وصحون وكأننا في رحلة إلى صحراء قاحلة».
لكن هذا الحل المؤقت الذي لجأت إليه عائلة «ناديا م» لا يمكن أن يكون حلا دائما لارتفاع كلفته، فليس من السهل الاعتماد على الطعام الجاهز يوميا لكلفته الباهظة قياسا بمستوى الدخل المتدني، لغالبية السوريين الذين بالكاد يؤمنون قوت يومهم وبالأخص العائلات الكبيرة. ويشير أبو عمار إلى حل آخر لكنه أكثر كلفة وهو الخروج إلى المطاعم، فهو مكتف ماديا إلى حد ما، ولكن لم يعد بإمكانه ارتياد المطاعم مع عائلته كالسنوات السابقة، فكل شخص يكلف وسطيا ألفي ليرة في مطعم عادي، أي أن عائلته المؤلفة من ستة أفراد ستحتاج إلى 12 ألف ليرة كأقل تقدير. وقال إن بإمكانه ارتياد المطعم مرة أو مرتين خلال الشهر، لكن بالتأكيد ليس أكثر، لذلك قرر مع عائلته الذهاب مرتين خلال الأسبوع إلى متنزه شعبي في منطقة الربوة غرب دمشق لشرب الشاي والقهوة والتمتع بالهواء البارد عندما تكون الكهرباء مقطوعة، كحل لتجاوز الأمسيات الصعبة في المنازل.
وتواجه الحكومة السورية واحدة من أعقد المشكلات الخدمية التي تتعرض لها منذ ثلاث سنوات، ومع أن أزمة المياه ليست مستجدة ولا وليدة الظروف الأمنية الراهنة، فإن الأحداث الدامية فاقمتها إثر استهداف خطوط تغذية الكهرباء على عمليات ضخ المياه، والتي تزامنت مع حالة جفاف لم تمر مثلها منذ عام 1932، بالإضافة للمشكلة الأهم والأكبر وهي غياب التخطيط والفساد في إدارات الدولة عبر العقود الماضية التي أنهكت البنية التحتية وراكمت مشكلاتها في قطاع الخدمات كالمياه والكهرباء والاتصالات والصحة وغيرها، لتتفجر الأزمات واحدة تلو الأخرى في السنوات الثلاث الأخيرة تحت وطأة القصف والاشتباكات العنيفة.
وبينما تختلط أسباب انقطاع الكهرباء والماء بين تقنين تتبعه الحكومة بسبب الشح وأعمال هجومية تستهدف محطات الكهرباء والماء، أعلنت الحكومة السبت الماضي أن «محطات توليد المنطقة الجنوبية توقفت عن العمل بسبب قطع إمدادات الوقود عنها نتيجة قطع خط الغاز المغذي لها في منطقة شرق جيرود في ريف دمشق من قبل المجموعات المسلحة». وقالت وزارة الكهرباء في بيان صحافي إن «توقف هذه المحطات أدى إلى زيادة ساعات تقنين الكهرباء في المنطقة الجنوبية، وإن وزارة النفط والثروة المعدنية تعمل على معالجة الموضوع». أما مؤسسة المياه والصرف الصحي في دمشق وريفها فلم تفلح تطميناتها وإعلانها عن مشاريع لحل أزمة المياه في تبديد القلق الذي ازداد في الأسبوع الأخير، وبحسب تصريحات إعلامية لمدير عام مؤسسة المياه والصرف الصحي المهندس حسام حريدين فإن الحكومة بدأت مشروع المنطقة الغربية، وهو رديف لريف دمشق للمساعدة في حل مشكلة ريف دمشق في المنطقة الغربية على مرحلتين تؤمن المرحلة الأولى منه 800 لتر في الثانية، والمرحلة الثانية تؤمن 1430 لتر في الثانية.. و«إنه يتم العمل حاليا على إحداث توازنات بين الريف والمدينة ضمن إطار وجود عدالة في تأمين كميات المياه للجميع في مختلف المناطق»، وإن «وضع الريف متابع بشكل جيد».
وتعاني المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في ريف دمشق من تنامي ضغط الاستهلاك بسبب نزوح السكان من المناطق المجاورة الساخنة، مما يجعل تأمين كل الخدمات صعبا جراء الاختلال الذي أصاب التوزع الديموغرافي. وحاول حريدين طمأنة مواطنيه إلى أن «وضع مياه الشرب مستقر خلال المرحلة المستقبلية».‏ لكنه لم يوضح كيف سيتم تجاوز الأزمة المتفاقمة حاليا، بل انصرف للحديث عن إنجاز دراسات متعلقة بمصادر المياه الدائمة في المنطقة العربية، و«عزم» الحكومة تنفيذ مشاريع آبار تكفي الزيادة السكانية لنهاية 2040، وأن «الآبار المقرر تنفيذها توفر مياه الشرب بغزارة 1400 لتر/ الثانية، وهي كافية لتأمين مياه الشرب لنحو 14 تجمعا سكانيا في ريف دمشق»، وإنه تم البدء في استثمار بئرين في منطقة الريمة في جبال الحرمون توفران 500 متر مكعب ويستفيد من المصدرين الجديدين المشتركون في كل من جديدة عرطوز وصحنايا.
كلام مدير مؤسسة المياه إن دل على شيء فهو يدل على أنه لا انفراج قريبا في أزمة المياه، إن لم تكن متجهة لمزيد من التفاقم، فثمة مناطق في ريف دمشق وأحياء أطراف العاصمة تغيب المياه عنها لعدة أيام، بل إن أحياء وسط العاصمة راحت تعاني من المشكلة ذاتها. ويشير «نزار ت» إلى أنه تمكن إلى حد ما من التغلب على مشكلة الكهرباء بأن تبادل مع جيرانه خطوط الكهرباء و«النت»، بحيث يعطيهم من منزله في حال كانت متوافرة عنده ومقطوعة عندهم، والعكس بالعكس، بحيث أصبحت مهمته طوال اليوم تبديل قواطع توصيل الكهرباء، لكن ليس بإمكانه فعل ذلك بالنسبة للمياه. ويقول «بالإمكان شراء مياه للشرب لكن ماذا بخصوص الحمام والمطبخ؟ إنها كارثة».
يشار إلى أن مناطق واسعة من ريف دمشق ذات الكثافة السكانية العالية ازدهرت فيها تجارة بيع المياه في السنوات العشر الأخيرة، كبلدات صحنايا وأشرفية صحنايا وجرمانة والديماس وغيرها من المناطق، لكنها لأول عام تنشط داخل العاصمة. رغم أن تقنين المياه بدأ منذ أكثر من أربعة عشر عاما في أحياء الأطراف، كالعباسيين والقابون وبرزة والحجر الأسود والقدم وكفرسوسة والمزة، فإن التقنين لم يكن يتسبب في أزمة خانقة كالأزمة الراهنة، إذ لم يك التقنين يتجاوز بضع ساعات باليوم يمكن تعويضها من خزانات المياه، التي تملأ بواسطة محركات استجرار مياه، وبالأخص سكان الطبقات العلوية التي تعتمد عليها الغالبية العظمى من السوريين لتأمين المياه، ومع تفاقم الأزمة هذا العام ازدهرت تجارة المياه، التي تباع بالمتر المكعب بسعر تجاوز الألف ليرة سورية (الدولار يعادل 170 ليرة) وهو مبلغ باهظ قياسا لسعر المياه الرسمي.
وذلك بينما تغيب أي بارقة أمل بقرب انتهاء الحرب والفوضى الجارية في سوريا. فمعظم السوريين في الداخل باتوا على قناعة بأن الحرب لن تتوقف قبل عشر سنوات على أقل تقدير، أما عودة الحياة إلى سابق عهدها فلن تكون قبل خمسين عاما.
لذا يقول «نبيل د» إنه لم يعد يشغل باله موعد انتهاء الحرب، وما يشغله الآن كيف يمكنه البقاء والتغلب على المشكلات الحياتية اليومية التي لا تنتهي. ويقول بأسف «أمس سرقت وأبنائي مياها من خزان الجيران. كنت مضطرا.. فعلت هذا خلال شهر رمضان!! لأن الضرورات تبيح المحظورات. هكذا نبرر انعدام الأخلاق.. لا بأس إنها أخلاق الحرب».
التغلب على الظروف القاسية بات الشغل الشاغل لمعظم السوريين في المناطق الآمنة الخاضعة لسيطرة النظام، والتي بدت الأسبوع الماضي في حالة استرخاء قياسا لفترات سابقة، مع قيام النظام في الأسبوع الأول من رمضان بإزالة عدد من الحواجز من شارع المجتهد وصولا إلى ساحة كفرسوسة، وهو الذي يمر بمقار أمنية كبيرة ودوائر حكومية، ومن شارع بيروت عند جسر الرئيس حتى ساحة الأمويين، وهو من أكثر المناطق حساسية لقربه من مبنى نادي الضباط ومبنى هيئة الأركان العامة الذي تعرض لتفجير في عام 2012، بالإضافة لشوارع أخرى. بالإضافة لعودة الناس إلى ارتياد المتنزهات في مناطق ريف دمشق الخاضعة لسيطرة النظام وعودة جزئية للحركة إلى شوارع العاصمة في ساعات متأخرة من الليل، مع مشهد الجنود المدججين بالسلاح على الحواجز في حالة استرخاء يتابعون برامج رمضان عبر أجهزة الموبايلات أو يجرون دردشات (واتس أب) مع ذويهم وصديقاتهم، ناهيك عن مشاهد أخرى مستجدة باتت رائجة لشبان عساكر مدججين بالسلاح يتمشون مع صديقاتهم في الحدائق أو يختلون تحت ظلال الأشجار ليلا. فيما يستلقي المشردون من منازلهم في الحدائق وعلى الأرصفة بعد يوم حار وطويل بانتظار انفراج لا يبدو أنه قريب.. مع ترداد دائم لقول «ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت.. وكنت أظنها لن تفرج».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.