السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل

دمشق تنام مبكرا.. وسكانها يحلمون بالكهرباء والماء

السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل
TT

السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل

السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل

«ابني على الخط.. أبلغني بأن مياه الخزان خلصت.. المشكلة أن المياه مقطوعة منذ ثلاثة أيام». بهذا الحوار انتهت سهرة نيرمين مع صديقاتها، والتي كن خططن لها قبل أسبوع، للذهاب إلى أحد المقاهي في حي أبو رمانة لتناول القهوة والنرجيلة. لم يخرجن للاستمتاع بمساء دمشق الرطب منذ فترة طويلة.. لكن مشكلة المياه وغيرها من المشاكل اليومية كانقطاع الكهرباء، وصعوبة التنقل، والانفجارات المتتالية، جاءت لتنغص عليهن اللقاء، فعدن باكرا كل واحدة إلى منزلها للانخراط في حلها بعد أن فشلن في الهروب منها ولو لبعض الوقت.
هي المشكلات التي باتت جزءا لا يتجزأ من حياة السوريين عموما. يقول «نزار ت»: «لقد اعتدنا عليها حتى بتنا لا نعرف العيش خارجها». فهو يضطر للنوم مبكرا للاستيقاظ ليلحق بموعد وصول المياه، ويشغل محرك استجرار المياه لملء الخزان، فإذا حصل وتأخر في السهر قد تحرم عائلته في اليوم التالي من المياه. ويلفت إلى أنه في حياته كلها لم يكن يوما ملتزما بمواعيد نومه واستيقاظه كما هو الآن في ظل انقطاع المياه والكهرباء.
أما عن المناسبات العامة والخاصة مثل طقوس رمضان والعيد، والزواج والأفراح عموما، فيهز رأسه ساخرا بأسف ويقول «نسيناها منذ ثلاث سنوات».. ويتابع أن جاره أخبره بصدور فواتير الهاتف قائلا «انتبه وأنت تقرأها، فقد تفسد عليك يومك»، ثم يؤكد «كل أسباب إفساد الحياة تكالبت علينا». وعن كيفية قضاء الحاجيات من الأسواق يقول «العام الحالي هو الأفقر في كل شيء منذ ثلاث سنوات، فبالكاد أفطر مع عائلتي المتوافر لدينا من طعام وشراب، ثم يستلقي كل واحد منا على أريكة مستسلما للصمت وكأننا نمارس رياضة اليوغا، فإذا حصل وجرى حديث فيكون شجارا حول توزيع المهام في البيت مثل مراقبة خزان المياه، وتأمين بنزين للمولد، وشراء شموع وتبديل أنبوبة الغاز، ودفع فواتير الكهرباء والنت.. إلخ. عدا ذلك فإننا نصارع الضجر والانتظار في حال انقطاع الكهرباء، وفي حال توافرها ننصرف إما إلى التلفزيون أو الإنترنت».
«رياض ن»، شاب مقبل على الزواج لكنه متردد خشية أن يزيد إلى حياته أعباء جديدة. يقول «نسينا السهر خارج المنزل.. وتناول الطعام في المطاعم منذ سنوات، بسبب غياب الأمن. في المناسبات مثلا خاصة رمضان عام 2011.. أسقطنا الحلويات واللحوم والنقل والموالح والمسليات، وكل ما له علاقة بالرفاهية، كما ألغينا من قاموسنا احتفالات الأعراس، واختزلت تجمعات العزاء في ساعتين وقت الظهيرة، وبات توفير ما يصرف على الرفاهية يذهب إلى إعانة النازحين والمشردين من أهلنا ومعارفنا.. وتقاسم الرغيف أحد أبرز همومنا. وفي رمضان عام 2012 ألغينا الأطباق المنوعة بسبب الغلاء الفاحش، ودعوات الأهل الأصدقاء، ولم يعد لدينا ما يجعلنا نفكر في تقاسم الرغيف والمنزل مع أهلنا المشردين، فقد أصبحنا جميعنا محتاجين، نحلم بالسفر واللجوء والنزوح. العام الحالي أضفنا إلى قائمة الممنوعات قائمة إجبارية.. يتحكم فيها انقطاع المياه والكهرباء». وفي رمضان 2015 قد تتحقق النكتة الرائجة في سوريا اليوم عن «التمني بأن يكون شهر رمضان مثل المونديال مرة كل أربع سنوات ولا تشترك فيه سوريا».
يعيش سكان دمشق أزمة مياه خانقة اشتدت منذ أشهر مع حلول شهر رمضان. تقول «ناديا م» إن «أزمة المياه أنستنا أزمة الكهرباء التي اعتدنا عليها منذ ثلاث سنوات، وتمكنا إلى حد ما من إيجاد بدائل» سواء بمولدات كهربائية أو بطاريات ساكنة تسد بعض الاحتياج وليس كله كتشغيل الإنارة والتلفزيون.. أما «البراد فقد أصبح نملية (خزانة طعام بدائية)». وتعتبر ناديا انقطاع المياه «كارثة» لعدم القدرة على توفير بدائل سهلة وبالأخص في المباني العالية، حيث لا تصل المياه إلى الطبقات الرابعة والخامسة إلا بشق الأنفس، مشيرة إلى أن هذا العام يمر قاسيا جدا بسبب انقطاع الماء والكهرباء، مما اضطرها إلى جلب طعام جاهز من الأسواق على غير عادتها، كما ألزمت أولادها بعدم استخدام صحون وأدوات طعام كي لا يتراكم الجلي. وتقول «تناولنا الطعام في المنزل على ضوء الشموع من دون ملاعق وشوك وسكاكين وصحون وكأننا في رحلة إلى صحراء قاحلة».
لكن هذا الحل المؤقت الذي لجأت إليه عائلة «ناديا م» لا يمكن أن يكون حلا دائما لارتفاع كلفته، فليس من السهل الاعتماد على الطعام الجاهز يوميا لكلفته الباهظة قياسا بمستوى الدخل المتدني، لغالبية السوريين الذين بالكاد يؤمنون قوت يومهم وبالأخص العائلات الكبيرة. ويشير أبو عمار إلى حل آخر لكنه أكثر كلفة وهو الخروج إلى المطاعم، فهو مكتف ماديا إلى حد ما، ولكن لم يعد بإمكانه ارتياد المطاعم مع عائلته كالسنوات السابقة، فكل شخص يكلف وسطيا ألفي ليرة في مطعم عادي، أي أن عائلته المؤلفة من ستة أفراد ستحتاج إلى 12 ألف ليرة كأقل تقدير. وقال إن بإمكانه ارتياد المطعم مرة أو مرتين خلال الشهر، لكن بالتأكيد ليس أكثر، لذلك قرر مع عائلته الذهاب مرتين خلال الأسبوع إلى متنزه شعبي في منطقة الربوة غرب دمشق لشرب الشاي والقهوة والتمتع بالهواء البارد عندما تكون الكهرباء مقطوعة، كحل لتجاوز الأمسيات الصعبة في المنازل.
وتواجه الحكومة السورية واحدة من أعقد المشكلات الخدمية التي تتعرض لها منذ ثلاث سنوات، ومع أن أزمة المياه ليست مستجدة ولا وليدة الظروف الأمنية الراهنة، فإن الأحداث الدامية فاقمتها إثر استهداف خطوط تغذية الكهرباء على عمليات ضخ المياه، والتي تزامنت مع حالة جفاف لم تمر مثلها منذ عام 1932، بالإضافة للمشكلة الأهم والأكبر وهي غياب التخطيط والفساد في إدارات الدولة عبر العقود الماضية التي أنهكت البنية التحتية وراكمت مشكلاتها في قطاع الخدمات كالمياه والكهرباء والاتصالات والصحة وغيرها، لتتفجر الأزمات واحدة تلو الأخرى في السنوات الثلاث الأخيرة تحت وطأة القصف والاشتباكات العنيفة.
وبينما تختلط أسباب انقطاع الكهرباء والماء بين تقنين تتبعه الحكومة بسبب الشح وأعمال هجومية تستهدف محطات الكهرباء والماء، أعلنت الحكومة السبت الماضي أن «محطات توليد المنطقة الجنوبية توقفت عن العمل بسبب قطع إمدادات الوقود عنها نتيجة قطع خط الغاز المغذي لها في منطقة شرق جيرود في ريف دمشق من قبل المجموعات المسلحة». وقالت وزارة الكهرباء في بيان صحافي إن «توقف هذه المحطات أدى إلى زيادة ساعات تقنين الكهرباء في المنطقة الجنوبية، وإن وزارة النفط والثروة المعدنية تعمل على معالجة الموضوع». أما مؤسسة المياه والصرف الصحي في دمشق وريفها فلم تفلح تطميناتها وإعلانها عن مشاريع لحل أزمة المياه في تبديد القلق الذي ازداد في الأسبوع الأخير، وبحسب تصريحات إعلامية لمدير عام مؤسسة المياه والصرف الصحي المهندس حسام حريدين فإن الحكومة بدأت مشروع المنطقة الغربية، وهو رديف لريف دمشق للمساعدة في حل مشكلة ريف دمشق في المنطقة الغربية على مرحلتين تؤمن المرحلة الأولى منه 800 لتر في الثانية، والمرحلة الثانية تؤمن 1430 لتر في الثانية.. و«إنه يتم العمل حاليا على إحداث توازنات بين الريف والمدينة ضمن إطار وجود عدالة في تأمين كميات المياه للجميع في مختلف المناطق»، وإن «وضع الريف متابع بشكل جيد».
وتعاني المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في ريف دمشق من تنامي ضغط الاستهلاك بسبب نزوح السكان من المناطق المجاورة الساخنة، مما يجعل تأمين كل الخدمات صعبا جراء الاختلال الذي أصاب التوزع الديموغرافي. وحاول حريدين طمأنة مواطنيه إلى أن «وضع مياه الشرب مستقر خلال المرحلة المستقبلية».‏ لكنه لم يوضح كيف سيتم تجاوز الأزمة المتفاقمة حاليا، بل انصرف للحديث عن إنجاز دراسات متعلقة بمصادر المياه الدائمة في المنطقة العربية، و«عزم» الحكومة تنفيذ مشاريع آبار تكفي الزيادة السكانية لنهاية 2040، وأن «الآبار المقرر تنفيذها توفر مياه الشرب بغزارة 1400 لتر/ الثانية، وهي كافية لتأمين مياه الشرب لنحو 14 تجمعا سكانيا في ريف دمشق»، وإنه تم البدء في استثمار بئرين في منطقة الريمة في جبال الحرمون توفران 500 متر مكعب ويستفيد من المصدرين الجديدين المشتركون في كل من جديدة عرطوز وصحنايا.
كلام مدير مؤسسة المياه إن دل على شيء فهو يدل على أنه لا انفراج قريبا في أزمة المياه، إن لم تكن متجهة لمزيد من التفاقم، فثمة مناطق في ريف دمشق وأحياء أطراف العاصمة تغيب المياه عنها لعدة أيام، بل إن أحياء وسط العاصمة راحت تعاني من المشكلة ذاتها. ويشير «نزار ت» إلى أنه تمكن إلى حد ما من التغلب على مشكلة الكهرباء بأن تبادل مع جيرانه خطوط الكهرباء و«النت»، بحيث يعطيهم من منزله في حال كانت متوافرة عنده ومقطوعة عندهم، والعكس بالعكس، بحيث أصبحت مهمته طوال اليوم تبديل قواطع توصيل الكهرباء، لكن ليس بإمكانه فعل ذلك بالنسبة للمياه. ويقول «بالإمكان شراء مياه للشرب لكن ماذا بخصوص الحمام والمطبخ؟ إنها كارثة».
يشار إلى أن مناطق واسعة من ريف دمشق ذات الكثافة السكانية العالية ازدهرت فيها تجارة بيع المياه في السنوات العشر الأخيرة، كبلدات صحنايا وأشرفية صحنايا وجرمانة والديماس وغيرها من المناطق، لكنها لأول عام تنشط داخل العاصمة. رغم أن تقنين المياه بدأ منذ أكثر من أربعة عشر عاما في أحياء الأطراف، كالعباسيين والقابون وبرزة والحجر الأسود والقدم وكفرسوسة والمزة، فإن التقنين لم يكن يتسبب في أزمة خانقة كالأزمة الراهنة، إذ لم يك التقنين يتجاوز بضع ساعات باليوم يمكن تعويضها من خزانات المياه، التي تملأ بواسطة محركات استجرار مياه، وبالأخص سكان الطبقات العلوية التي تعتمد عليها الغالبية العظمى من السوريين لتأمين المياه، ومع تفاقم الأزمة هذا العام ازدهرت تجارة المياه، التي تباع بالمتر المكعب بسعر تجاوز الألف ليرة سورية (الدولار يعادل 170 ليرة) وهو مبلغ باهظ قياسا لسعر المياه الرسمي.
وذلك بينما تغيب أي بارقة أمل بقرب انتهاء الحرب والفوضى الجارية في سوريا. فمعظم السوريين في الداخل باتوا على قناعة بأن الحرب لن تتوقف قبل عشر سنوات على أقل تقدير، أما عودة الحياة إلى سابق عهدها فلن تكون قبل خمسين عاما.
لذا يقول «نبيل د» إنه لم يعد يشغل باله موعد انتهاء الحرب، وما يشغله الآن كيف يمكنه البقاء والتغلب على المشكلات الحياتية اليومية التي لا تنتهي. ويقول بأسف «أمس سرقت وأبنائي مياها من خزان الجيران. كنت مضطرا.. فعلت هذا خلال شهر رمضان!! لأن الضرورات تبيح المحظورات. هكذا نبرر انعدام الأخلاق.. لا بأس إنها أخلاق الحرب».
التغلب على الظروف القاسية بات الشغل الشاغل لمعظم السوريين في المناطق الآمنة الخاضعة لسيطرة النظام، والتي بدت الأسبوع الماضي في حالة استرخاء قياسا لفترات سابقة، مع قيام النظام في الأسبوع الأول من رمضان بإزالة عدد من الحواجز من شارع المجتهد وصولا إلى ساحة كفرسوسة، وهو الذي يمر بمقار أمنية كبيرة ودوائر حكومية، ومن شارع بيروت عند جسر الرئيس حتى ساحة الأمويين، وهو من أكثر المناطق حساسية لقربه من مبنى نادي الضباط ومبنى هيئة الأركان العامة الذي تعرض لتفجير في عام 2012، بالإضافة لشوارع أخرى. بالإضافة لعودة الناس إلى ارتياد المتنزهات في مناطق ريف دمشق الخاضعة لسيطرة النظام وعودة جزئية للحركة إلى شوارع العاصمة في ساعات متأخرة من الليل، مع مشهد الجنود المدججين بالسلاح على الحواجز في حالة استرخاء يتابعون برامج رمضان عبر أجهزة الموبايلات أو يجرون دردشات (واتس أب) مع ذويهم وصديقاتهم، ناهيك عن مشاهد أخرى مستجدة باتت رائجة لشبان عساكر مدججين بالسلاح يتمشون مع صديقاتهم في الحدائق أو يختلون تحت ظلال الأشجار ليلا. فيما يستلقي المشردون من منازلهم في الحدائق وعلى الأرصفة بعد يوم حار وطويل بانتظار انفراج لا يبدو أنه قريب.. مع ترداد دائم لقول «ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت.. وكنت أظنها لن تفرج».



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».