«العلموي»... رواية كابوسية بين الجد والهزل

الواقع العراقي في سنوات الرعب والتوحش والطائفية

«العلموي»... رواية كابوسية بين الجد والهزل
TT

«العلموي»... رواية كابوسية بين الجد والهزل

«العلموي»... رواية كابوسية بين الجد والهزل

صدرت عن دار «الرافدين» ببيروت رواية «العلموي» لمرتضى كزار، وهي الرواية الخامسة في رصيده السردي.
أحداث الرواية تبدو حقيقية متسلسلة تارة، ووهمية متقطِّعة تارة أخرى؛ حتى ليشعر القارئ بأنه يدور في متاهة لا مخرَج لها.
إنها سيرة ذاتية لعبّاس ربيع يدوّنها القاص والروائي مديّن حيّاوي الذي جاء من أميركا لزيارة أهله في العراق، وكُلف بهذه المهمة العسيرة التي تسحق الأعصاب. يعود بنا الكاتب السيري إلى ربيع فالح الملقّب بـ«مستر كثافة»، ومنه تتشظى الأحداث الغريبة، والحكايات العجيبة، فنعرف أنه خدم مع مهندسي النفط في المدن الجنوبية العراقية لأكثر من 40 عاماً «فقدَ فيها نصف صوته، وثلث عمره، وكامل ذراعه» فسُمي بالأكتع، وقد تزوج من العاملة «هدى» التي أنجبت له توأماً أسماهما عباس وفاضل يشبهان بعضهما بعضاً إلى حدّ التطابق رغم وجود بعض الفروقات البسيطة التي تستدعي من الناظر أن يُدقق جيداً ليعرف أنّ عباس أيسر وسِنّه مخلوع، وفاضل أيمن وسِنّه مكسور لأن أباه اعترض على شتمه للرئيس. تموت الأم هدى وهما في سن الخامسة، ويُعتقل الأب بسبب التقارير الحزبية التي كانت تكتبها زوجته، فتتبناهما السيدة فيرونيكا. يدرس عباس الهندسة ويبرع فيها بينما يكتشف قدرة شقيقه فاضل على تعلّم اللغات. وبما أن أبناء المدينة مصابون بمتلازمة العبقرية أو الاختراعات فإنه يقدّم للجيش البريطاني الذي بسط نفوذه على مدينة البصرة برمتها اختراع «الرجل الآلي»، بينما تقدّم زينب رحيم، الموظفة في مصلحة الضرائب والعقارات اختراع الجهاز الكاتم لصوت المرحاض رغم أن زوجها المُقعد والمشلول قد اتهمها بصناعة كواتم للمسدسات. تتوالى محاضرات عباس العلمية عن الكمومية ومبدأ اللايقين، وتتواصل أبحاثه الرصينة، وأطروحاته الكثيرة التي تدلل على أنه شخصية علموية بامتياز، لكن كليهما لا تزوره الأحلام.
تجمع هذه الرواية بين البحث والتنقيب عن النفط، والحروب الداخلية والخارجية، بدءاً بالحرب العراقية - الإيرانية، مروراً بحروب الخليج المتكررة، وانتهاءً بالاحتلال الأنغلو - أميركي للعراق، لكن المشاهد السردية تتداخل بطريقة غامضة يصعب فرزها وفكّ اشتباكها نتيجة للتقنية السردية الجديدة التي لا تعوّل على الوضوح كثيراً، وإنما تلجأ إلى التقاطع، والإيهام، والفانتازيا المحاذية للواقع العراقي في سنوات الرعب والتوحش والطائفية.
ومن بين الشخصيات الإشكالية التي تنبثق من هذا المناخ الهمجي هي شخصية الشاعرة صبرية ﭼياد التي وجدناها طافية على الشطّ، ومربوطة بسلك تليفون، وملفوفة ببطانية، ومع ذلك فقد عدّ البعض طريقة اغتيالها البشعة بالموت الرحيم؛ إذ لم يشوّه الجناة بدنها، ولم يعلقوا أمعاءها على أسلاك الكهرباء. ومن خلال هذه الشاعرة المغدورة نكتشف أنها ابنة جادو، المهاجر الأرمني الذي اعتنق الإسلام في التسعينات أيام الحملة الإيمانية التي أطلقها الديكتاتور المخلوع، لكنه غيّر اسمه إلى ﭼياد كي يتناغم مع الأسماء العراقية الشائعة في الجنوب. سيق جادو إلى الجبهة في حرب الثمانينات، ووقع في الأسر، وظل قابعاً في قصر فيروزة للأسرى، وبعد عشرين عاماً عاد مع الوجبات المتأخرة، لكن قبل خمس ساعات من لقائه بابنته صبرية انقلبت الحافلة ومات الأسرى كلهم قبل أن يكحّلوا أعينهم برؤية أهلهم وذويهم.
ونلتقي في الرواية بشخصيات أخرى تؤمن بالسحر والشعوذة، فحسين المُجلِّد يعتقد بوجود الجن والكائنات اللامرئية، لكنه يعزوها إلى الكتاب الذي جلبه عباس لتجليده، ومنذ تلك اللحظة تحوّل محله إلى «علبة جنيات». وفي هذا السياق، يتعالق الروائي مرتضى كزار مع عدد من الكتب، من بينها «رسالة التوابع والزوابع» لابن شهيد الأندلسي التي تقول بأن لكل شاعر تابعاً من الجن يتبعه ويلهمه الشعر فلا غرابة أن يطلب عباس من حسين المجلد أن يصاحب جنيات الشعراء علّه يقع في حُب واحدة منهن ويصبح شاعراً لوذعياً، غير أن أمه المؤمنة بالخرافات تريد أن تربطه في حضرة الإمام علّه يتماثل للشفاء ويتخلّص من السحر الذي عملته «سنّاوي»، لكن الأمور سوف تتكشف تباعاً، فحسين لا علاقة للجن به، وإنما هو يستنشق السموم الموجودة في غراء التجليد ويسقط مغشياً عليه.
تحتشد الرواية بالصور والمَشاهد الديستوبية، فثمة رتل من الجنود العميان يخوضون في مستنقعات نفطية، وحينما خرجوا داس خروف من القطيع المجاور لهم على لغم نائم فتصاعدت موجات الصوف في عنان السماء والتصقت بالجنود المُنهكين فأصبحوا مثل خراف مشوّهة، ومع ذلك فهم يعترضون السيارة التي تقودها فيرونيكا ويهجمون عليها مثل ذئاب شرسة ينهشون لحمها، وينتهكون شرفها بينما هي تحثّ التؤام على الهرب إلى أي مكان في الصحراء المفتوحة.
ثمة شخصية أخرى فاعلة تُدعى «حِدبة» يلتقي بها التوأم أكثر من مرة فتقترح أن تدلهما وسط هذه المتاهة على «فيّة الرقوق»، لكننا سنكتشف في خاتمة المطاف أن «فيّة» هي أختها وليست مكاناً بعينه، وقد تآمرت هي وفاضل عليه وأوغلا في خديعته.
بعد موت شقيقه فاضل يصمم عباس جهاز الرجل المرحاض الذي يعد «المعادل الموضوعي للسوبرمان والباتمان والبيردمان»، وهو عبارة عن مرحاض مقلوب يثبّته على رأسه مثل خوذة من البورسلين، لكنه صنع له شقاً يشبه شقّ صندوق البريد، وبينما هو يتجول في المدينة يضع الناس أسئلتهم المكتوبة ليجيب عنها بحسب أهميتها.
يستمر التداخل حتى الصفحات الأخيرة من الرواية؛ لأن السارد يتخيل دائماً صوت صبرية التي أحبها من طرف واحد، فحينما يطرق مدين حيّاوي على خوذة عباس يذكّره بأنه المؤلف الذي سيكتب سيرة حياته، لكن الأمور تظل مشوّشة لأنه يتخيل وقائع لم تحدث، ومع ذلك فهو يطلب من مديّن أن يكتب الحقيقة كما هي من دون أن يقبض عليه شرطي الزمن. تأخذ صبرية دور الراوي لتقول له: «سنكتب كل شيء إلا أنا، أقسمتَ لي بأنك ستحذفني من عقلك ولسانك، كل قصتك حقيقية إلا ما يخصّني. أنا لم أُقتَل يا عباس، ولم يقذفني أحد في الشطّ، لولا أن الناس يعرفون وضعك لصدّقوك». يتواصل السرد لنعرف أنها متزوجة، ولديها طفل في المدرسة الابتدائية، وأنها ليست حبيبته، وليست مُعجبة به لكنها جاءت لإخراج الطبول المدوّية في رأسه، ثم ينفكّ الاشتباك حينما تقول له: «نادني مديّن حيّاوي» لتكتمل الدائرة، ونفهم النص الروائي الذي كتب بصيغة سيرية رغم أن اسم المؤلف لا يتطابق مع اسم الكائن السيري وحجة الروائي أنّ مدين حياوي كتب سيرة غيرية طعّمها بنَفَس علموي، وتبّلها ببعض الخرافات والأساطير التي جعلت النص السردي يترجح بين الواقع ونقيضه. كما أن الأسلوب الساخر قد خفّف، هنا وهناك، من سوداوية النص وكابوسيته وجعلته يقف في منتصف المسافة بين الجد والهزل.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.