«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» (5): يوم صعب في مدينة فيكتور هوغو حين يلتقي بهاء الماضي بوقائع الحاضر

من فيلم «البائسون»
من فيلم «البائسون»
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» (5): يوم صعب في مدينة فيكتور هوغو حين يلتقي بهاء الماضي بوقائع الحاضر

من فيلم «البائسون»
من فيلم «البائسون»

شوهد ذلك المخرج العربي يمشي في أحد الشوارع الجانبية وحيداً. كان يرتدي بذلة بيضاء كعادته، ويحمل على كتفه شنطته الصغيرة. تماماً كما كان يفعل قبل ثلاثين سنة عندما كان حديث المهرجانات، وأحد الوجوه السينمائية العربية المتكررة في تلك الأجواء الفنية والإعلامية.
الآن هو يمشي وحيداً منحني الظهر بعد ظهر يوم كان جمهور كان يرتاح على مقاعده في صالات السينما أو على كراسي المقاهي. بعد قليل، التقى بمن تعرف عليه، وهذا كان بصحبة مجموعة من الذكور والإناث الأصغر سناً. دار حديث تخللته الضحكات العادية قبل أن ينفصل الجمع، ويعاود المخرج العربي مشيه المنفرد.
في «كان» يمر التاريخ كله أمامك. عندما كان هذا المخرج عضواً في لجنة التحكيم، والمخرج الذي تتوجه إليه إدارة المهرجان لكي يخصها بعروض أفلامه مهما تباعدت؛ كان هناك جمهور مختلف. جيل آخر من الحضور يعرفونه كما يعرف بعضهم بعضاً.
اليوم، من لا يزال مثابراً على الحضور من جيل هذا المخرج، يدرك أن تلك الحلقة المهتمة به وبسواه مرّت من هنا وابتعدت. ككل سينمائي شاب آخر من جنسيات مختلفة يتلقف عناية ورعاية جيل أكبر منه سناً. يبدو بالنسبة إليهم «فرخ» يحتاج إلى التشجيع والعناية، ولا يتأخرون عن ذلك إذا ما كان الفيلم الذي يحققه فيه ما يلزم من حسنات وإثارة اهتمام.
بعد ذلك، يمضي الجيل الأكبر معتزلاً أو راحلاً عن الحياة، ويبقى الجيل المواكب لذلك المخرج الذي لا شك يتذكر أيامه السابقة، والدلال الإعلامي الذي استحقه، والذي صاحبه، والذي تبرق عيناه فرحاً إذا ما التقى بمن يتعرّف عليه.
مستر كلاين ورامبو
هذا سيحدث مستقبلاً مع الغالبية. وأحد أفضل ما لدى «كان» توفيره هو عدم التوقف عند الحاضر، بل العودة إلى الماضي عبر كلاسيكيات تفوح منها عطور الزمن الذي مضى. سبعة أفلام تعود إلى الحضور لجمهور يريد التذكر، أو لآخر جديد يفضل مشاهدتها على الشاشة الكبيرة محتفى بها ربما أفضل من الاحتفاء بمعظم ما يرد في العروض الرسمية للأفلام الجديدة.
ليس هناك سباق جديد بين أفلام الأمس. كلاسيكيات السينما تعرض بهدف إحياء الماضي، لكن المناسبة ذاتها تضعنا أمام كيف كنا وكيف أصبحنا. بكلمات أخرى، كيف كانت السينما قبل ثلاثين وأربعين سنة وما هي اليوم.
ليس أن التقنيات وحدها التي تغيرت، بل تلك السمات الفنية والثقافية التي أدت إلى ظهور سينمات منتصف القرن الماضي، وحتى ثمانيناته. وفي حين بات من الضروري إعادة طرح مفهوم وهوية الفيلم (ما دام أن معظم ما يصوّر اليوم هو ديجيتال، وليس أفلام سيليلويد كالسابق)، يحافظ مهرجان «كان» على مكانة ذلك التاريخ بإحيائه.
سبعة أفلام وسبعة مخرجين وسبعة مواضيع مع سبعة أساليب.
الممثل المخضرم ألان ديلون وصل إلى المهرجان محتفى به، وعقد مؤتمره الصحافي الذي ووجه فيه بأسئلة حول مواقفه من المرأة (صفع زوجته مراراً)، ومن اليمين المتطرف (تبنى لحين وجهة نظره)، لكن المدير التنفيذي للمهرجان تييري فريمو دافع عن ضيفه، ورد على ذلك الصيد السهل مذكراً بأن المهرجان يحتفي بديلون كسينمائي، وليس كسياسي.
الفيلم المختار لعرضه لهذا الممثل الذي ينتمي إلى جيل جان - بول بلموندو (مثل معه مرات) وجان - لوي ترتنيان وروبير أوسين وميشيل لونسدال، وسواهم من وجوه الستينات والسبعينات، هو «مستر كلاين» لجوزف لوزاي (1976). من أفضل ما مثله ديلون، لكن ليس من بين أفضل ما أخرجه لوزاي (الأميركي الهارب من هوليوود في الخمسينات بسبب الحملة المكارثية حينها). فيلم رصين حول تاجر لوحات فنية باريسي اسمه روبرت كلاين. رغم اسمه، هو ليس يهودياً، بل كاثوليكياً، يعيش في رغد وليست لديه مشكلة، والأحداث تقع في الفترة التي احتلت فيها ألمانيا فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، فيما لو اقتيد اليهود إلى حتفهم، لأن الأمر لا يعنيه. وسيبقى هو غير مكترث إلى أن يكتشف أن يهودياً بالاسم ذاته ورّطه، فإذا بالسلطات تعتقد أنه يهودي، وتقبض عليه.
سلفستر ستالون هو الآخر محتفى به هنا (كان مهرجان الجونة المصري قد استضافه احتفاء به في شهر نوفمبر | تشرين الثاني في العام الماضي)، والفيلم المختار له هو «دم أول»؛ تلك الرواية التي نقلتها السينما، وما إن نجحت كفيلم حتى كوّنت سلسلتها الخاصة تحت اسم «رامبو».
فيلم تد كوتشيف تحدث عن مجند أميركي اسمه رامبو (ستالون) عائد من الحرب ليزور صديق له في بعض الولايات الشمالية. لكن البلدة التي وطأها لا ترحب به. لقد خسرت أميركا الحرب في فيتنام، والثمن كان باهظاً، والجميع ينظر إليه كما لو كان قاتلاً، وليس جندياً. شريف البلدة (برايان دنهي) يريده أن يغادر البلدة، لكن نتيجة تلك المعاملة الجافة ينتفض رامبو، ويوجه حربه لمن يعاديه اليوم، خاطباً في نهاية الفيلم بأن «السياسيين هم الذين أرسلوه، وهم الذين خسروا الحرب». تد كوتشيف كان المخرج، ولا أذكر أنه صنع فيلماً أفضل من هذا.
3 رجال ومأزق صعب
باقي الأفلام ومخرجوها يزيدون التنوع الماثل: ثلاثة أفلام للإسباني لوي بونييل، هي: «عصر الذهب» (1930)، و«الشباب الملعون» (1950)، و«نازارين» (1958). وفيلم للتونسي فريد بوغدير، هو «كاميرا أفريقية» (1985). ومن بين الآخرين ميلوش فورمان وستانلي كوبريك ولينا فيرتمولر وفيتوريو ديسيكا.
بالانتقال إلى الحاضر، تتوالى العروض ضمن المتوقع منها: بعضها أفضل من بعض، لكن معظمها حتى الآن أفضل من عروض العام الماضي.
في الأيام الأربعة الماضية، منذ أن انطلق المهرجان، عرض أحد عشر فيلماً في المسابقة. الافتتاح، كما سبق الحديث قبل أيام، كان للفيلم الأميركي «الموتى لا يموتون» الذي ينتهي بأغنية لفرقة «Clearance Clearwater Revival» يعتقد البعض أنها أفضل من الفصل الختامي للفيلم ذاته.
إحدى المفاجآت المحسوبة إيجابياً على صفحة هذه العروض المتسابقة فيلم للمخرج لادج لي، وهو مخرج فرنسي سبق له أن حقق فيلماً قصيراً عنوانه «انطق» (Speak Up) استمد منه فكرة وموضوع هذا الفيلم.
الفيلم هو «البائسون» الذي يدور حول ثلاثة رجال بوليس في يوم عمل (هناك خاتمة تقع في ساعات محدودة من اليوم التالي). ستيفن (داميان بونار) شرطي من منطقة نورماندي تم نقله (بناء على طلبه) لضاحية مونفرماي قرب باريس. في ذلك اليوم الأول له في المدينة، يصاحب ضابط شرطة اسمه كريس (أليكسيس مانيتي)، ومعاونه المسلم غوادا (جبريل زونغا). وسريعاً ما تلتقط عيناه ومداركه تصرفات أليكسيس التي في مجملها غير قانونية وعدائية وعنصرية، ليس لأن المنطقة المنكوبة بالإهمال تستطيع توفير تواصل نموذجي بين القانون والخارجين عليه، لكن أليكسيس يتصرف على أساس أن كيفية الوصول للهدف يجب ألا تعرقل الوصول إلى الهدف ذاته. لذلك هو دائماً مستعد للإهانة، ومستعد للتحرش (يكاد يفتش فتاة مسلمة رغم معارضة رفيقاتها وستيفن)، ولاحقاً يشهر مسدسه، ولا يمنعه من إطلاق النار سوى زميليه.
الأزمة الحاصلة التي تقفز مثل كرة قدم بين أقدام اللاعبين قيام صبي صغير السن بسرقة أسد صغير من سيرك محلي وإخفائه. يريد البوليس (ممثلاً في هؤلاء الثلاثة) معرفة من السارق، وإعادة الحيوان إلى السيرك الذي تديره زمرة من المتطرفين البيض. عندما يقبض الشرطيون الثلاثة على الصبي، يفقد غوادا أعصابه تحت وابل الحجارة المنهالة عليه وزميليه، ويطلق مقذوفاً نارياً على الصبي فيصيبه في وجهه. ستيفن يريد نقل الصبي إلى المستشفى، وأليكسيس يعارض. الجو متوتر وينذر بالانفجار بين أفارقة مسلمين ينتمي الصبي إليهم والمتطرفين البيض، كما بين الاثنين والبوليس. وهناك جماعات أخرى يزيد حضورها المسألة تعقيداً.
لكن ما لم يكن وارداً في الحسبان أن صبياً آخر كان يصوّر بطائرة درون حادثة قيام غوادا بإطلاق النار على الصبي الأول. الآن، يركز أليكسيس قواه واهتمامه للقبض على ذلك الصبي، واستعادة «الشريحة» التي تحمل تلك اللقطات. هذا بدوره يفجر الوضع بينه وبين ستيفن مع نهاية يوم عمل.
اليوم التالي، يُحاصر الثلاثة في سلالم إحدى العمارات السكنية من قبل شبان يريدون الانتقام لما حدث للصبي الأول من اعتداء. ميزان القوى يختلف وأليكسيس يصاب بإحدى عينيه، وينتهي الفيلم ببصيص أمل في ألا يفقد رجال البوليس الثلاثة حياتهم.
صلة بهوغو
ما سبق قريب من فيلم «يوم التدريب» لأنطوان فوكوا، أو بعض تلك المسلسلات التلفزيونية التي تدور في أحياء «وست لوس أنجيليس» (مثل «ديدوود» الذي تبثه محطة «HBO»)؛ التماثل واضح من دون ادعاء الفيلم الماثل الآن باختلاق الحالات. فهناك بالفعل جاليات أفريقية ومسلمة، وأخرى يمينية ومتطرفة، وثالثة من الذين يعيشون على الهامش بين الفريقين يزكون النار لأي سبب غير وجيه يتبنونه.
هناك المنطقة المزدحمة بمبانيها الحكومية الممنوحة لذوي الدخل المحدود، بما فيها من إهمال وفقر، وهناك الطرق الملتوية والأسواق القائمة، والصبية الذين لا مستقبل أمامهم سوى العصيان على النحو الذي نشاهده.
كذلك هناك أسلوب العمل، من كاميرا متحركة (تصوير جوليان بوبار)، وإيقاع لا يتوقف (مونتاج فلورا فولبلييه). كذلك هناك الخلفية الكامنة في رواية فيكتور هوغو الشهيرة (بالعنوان نفسه)، رغم أن هذا الفيلم ليس اقتباساً من تلك الرواية. نعم، تدور أحداثه في المنطقة ذاتها، وتحتوي على مفادات واردة بقلم الروائي الشهير، وتحمل العنوان ذاته، لكنه فيلم بحكاية مختلفة، حول واقع اجتماعي غير متوازن، يزيده خطورة تصرف عنصري من قِبل رجل بوليس كاد أن ينجح في تغطية اعتداء قام به زميله بدافع العلاقة المهنية بينهما. فغوادا قد لا يكون عنصرياً وبخشونة وعدوانية أليكسيس، لكنه ينصاع له. أما ستيفن فهو الضحية التي لن تستطيع وحدها درء الخطر وتغيير نمط الحياة، لا داخل البوليس ولا في تلك الأحياء الداكنة.
‪جوليان مور‬:
«استمد من والدتي وعائلتي الكثير من شخصيتي أمام الكاميرا»
للممثلة جوليان مور حضور يختلف عن المتوقع بالنسبة لنجمة معروفة وممثلة أفلام شهيرة. نراها في فيلم «الفتاة المترنحة» (The Staggering Girl) الذي لا تزيد مدة عرضه على 38 دقيقة (بما فيها شريط الأسماء في النهاية).
تلعب مور شخصية امرأة جاءت من نيويورك إلى بلدة إيطالية لتقنع والدتها التي تقترب من حالة فقدان البصر بالعودة معها إلى المدينة الأميركية لكي تبقى بجانبها، لكن الأم عنيدة في قرارها البقاء في منزلها الريفي. المخرج لوكا غواداغنينو أصاب النجاح في «نادني باسمك»، وأقل منه في «سيبيريا»، وهو هنا يدير مجموعة من الممثلين الجيدين، على خلفية مدهشة من المشاهد، إنما بقليل تأثير، حين يصل الأمر إلى الخروج بمفاد غير ذلك الظاهر حول علاقة ابنة بأمها، وعلاقة الأم ببيئتها. هذا ليس فيلم جوليان مور الجديد الوحيد. في سن الثامنة والخمسين ما زالت نشطة، ولديها ثلاثة أفلام جديدة هذه السنة، وكان لديها ثلاثة أفلام في العام الماضي. كيف تفسر هذا النشاط؟
«أحب العمل. هذا تفسيري الوحيد، وأنا موقنة منه. أحب أن أجد أنني ما زلت على العلاقة العاطفية ذاتها مع فن التمثيل. ربما البعض يصل إلى مرحلة يتحول فيها التمثيل إلى ما ليس أكثر من روتين حياة، لكنه بالنسبة لي ما زال نتيجة حب».
> هناك من يقول إن هوليوود ليس لديها أدوار لممثلين وممثلات فوق الأربعين، لكنك وبضعة ممثلين آخرين برهان على العكس... ماذا تقولين؟
- بعض ما يقال في هذا الموضوع صحيح. الكثيرون منا ينتظرون أن يرن هاتفهم المحمول لينقل إليهم صوت من يطلبهم للعمل. ربما صوت وكيل الأعمال الذي ينقل إليهم خبراً ساراً بأنهم مطلوبون لفيلم ما، لكن بعضنا محظوظ في هذا الشأن بلا ريب، وأنا من بينهم، أو هكذا أعتقد. لكن هذا لا يعني أنني لا أخشى يوم يتوقف فيه أحد عن الاتصال بي.
> هل حدث أن بحثت عن العمل في الآونة الأخيرة؟
- لا. ليس تماماً، لكني أسعى كثيراً لأترك الانطباع الإيجابي بأنني ممثلة أستطيع تأدية أدوار مختلفة، رئيسية أو غير رئيسية. لكن بيننا كل عمل هو نهاية عقد، تبدأ بعده بالبحث عن عمل آخر.
خلال مسيرتها التي تزيد على ثلاثين سنة الآن، انتقلت من أدوار غير محسوبة، هي - عادة - قدر المبتدئين، إلى تصدر أفلام جيدة ومهمة. فمن «اليد التي تهز المخدع»، بطولة ربيكا ديمورني (1992)، و«دليل إدانة»، بطولة مادونا (في العام التالي)، إلى أدوار ملحوظة أكثر مثل «نجاة بيكاسو» (1996) و«بيغ ليبوسكي» (1998).
مرحلتها الثالثة منذ مطلع هذا القرن تمخضت عن أدوار بطولة في «هانيبال» (2001)، وهو اللقاء الثاني بينها وبين أنطوني هوبكنز بعد «نجاة بيكاسو»، و«بعيداً عن الجنة» (2002)، و«الساعات» (2002)، و«أطفال الرجال» (2006).
> هل قادك البحث عن أدوار إلى دقة اختيار أو إلى قبول أدوار لم تكن بحسبانك؟
- إلى الاثنين معاً، في تصوّري.
> مثلت في أفلام فنية وأفلام تجارية كبيرة. من «أطفال الرجال» إلى دورك في سلسلة «ألعاب الجوع»... هل هناك طريقة مختلفة في التعامل مع نوعين متناقضين إلى حد بعيد؟
- لا أعتقد. ليس من وجهة نظر الممثل على أي حال. الحقيقة هي أنني، وغيري طبعاً، يعرف الفرق بين الفيلم والآخر، ويتعامل على هذا الأساس. أقصد أنه إذا ما طلبني ألفونسو كوارون أو تود هاينز للعمل، فإن المتوقع أن يكون الفيلم الذي سأوديه مختلفاً عن الفيلم الآخر الذي له مبدئياً رواج تجاري كبير. لكني محظوظة بأن الكثير من الأفلام التي نسميها غير تجارية كانت ناجحة أيضاً عندما تم توزيعها، أو عندما بدأت عروضها في مهرجانات كبيرة، ثم توجهت للصالات.
> الفيلمان اللذان انتهيت من تصويرهما هما لمخرجين من هذا النوع. أنا معجب متيم بأفلام جولي تايمور، وأعرف أنك انتهيت من تصوير فيلم «حياة على الطريق» معها... كيف كانت هذه التجربة؟
- لا أستطيع وصفها إلا من خلال حقيقة أنني كنت أنتظر فرصة العمل مع جولي منذ فترة بعيدة. وسعدت كثيراً عندما اخترت لهذا الفيلم لأني مثلك أحب أعمالها. زادت سعادتي عندما علمت بأنني سأمثل فيلماً يجمعني بأليسيا فيكاندر.
> هذه المرّة الثانية التي تقومين بها بالتمثيل مع بطلة «الفتاة الدنماركية» بعد «الابن السابع».
- صحيح، تعجبني طلاقتها وحيويتها.
> الفيلم هو بيوغرافي لحياة غلوريا ستاينم التي سبقت عصرها في المطالبة بالمساواة. البعض يعتبرها أيقونة في هذا المجال... قرأت كتابها؟
- قرأته قبل التصوير، واستلهمت منه كل ما لم أكن أعرفه عن شخصيتها. فيكاندر تؤدي دور غلوريا في شبابها، وأنا في مرحلة لاحقة، وبالنسبة لي هي المرحلة الناضجة، من دون أن أعني أن حياة غلوريا لم تكن مثيرة للاهتمام منذ بدايتها.
> أعتقد أن هذا يعني أنكما بالطبع لم تشتركا في الظهور في مشهد واحد. مستحيل.
- طبعاً مستحيل. لكننا التقينا قليلاً؛ التقينا أكثر في «الابن السابع».
> عندما تؤدين دور امرأة ناضجة، لنقل تجاوزت الأربعين من العمر، هل تستمدين الشخصية فقط من السيناريو المكتوب أم بإمكانك إضافة شيء من عندك؟
- لا بد من إضافة شيء من عندي، على ما أعتقد. الحقيقة لا أراقب نفسي وأقرر مثل هذه الأمور. هناك ما ينص عليه السيناريو، ولا تستطيع كممثل الخروج من فرضيته، لكني أحياناً ما أجد نفسي أستمد بعض الصور الشخصية. أستمدها من والدتي، وأستمدها من عائلتي الحالية. أستمد الكثير من الشخصيات التي أقوم بها من هذه المؤثرات العائلية، لكن إذا ما كان ذلك مناسباً للدور.
> ماذا عن فيلمك الآخر «المرأة في النافذة» لجو رايت؟
- أمثل مع نخبة أحب العمل معها، والحكاية جديدة مأخوذة عن «بست سلر»؛ ألعب دور المرأة التي تراقب جيرانها (تضحك).
> تكتشف أن هناك أسراراً في الشقق المجاورة. يذكرني هذا بفيلم «النافذة الخلفية» لهيتشكوك. هل هيتشكوك واحد من المخرجين الذين كنت تتمنين العمل معهم؟
- هو واحد من المخرجين الذين لو كانوا أحياء اليوم لكنت سعيت للتمثيل في فيلم له. نعم، أحب أفلامه، لكني أحب كذلك أفلام الكثير من المخرجين، ومعظمهم ممن عملت معهم خلال سنوات مهنتي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)