تآكل انتخابي لـ«وديعة مانديلا» في جنوب أفريقيا

حصول الحزب الحاكم على أدنى غالبية في تاريخه «شوه» صورة فوزه

تآكل انتخابي لـ«وديعة مانديلا» في جنوب أفريقيا
TT

تآكل انتخابي لـ«وديعة مانديلا» في جنوب أفريقيا

تآكل انتخابي لـ«وديعة مانديلا» في جنوب أفريقيا

«لقد تعلّمنا الدرس»... اعتراف صريح من رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، بتراجع شعبية حزبه الحاكم «المؤتمر الوطني الأفريقي»، بعدما نال في الانتخابات العامة التي أجريت في 8 مايو (أيار) أدنى غالبية في تاريخ الاستحقاقات التعددية في البلاد - بعد انتهاء حقبة الفصل العنصري - على خلفية الاتهامات باستفحال الفساد والبطالة.
وبدا أن تزامن إعلان نتائج الانتخابات مع ذكرى مرور ربع قرن على تولّي أول رئيس أسود الحكم، وهو الزعيم الراحل نيلسون مانديلا، دلالة واضحة على تآكل الوديعة المؤسسية لهذا المناضل الأفريقي، وهي وديعة تجسّدت في حزبه الذي هيمن على السلطة على مدى 25 سنة. ومن جانب آخر يرى بعض المراقبين أن الفوز الباهت للحزب متعلق بتاريخه أكثر مما يتصل بأدائه، الذي وصفه رامافوزا بأنه «كان دون المستوى».
أشارت نتائج الانتخابات العامة الأخيرة في جنوب أفريقيا، التي فاز بها حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» ولكن بغالبية متراجعة، إلى نسبة مشاركة في الاقتراع بلغت 65 في المائة.
الحزب التاريخي الذي قاد نضال جنوب أفريقيا ضد الفصل العنصري حصل هذه المرة على 57.5 في المائة من الأصوات، وهي نسبة كافية لإعطاء الحزب غالبية برلمانية مطلقة تبلغ 230 مقعداً من أصل 400 يتألف منها مجلس النواب. غير أن هذا الفوز للحزب الذي قاده مانديلا، جاء دون حجم انتصاراته السابقة، إذ إن نصيبه من الأصوات لم يهبط إلى أقل من 60 في المائة في أي انتخابات خاضها منذ توليه السلطة.
يعد «المؤتمر الوطني الأفريقي»، فعلياً، حزب التحرير في جنوب أفريقيا والقوة الرائدة والرئيسية في إنجاز القضاء على الفصل العنصري قبل ربع قرن... وهذا واقع يكتسب أهمية كبيرة، خاصة بين الجيل الأكبر سناً من سكان البلاد.

صفعة غير مفاجئة
جدير بالذكر، أن الرئيس سيريل رامافوزا، الذي جاء إلى السلطة في فبراير (شباط) عام 2018 بعد سلسلة فضائح أجبرت الرئيس السابق جاكوب زوما على الاستقالة، واجه أزمات عدة خلال الفترة التي سبقت الانتخابات. وكان السبب المباشر الخلافات الحزبية الداخلية بسبب اتهامات مستمرة بالفساد طالت أسماء بارزة.
ولقد تعهد رامافوزا بمكافحة الفساد، واتخذ بالفعل خطوات في هذا السبيل، منها تأسيس محكمة خاصة لتسريع وتيرة استعادة أموال الدولة المنهوبة. بيد أن حماسة الناخبين للحزب، على ما يبدو، تراجعت، في ظل مؤشرات على أن آفة الفساد في جنوب أفريقيا ما زالت مستشرية. والدليل أن بعض السياسيين المتهمين بالفساد ما زالوا جزءا من مؤسسة الحزب الحاكم، بل، وشاركوا في الانتخابات التي نظمت بنظام القائمة. ووفقا لهرمان فيسرمان، أستاذ الإعلام في جامعة كيب تاون، الذي حاورته قناة «فوكس نيوز» الأميركية، ذكر أن «وجود مرشحين متهمين بالفساد شكّل مشكلة لرامافوزا، وأدى إلى تشكيك الناخبين في مدى مصداقيته في مكافحة الفساد».

الفساد... الفساد... الفساد
من ناحية ثانية، ظل رامافوزا على بعد مسافة كافية عن مزاعم الكسب غير المشروع، على الرغم من كونه زعيم الحزب الآن وكان نائب الرئيس في عهد سلفه المستقيل جاكوب زوما. ولكن رامافوزا (الذي يعد اليوم من كبار أثرياء جنوب أفريقيا) واجه مقاومة عنيدة في حملته لإقالة كبار المسؤولين الذين شوهتهم مزاعم الفساد. ثم إن الرئيس كان يأمل في أن يؤدي فوزه بغالبية تربو على 60 في المائة من الأصوات إلى تعزيز خطط مكافحة الفساد، لكن يبدو أن الناخبين ما زالوا متشككين فيه.
ويذهب البعض إلى أن القضية أبعد من الفساد، رغم أهميته، وتطرح تساؤلات متعلقة بمدى نجاح «المؤتمر الوطني الأفريقي» في تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي وعد به، في ظل ارتفاع معدل البطالة الذي يصل إلى نحو 27 في المائة حالياً وهو من أعلى المعدلات في العالم.
وبالإضافة إلى الإصلاح الاقتصادي، يمثل تحقيق المساواة مطلباً رئيسياً للغالبية، خاصة من جيل الشباب. إذ على الرغم من ظهور طبقة متوسطة سوداء، تعد جنوب أفريقيا الآن أكثر دول العالم من حيث تفاوت الثراء والمداخيل. ذلك أن أقل من 10 في المائة من سكان البلاد، وهم من البيض، يسيطرون على معظم ثرواتها. ومع أن نهاية نظام الفصل العنصري، الذي استمر حتى عام 1994، كانت تعني تمتّع الجميع في جنوب أفريقيا بحق التصويت، فإن انعدام المساواة من الناحية الاقتصادية بقي مشكلة عويصة في البلاد.

تذمّر الشباب
في سياق متصل، يبدو أن الشباب الذين ولدوا أحراراً وترعرعوا بعد نهاية الفصل العنصري، قد صوّتوا بحذر وقلق. فأبناء هذا الجيل ليسوا متفائلين بتحقيق المستقبل البراق الذي يعد به «المؤتمر الوطني الأفريقي»، بحسب كيليبوغا مافوني، أستاذ العلوم السياسية، بجامعة جنوب أفريقيا، الذي نقلت عنه الـ«بي بي سي» (هيئة الإذاعة البريطانية) قوله «قد لا يكون الجيل الأكبر متحمساً كما كان الحال عام 1994، مع أنهم عموماً راضون وسعداء... لكن الجيل الأصغر الذي ترعرع في ظل الديمقراطية غير راض عن وتيرة التغيير». وبالفعل، على الرغم من تحسن الأحوال منذ عام 1994 واتساع رقعة الطبقة الوسطى السوداء، فما زال البيض يسيطرون على أغلب ثروات البلاد، وما زالت الفجوة بين الأغنياء والفقراء... تتسع.
أيضاً في الملف الاقتصادي - المعيشي، ووفق دراسة أجراها البنك الدولي مؤخراً، فإن أغنى الأسر في جنوب أفريقيا أكثر ثراءً بعشرة أضعاف من الأسر الفقيرة، وما زالت مستويات الفقر الإجمالية تتبع الخطوط العرقية. وبالتالي، أدى هذا التباين العنصري والتفاوت الاقتصادي إلى دعم الأصوات الأكثر راديكالية في هذا الاقتراع.
هنا نشير إلى حزب المعارضة الرئيسي، وهو «التحالف الديمقراطي» (يمين وسط)، لم يستفد من تراجع «المؤتمر» إذ نال فقط 20.69 في المائة من الأصوات، ومن ثم أخفق في تحقيق مكسب ذي معنى، يمكن من مقارعة الحزب الحاكم، ربما بسبب سمعته التي ما زالت مرتبطة بأنه الحزب المفضل لليبراليين البيض. وعليه، يمكن القول، وبثقة، إن أكبر الفائزين في هذه الانتخابات هم الأحزاب الصغيرة التي تتبنى مواقف سياسية أكثر راديكالية وصرامة. إذ جذبت هذه الأحزاب، وخاصة حزب «مقاتلو الحرية من أجل الاقتصاد» اليساري المتشدد، بعض أصوات الشباب المتذمّر. ويدعو هذا الحزب لفرض سيطرة الدولة على الاقتصاد، ويقوده جوليوس ماليما الشخصية المثيرة للجدل الذي يطلق على نفسه لقب «رئيس الأركان». إذ ارتفع رصيد هذا الحزب في الانتخابات من 6 في المائة من الأصوات إلى 10.60 في المائة، وهو ارتفاع نسبي كبير في نظام برلماني مثل جنوب أفريقيا. ويرى كثيرون أن بعض سكان جنوب أفريقيا ممن سئموا مستويات قياسية من الحرمان وتفاوت المداخيل ونقص الفرص، ربما وجدوا في هذا الحزب اليساري الراديكالي الصوت الجديد الواعد بالتغيير، حتى لو كانت خياراته السياسية تثير قلق المستثمرين الأجانب ومجتمع الأعمال.

مراجعة ضرورية
عودة إلى مناخ الانتخابات... تبنّت الحملة الأساسية لحزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» قبيل المعركة الانتخابية استراتيجية مبنية على الاعتراف بالأخطاء، في ظل تحذيرات تقول إن حماسة الناخبين لـ«المؤتمر» متراجعة... وعلى قادته أن يقلقوا مما سيحمله المستقبل.
وحتى عقب الفوز لم يتخلَّ رامافوزا عن هذه الاستراتيجية، مؤكدا أمام مئات من مناصري الحزب في مقره العام بمدينة جوهانسبرغ، كبرى مدن البلاد: «لقد تعلّمنا درسنا... استمعنا إلى شعب جنوب أفريقيا، وسمعنا الرسالة الواضحة لما ينتظرونه منا».
ولإظهار جديته، أطلق الرئيس الجنوب أفريقي الوعود أمام شعبه مرة أخرى، قائلا: «كانوا يقولون: أيها الرئيس نريد وظائف... وهذا ما سنؤمنه، سنعمل بجد لإيجاد وظائف لشعبنا». وأردف: «كانوا يقولون إنهم يريدون أن يدير حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحكومة بالشكل الصحيح... كانوا يقولون: علينا أن نضع حدا للفساد، أيها الرفاق، سنضع حدا للفساد».
مع هذا، فإن كثيرا من الخبراء يحذرون من أنه سيواجه صراعا شاقا لتنفيذ الإصلاحات الموعودة للحكومة والحزب الحاكم. من هؤلاء دانييل سيلك، أحد المحللين السياسيين البارزين في جنوب أفريقيا، الذي يرى أن هناك «تحدّيات إلى حد كبير داخل حزبه السياسي... وسيتوجب عليه إقناع الجميع بأن الشركات المملوكة للدولة تحتاج إلى مراجعة جوهرية لعملياتها... وربما بملكيتها».
ويعتقد سيلك، الذي تحدث لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أن «هذا التوجه سيتعارض مباشرة مع الرسالة التاريخية للمؤتمر الوطني الأفريقي القائلة إن الدولة يجب أن تكون مسؤولة عن الشركات المملوكة للدولة بأي ثمن، وسيجد صعوبة في محاولة إقناع حزبه بأن الدولة قد تضطر إلى التخلي عن بعض السيطرة التي كانت تتمتع بها دائماً».
كذلك من الصعوبات التي يتوقع أن تواجه رامافوزا، في ولايته الجديدة، استرضاء الفصائل الأكثر تطرفًا داخل حزبه حول قضايا مثل مصادرة الأراضي والبحث عن حل أكثر وسطية أو أقل تهديدا لهذه المشكلة، وفقا لـ«سيلك». ويتابع سيلك أن «تشكيل مجلس الوزراء سيكون حاسما، وهو أول علامة على ما إذا كان قادراً حقًا على توجيه حزبه نحو الوسط... وما إذا كان بإمكانه تعيين حكومة جديدة توفر التفاؤل وتسلط بعض الضوء على السياسة والحكم الفعال».
وحول قضايا الفساد، يعتقد سيلك أنه «سيكون الأمر صعباً نسبياً على المدى القصير ما لم يأخذ القانون طريقه بشأن التحقيق القضائي في الفساد، وكذلك اتباع سياسات تقوم على الحوكمة والشفافية والمساءلة داخل جنوب أفريقيا، وإجراءات صارمة ضد كبار المسؤولين».
في مطلق الأحوال، يعتبر المراقبون أن أفضل نتيجة لهذه الانتخابات أنها ستمنح «المؤتمر الوطني الأفريقي» فرصة أخيرة لبدء نمو اقتصادي، والضغط على الرئيس رامافوزا خلال السنوات الخمس المقبلة لمحاولة حدوث تحوّل ما... والمحافظة على الشعبية التي يتمتع بها. أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فإن البعض يرى أن السياسة الخارجية تراجعت في أهميتها بالنسبة للحزب الحاكم، رغم أن جنوب أفريقيا تعتبر نفسها جهة فاعلة دولية، وسياستها الخارجية مهمة بالنسبة لأفريقيا وكذلك للعالم، فهي ليست فقط زعيمة سياسية في «القارة السمراء»، بل تشغل أيضاً مقعداً تناوباً في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة للمرة الثالثة في التاريخ عامي (2019 - 2020)، وهي عضو في مجموعة «البريكس» التي تضم معها كلاً من البرازيل وروسيا والهند الصين.

جنوب أفريقيا... 25 سنة على إلغاء نظام الفصل العنصري
> تقع جنوب أفريقيا، كما يدل اسمها في الطرف الجنوبي لأفريقيا. وتمتد شواطئها بطول 2.798 كلم بين جنوب شرقي المحيط الأطلسي وجنوب شرقي المحيط الهندي. وتقع إلى الشمال منها ناميبيا وبوتسوانا وزيمبابوي؛ وإلى الشرق موزمبيق وسوازيلاند؛ وداخل حدودها تقع ليسوتو؛ كجيب تحيط به الأراضي الجنوب أفريقية. وهي أشبه ما تكون بقوس قزح من حيث تعدّديتها. ويتكلّم سكانها 11 لغة مستقلة كلها معترف بها رسمياً.
> تحتل المرتبة الـ25 بين دول العالم من حيث المساحة، ويقترب عدد سكانها من 53 مليون نسمة، (المرتبة الـ24 في العالم من حيث السكان).
> يعيش فيها أكبر عدد من المواطنين ذوي الأصول الأوروبية في أفريقيا، وأكبر تجمع سكاني هندي خارج آسيا، ما يجعلها من أكثر الدول تنوعا في السكان في القارة الأفريقية.
> النزاع العنصري بين الأقلية البيضاء والأكثرية السوداء شغل حيزاً كبيراً من تاريخ البلاد وسياساته. وباشر الحزب الوطني (حزب البيض الأكبر) باعتماد سياسة الفصل العنصري بعد فوزه بالانتخابات العامة عام 1948. وكان الحزب نفسه هو الذي بدأ بتفكيك هذه السياسة عام 1990 بعد صراع طويل مع الأغلبية السوداء بقيادة حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» ومجموعات مناهضة للعنصرية من البيض والهنود.
> عام 1992، صوّت البيض في استفتاء عام بالإيجاب طالبين بذلك من الحكومة المضي قدماً في تبني ديمقراطية غير عنصرية. وفي العام التالي ألغت الأمم المتحدة كل القيود التجارية المفروضة على جنوب أفريقيا. وعام 1994 أجريت في البلاد أول انتخابات ديمقراطية اختارت حكومة غير عنصرية برئاسة المناضل نيلسون منديلا.
> تعد جنوب أفريقيا الدولة الأكثر تطوراً من الناحية الصناعية في أفريقيا. وهي عضو في مجموعة «البريكس» التي تضم أيضاً روسيا والبرازيل والهند والصين، وفي «مجموعة العشرين» التي تعرف باسم «جي 20». لكن الفقر والبطالة يمثلان أبرز المشاكل التي تواجه الحكومة، إذ تعاني الغالبية السوداء من معدلات فقر عالية مقارنة بالآسيويين والبيض من أبناء البلاد. وارتفع معدل الفقر بين السود والمختلطين خلال الفترة ما بين 2011 إلى 2015 حسب تقارير حكومية.
> جنوب أفريقيا صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في أفريقيا، لكنها تعاني من تراجع النمو الاقتصادي مقارنة بالاقتصاديات الكبيرة النامية، ويعزى ذلك بشكل أساسي إلى التوتر السياسي السائد في البلاد وانعدام الاستقرار وتراجع قطاع المناجم الذي يمثل إنتاجه أحد أهم صادراتها.
> في عام 2017 سجلت فيها نسبة 35.8 جريمة قتل لكل 100 ألف من السكان، وهذه من بين أعلى النسب عالمياً. وللعلم، فإنها في تزايد مطرد منذ خمس سنوات.



3 «سيناريوهات» لتطور الوضع حول كورسك


من آثار المعارك على جبهة كورسك (رويترز)
من آثار المعارك على جبهة كورسك (رويترز)
TT

3 «سيناريوهات» لتطور الوضع حول كورسك


من آثار المعارك على جبهة كورسك (رويترز)
من آثار المعارك على جبهة كورسك (رويترز)

لا شك في أن التوغل الأوكراني المباغت داخل الأراضي الروسية في منطقة كورسك الحدودية الأسبوع الفائت، شكّل مفاجأة صادمة لموسكو، التي انشغلت خلال الأشهر الأخيرة بتسجيل إنجازاتها على الأرض، ومستوى التقدم البطيء ولكن المتواصل، على عدد من الجبهات. كانت كييف تصارع خلال أشهر لتأكيد قدرتها على الصمود أمام الهجمات الروسية الناجحة على محوري خاركيف ودونيتسك، ولتوصل رسالة إلى الغرب مفادها أن المساعدات التي تقدم إلى أوكرانيا فعالة وضرورية، وأن مقولة «الانتصار الروسي المؤلم ولكن المحتوم» التي بدأت تأخذ رواجاً أكثر في الغرب، ليست أكيدة. في هذه الظروف جاء هجوم كورسك ليقلب موازين القوى، ويضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام إحراج غير مسبوق منذ اندلاع الحرب قبل ثلاثين شهراً.

وجّهت أوكرانيا ضربة للكرملين، حين سلّطت الضوء على فشله في حماية أراضي روسيا وحطّمت رواية الرئيس فلاديمير بوتين أن روسيا ظلت إلى حد كبير غير متأثرة بالأعمال الحربية على الجبهات البعيدة.

التوغّل الأوكراني في روسيا أرسل أيضاً إشارة قوية إلى حلفاء كييف أن الجيش الأوكراني يمكن أن ينتزع زمام المبادرة ويلحق هزيمة ولو محدودة حتى الآن، بالجيش الروسي. وهذه رسالة مهمة بشكل خاص قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية. وفي إطار السجالات الغربية المتزايدة حول آفاق دعم أوكرانيا وتداعيات الحرب المتواصلة على البلدان الأوروبية.

مجريات العملية وأهدافها

بعد أشهر من التراجع على الجبهة الشرقية، أطلقت أوكرانيا عملية واسعة النطاق غير مسبوقة في منطقة كورسك الحدودية الروسية، سمحت لقواتها بالتوغل، حسب محلّلين، حتى عمق 35 كيلومتراً على الأقل، والسيطرة على نحو 80 بلدة وقرية روسية بمساحة إجمالية تزيد على 1000 كيلومتر.

يوم 6 أغسطس (آب) الحالي، تدفقت القوات الأوكرانية إلى منطقة كورسك من اتجاهات عدة، وسرعان ما اجتاحت عدداً قليلاً من نقاط التفتيش والتحصينات الميدانية التي يحرسها حرس الحدود الروس المسلحون تسليحاً خفيفاً. وتخطّت القوات الأوكرانية كذلك وحدات المشاة الروسية على حدود المنطقة الروسية التي يبلغ طولها 245 كيلومتراً (152 ميلاً) مع أوكرانيا.

وعلى النقيض من الهجمات السابقة التي شنّتها مجموعات صغيرة من المتطوّعين الروس الذين يقاتلون إلى جانب القوات الأوكرانية، ورد أن التوغّل الأوكراني في منطقة كورسك شمل هذه المرة وحدات من ألوية عدة من الجيش الأوكراني المخضرم.

وأفاد مدوّنون عسكريون روس بأن مجموعات أوكرانية متنقّلة تتألف من مركبات مدرعة عدة، قادت كل منها بسرعة عشرات الكيلومترات (الأميال) إلى داخل الأراضي الروسية، متجاوزة التحصينات الروسية، وزرعت الذعر في جميع أنحاء المنطقة. وشكّل هذا التطور ضربة واسعة لثقة الروس بتقدّم قواتهم على الجبهات، لا سيما أن هذه المساحة التي تحققت السيطرة عليها في أسبوع واحد، تعادل تقريباً المساحة التي سيطرت عليها روسيا في أوكرانيا منذ بداية العام.

الهدف النهائي

ما زال الهدف النهائي من عملية كورسك غير واضح تماماً، رغم الخطوات الأوكرانية على الأرض، بما في ذلك على صعيد الحديث عن إعلان منطقة عسكرية وفتح ممرات إنسانية لخروج المدنيين، أو الخطة التي تكلمت عن إنشاء «منطقة عازلة» في كورسك لتخفيف الضغط المدفعي والصاروخي الروسي على المناطق الأوكرانية المحاذية للحدود. لكن الأكيد وفقاً لتقدير خبراء عسكريين أن درجة نجاح الهجوم المباغت فاجأت حتى الأوكرانيين أنفسهم، الذين بدأوا نقاشات لتحديد آليات الإفادة من الوضع الجديد.

تقارير روسية تشير إلى أن التقدم السريع للقوات الأوكرانية في كورسك تحقَّق بفضل مُعدات حرب إلكترونية قطعت الاتصالات الروسية، وسمحت بتقدم سريع للآليات داخل المناطق الروسية، مدعومة بهجمات من الطائرات المُسيّرة وحماية الدفاع الجوي. وهذا يعكس أن كييف حصلت حتماً على مساعدة لوجستية واستخباراتية قوية من جانب الغرب، الذي ربما يكون، بدوره، فوجئ بتوقيت العملية وحجمها، لكنه بالتأكيد كان على علم بجانب من التخطيط لعملية كبيرة محتملة.

لقد ربح الأوكرانيون عملياً مع السيطرة على مساحة من الأرض الروسية موطئ قدم في روسيا يمكّنهم من إرسال مجموعات استطلاع للبحث عن نقاط ضعف هناك، واستقدام قِطع المدفعية لقصف أهداف داخل عمق أراضيها.

في المقابل، قال مسؤول أميركي إن واشنطن ترى أن أحد أهداف عملية كورسك هو قطع خطوط الإمداد الروسية للجبهة الشرقية، حيث ينفّذ الجيش الروسي هجوماً منذ مايو (أيار) الماضي.

وتقول مصادر إنه بعيداً عن الانتصارات التكتيكية، أظهرت أوكرانيا قدرتها على التخطيط بسرّية لعملية هجومية وتنفيذها، خصوصاً بعد فشل هجومها المضاد الصيف الماضي، الذي طرح تساؤلات في الداخل والخارج حول قدرتها على مواصلة «حرب الخنادق» الطاحنة أمام الهجوم الروسي.

وفقاً لخبراء، سعت كييف عبر شن هذا التوغّل إلى إجبار الكرملين على تحويل الموارد من منطقة دونيتسك (في شرق أوكرانيا)، حيث شنّت القوات الروسية هجمات في قطاعات عدة وحققت مكاسب بطيئة ولكن ثابتة، معتمدةً على تفوقها في القوة النارية. وإذا تمكنت أوكرانيا من التمسك ببعض مكاسبها من التوغّل داخل روسيا، فمن شأن هذا تعزيز موقف كييف في مباحثات السلام المستقبلية، وقد يسمح لها بتبادل هذه المكاسب مقابل الأراضي الأوكرانية التي تحتلها موسكو.

وعلى الرغم من النجاحات الأولية للتوغّل الأوكراني داخل روسيا، فإنه قد يتسبب في استنزاف بعض أكثر الوحدات قدرةً في أوكرانيا، ويترك القوات الأوكرانية في دونيتسك من دون تعزيزات حيوية، كما أن محاولة تأسيس وجود أوكراني دائم في منطقة كورسك قد تشكّل تحدياً للقوات الأوكرانية، التي ستغدو خطوط إمدادها عُرضة للنيران الروسية.

رد فعل موسكو

لا شك أن التوغل المباغت أحرج الرئيس فلاديمير بوتين، الذي وصف أكبر هجوم بري تتعرض له بلاده منذ الحرب العالمية الثانية بأنه مجرد «استفزاز واسع النطاق»؛ أي إن الكرملين لم يتعامل مباشرة مع التطور بصفته حدثاً كبيراً يمكن أن يؤثر على مسار الحرب وعلى استراتيجيات إدارة الصراع.

ولعل الفشل الروسي في توقع الهجوم أولاً، وفي مواجهته ثانياً، سيخلّفان تداعيات واسعة على المستوى الداخلي؛ إذ لم يكن الروس يتوقعون قبل ثلاثين شهراً عندما أطلق بوتين «العملية العسكرية الخاصة» أن يكونوا يوماً أمام مشهد الدبابات الألمانية وهي تتجوّل فوق أراضيهم، ولا ناقلات الجنود والمدرعات الغربية وهي تبني تحصينات ومواقع دفاعية في مدنهم.

هذا المشهد مع قسوته سيشكّل حافزاً لرفض أي تسويات، ووضع موارد ضخمة بهدف إعادة تحرير المناطق التي دخلتها القوات الأوكرانية.

على المستوى العسكري، حيّر المراقبين فشل روسيا بشن هجوم مضاد سريع ضد الأوكرانيين والحلفاء الغربيين. ولم تنقل وزارة الدفاع الروسية حتى الآن قواتها على نطاق واسع من الدونباس إلى منطقة كورسك.

تبرير ذلك بسيط للغاية، وهو أن موسكو ترى أنه بين أبرز أهداف تخفيف الضغط عن قطاعي خاركيف ودونيتسك، لذلك حرص بوتين خلال اجتماعات القيادة العسكرية على تأكيد أن الهجوم الروسي في العمق الأوكراني لم ولن يتأثر. لكن إلى أي درجة يمكن أن تحافظ موسكو على هذه الوتيرة في التعامل مع الحدث؟

هذا سؤال ما زالت السلطات المختصة في روسيا لم تقدم جواباً بشأنه.

لقد تحرك الهجوم بسرعة كبيرة، وكان رد الروس بطيئاً للغاية لدرجة أن أوكرانيا ربما بدأت تعيد النظر في أهدافها. وبدايةً كانت كييف مدفوعة بالرغبة في رفع معنويات الأوكرانيين وتحفيز الدعم العسكري من حلفائها الغربيين. وبالإضافة إلى ذلك، سعت القوات الأوكرانية إلى تحويل القوات الروسية عن خط المواجهة في منطقة دونيتسك، حيث تتقدم القوات الروسية بالقرب من توريتسك وبوكروفسك وتشاسوفوي يار. وهذا يفسر كلام العسكريين الأوكرانيين بعد مرور أسبوع على بدء الهجوم عن خطط لإنشاء «منطقة عازلة» على الأراضي الروسية أو تعزيز تحصينات إضافية فيها.

زيلينسكي (رويترز)

مغامرة زيلينسكي تقلق الغرب

في هذه الأثناء، يقول خبراء غربيون إن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اتخذ بإطلاق العملية قراراً جريئاً للغاية، يكاد يقترب من أن يكون مغامرة حقيقية؛ إذ قال زيلينسكي خلال أيام من بدء الهجوم إن كييف «تسعى إلى نقل الحرب» داخل روسيا، وإن أوكرانيا «تثبت أنها قادرة على ممارسة الضغط الضروري؛ الضغط على المعتدي».

وعندما بدأ التوغل، في 6 أغسطس، بدا الأمر كأنه «عرض آخر للشجاعة العسكرية» من قِبل «الفيلق الروسي»، وهو واحدة من مجموعات الميليشيات المناهضة لبوتين، لكن بعد مرور يومين فقط أصبح من الواضح أن كييف نفسها تحاول توجيه ضربة استراتيجية مضادة لروسيا.

المرجح أن وراء الهجوم قراراً مباشراً من زيلينسكي، الذي ضغط وفقاً لتقارير لعدة أشهر على قادته العسكريين لشنّ هجوم صيفي. ونظراً للمشاكل المتعلقة بالقوى البشرية والموارد في أوكرانيا، كان القادة متردّدين، لكن زيلينسكي كان يسعى جاهداً إلى عكس السرد القائل إن أوكرانيا تخسر الحرب. بل حاول فعلاً إيجاد طريقة لوقف خسارة المزيد من الأراضي في شرق أوكرانيا، وتعطيل هذه الديناميكية أو عكسها. وهذا الخيار العسكري الاستراتيجي «أسلوب إلى حد كبير جريء ومحفوف بالمخاطر»، وفقاً لتعبير معلق عسكري.

أما القادة الغربيون فيشعرون الآن بالقلق، وبخاصة مع استخدام بعض المعدات الأرضية (مركبات قتالية مدرّعة، ومركبات مشاة مدرّعة، وقاذفات صواريخ، ومدافع هاون، ووحدات دفاع جوي أرضية) لحلف شمال الأطلسي (ناتو) داخل روسيا، الأمر الذي يمثّل تجاوزاً لعتبة أو «خط أحمر» آخر، ولو أن القادة الأوكرانيين طلبوا الإذن الغربي مسبقاً لما حصلوا عليه. لذلك أقدم زيلينسكي على الهجوم من دون تنسيق واسع، وفقاً لتقديرات مع الغرب. وهذا يفسر أن واشنطن في الأيام التالية قالت إنها تنتظر معلومات إضافية من كييف حول الهجوم.

مع هذا، مغامرة زيلينسكي محفوفة بالمخاطر؛ فليس أمام موسكو الآن من خيارات سوى فعل كل ما يلزم لوقف التوغل، ولا يمكن للضربة المضادة الأوكرانية في كورسك أن تحقّق سوى أهداف محدودة.

وكحد أقصى، قد تأمل القوات الأوكرانية حول كورسك في توسيع نطاق وصولها إلى ما هو أبعد من احتلال محطة الطاقة النووية فيها، مقابلاً لاحتلال روسيا لمحطة زابوريجيا الأوكرانية عام 2022، لكن هذه الأهداف ستعتمد على المدة التي ستستغرقها العملية، وبأي طريقة يمكن للأوكرانيين الصمود داخل كورسك.

تشير تقارير إلى أن التقدم السريع للقوات الأوكرانية تحقَّق بفضل مُعدات حرب إلكترونية قطعت الاتصالات الروسية

ماذا بعد كورسك؟

يقول المحلل العسكري فرانتز ستيفان غادي، من جنيف، إن المرحلة المقبلة من عملية كورسك تعتمد على الاحتياطي المُتاح لدى كل طرف، وكيف سيستخدمه على الجبهة. ويتابع: «ستحتاج أوكرانيا إلى نقل جنود وموارد عسكرية إضافية للجبهة كي تحافظ على زخم الهجوم، في حين ستسعى روسيا لصدّ الهجوم بسرعة، واستخدام قوتها النارية كالقنابل المنزلقة».

ويرى غادي، كما نقلت عنه «وول ستريت جورنال»، أن المشكلة الرئيسية في عملية كورسك أنها لا تُغير الوضع على الجبهة الشرقية، حيث ما زالت القوات الروسية تتقدم، وإن كان بوتيرة أبطأ. ويضيف: «عملية كورسك تتطلب قدراً كبيراً من الموارد، خصوصاً جنود المشاة، الذين قد تحتاج إليهم أوكرانيا على جبهة أخرى». وعلى الجبهة الشرقية يعاني الضباط الأوكرانيون قلة عدد الجنود، ويتساءلون عن مغزى مهاجمة الأراضي الروسية، رغم أنهم يأملون أن تؤدي هذه العملية الهجومية في كورسك إلى تخفيف الضغط على جبهتهم.

وهنا، يرجّح أن الجيش الأوكراني يفضّل الوقوف والقتال في الجيب الذي أنشأه، وربما يتم تعزيزه، لكن الأعداد الهائلة من الجنود الذين سترسلهم موسكو ستُنبئنا في نهاية المطاف بشكل القتال المقبل. واستمرار وجود هذا التوغل داخل الأراضي الروسية سيكون أمراً غير مقبول بالنسبة للرئيس بوتين.

 

بوتين (رويترز)

الخيارات الثلاثة: مزيد من التقدم، تراجع أو انسحاب جزئي

يتوقع الجنرال الأسترالي المتقاعد، ميك رايان، 3 سيناريوهات لتطور الأحداث في منطقة كورسك. يتضمن السيناريو الأول، الأكثر اندفاعاً، محاولة التمسك بالأراضي التي أمكن الاستيلاء عليها، حتى التقدم أكثر من أجل سحب مزيد من القوات الروسية من أوكرانيا، والحصول على أوراق مساومة في المفاوضات المستقبلية. لكن هذا أمر محفوف بالمخاطر، وفق المحلل، لأنه سيكون من الصعب على القوات الأوكرانية توفير غطاء للحرب الإلكترونية والدفاع الجوي، حتى للقوات المتمركزة جيداً في مثل هذه المنطقة الواسعة.أما السيناريو الثاني فهو التراجع وإنقاذ القوات والمعدات وإعادة تجهيزها، وقد تسلحت بروح معنوية عالية، في محاولة تحرير أراضيهم العام المقبل. وأما الخيار الثالث فيقوم على الانسحاب جزئياً إلى مواقع أكثر أمناً أقرب إلى الحدود الأوكرانية. وسيتطلب الأمر قوات أقل عدداً، وتوفير دعم مدفعي أفضل ولوجستيات أفضل، وتأمين قاعدة لمزيد من الهجمات في المستقبل. ويشير مصدر لمجلة «الإيكونوميست» في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية إلى أن هذا الخيار هو الأكثر ترجيحاً. وقد جرى بالفعل نقل جزء من الخدمات اللوجستية - قوات الهندسة والوقود والمستشفيات الميدانية وقواعد الغذاء والإصلاح - على بعد عدة كيلومترات إلى عمق الأراضي الروسية.