الأصوات الكورية تصنع موجات على الراديو العربي

ما الذي يسعى الكوريون إلى تحقيقه من خلال البث الإذاعي الموجه للعالم العربي؟

الأصوات الكورية تصنع موجات على الراديو العربي
TT

الأصوات الكورية تصنع موجات على الراديو العربي

الأصوات الكورية تصنع موجات على الراديو العربي

عندما كنت طفلا صغيرا، اعتدت أن أستمع إلى البث الإذاعي من أماكن بعيدة عبر موجات الراديو القصيرة، وكان البث عادة ما يكون غير منضبط ويحتوي على فترات صمت. ولكن هذه الأصوات البعيدة، أصبحت تأتي واضحة كرنين الأجراس عبر أي بث إذاعي على الهواتف الذكية. وذات مساء، كنت أتجول بين محطات الراديو العربية، من بغداد إلى الجزائر، وبالمصادفة استمعت إلى امرأتين تتحدثان اللغة العربية بطلاقة وإن كان بلكنة غريبة. قالت إحداهما: «أعزائي المستمعين، كيف قضيتم يومكم؟»، ثم قالت الأخرى: «كل يوم جديد يبعث فينا الأمل والتطلعات».
فتساءلت: من أين تأتي هؤلاء النساء؟ استمعت لفترة وفي النهاية أذيعت نغمة شرقية ثم أتى صوت رجل يقول: «من سيول، يتجدد اللقاء عبر الأثير. يجمعنا وإياكم الحب والخير والأمل».
اتضح لي أن ما أستمع إليه هو خدمة الإذاعة العربية لحكومة كوريا الجنوبية «راديو كوريا الدولي». ثم تضمنت النشرة الرئيسة الاستعدادات العسكرية لمواجهة جارتها المهددة في الشمال، بالإضافة إلى زيارة الرئيس الكوري إلى أوروبا، وهي النشرة التي قرأها مذيع مصري أعقبها تقرير اقتصادي قرأه رجل آخر لديه لكنة كورية قائلا: «تجاوزت الصادرات الكورية 50 مليار دولار في شهر أكتوبر (تشرين الأول) وهو رقم قياسي جديد لدولة لم تستورد سوى 19 مليون دولار منذ استقلالها عن اليابان».
وبعد أن أعلن عن اسم المحطة، عادت السيدتان الكوريتان وتحدثتا عن الأعداد المتزايدة للإماراتيين والمصريين الذين يدخلون امتحانات لتقييم مستواهم في اللغة الكورية حيث علقت إحداهما: «ما شاء الله». ثم استمرتا في الحديث حول تعزيز العلاقات والصداقة بين الكوريين والعرب، وهو ما يمكن أن يعزز التعاون المشترك وفهم بعضنا البعض «إن شاء الله». ثم انتقل البرنامج إلى تغطية أحدث أخبار السينما الكورية والموسيقى، بالإضافة إلى تعليم المستمعين كيف يقولون عبارات مثل «مرحبا، كيف تسير الأمور؟ ما اسمك؟» بالكورية. وعندما دقت الساعة، انتهى البرنامج ثم بدأ عرضه مرة أخرى، حيث لا تقدم المحطة سوى ساعة واحدة جديدة في اليوم.
وعندئذ انتابني الفضول: ما الذي يسعى الكوريون إلى تحقيقه من خلال ذلك البث الموجه للعالم العربي؟
في الصباح التالي، زرت جون ألترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الذي درس الأثر الآسيوي المتنامي في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وطرحت عليه أسئلتي فقال: «تنظر كوريا الجنوبية إلى العالم العربي كسوق مهمة للبضائع المصنعة وللبناء، كما أنهم فعليا يحصلون على معظم البترول الذي يحتاجون إليه من الشرق الأوسط».
واستأنف ألترمان أن الكوريين لديهم عقود لبناء مفاعلات نووية بأبوظبي، كما أن لديهم بعثات عسكرية للمساعدة على تدريب القوات الخاصة الإماراتية، مضيفا: «أعتقد أن كوريا الجنوبية تعتقد أنها سوف تحصل على الدور التجاري الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة الأميركية، وتستطيع بناء علاقة تبادلية تروي من خلالها تعطش كوريا الجنوبية للبترول وقدرة كوريا الجنوبية على التصنيع. ولكن أحد التحديات الرئيسة التي كانت تواجهها هي أنه لا يوجد من سمع بكوريا في المنطقة. أعني أن الناس قد سمعت عن الصين التي لديها علاقات تاريخية بالشرق الأوسط، كما أنهم سمعوا عن اليابان التي لديها علاقات عريقة بكثير من البلدان. ولكن الناس لا يستطيعون استدعاء شيء محدد إلى أذهانهم عندما يتطرق الحديث لكوريا وهم يحاولون تغيير تلك المعادلة.
ومن الواضح، أن لهذا السبب جرى التفكير في طرح خدمة البث الكورية باللغة العربية، فهي أداة لما يطلق عليه الأميركيون «الدبلوماسية العامة» التي تعتمد على الجهود النشطة للتأثير في الجماهير الأجنبية ودفعها لتأييد سياسات الدولة الأجنبية. وتستثمر الولايات المتحدة مئات الملايين سنويا في دبلوماسيتها العامة للتواصل مع العالم العربي، بما يتضمن أنشطة مثل «راديو سوا» الذي يبث على الموجات المحلية لـ«إف إم» في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. ويحاول الراديو التنافس مع كثير من الخصوم، مثل الصين وروسيا وإيران وكل دول أوروبا الغربية والحركات العابرة للحدود، مثل الإخوان المسلمين وحتى الفاتيكان، من أجل الحصول على انتباه الجماهير العربية.
وبالنظر لتلك الجهود مجتمعة، تقدر تكلفة تلك الصناعة بعدة مليارات من الدولارات ومع ذلك فما زلنا لا نستطيع الجزم بما إذا كانت تلك الجهود قد نجحت في تحقيق أهدافها السياسية أم لا.
ومن جهة أخرى، كان لدى فيليب سي، أستاذ الصحافة والعلاقات العامة والعلاقات الدولية بجامعة جنوب كاليفورنيا شكوك حول القضية: «كل الناس في العالم الآن يبثون باللغة العربية ولكن ليس كل العرب يستمعون إليهم. فحتى (بي بي سي) تواجه صعوبة حاليا في الحصول على انتباه الجماهير في العالم العربي على الرغم من أنها تتمتع بسمعة طيبة. وما أعرفه من خلال الوقت الذي قضيته في العالم العربي هو أن كثيرا من تلك المحطات الأجنبية أنفقت مبالغ مالية طائلة، ولكنها لم تصل سوى إلى حفنة من الأشخاص».
ومن الصعب أن نحدد المبالغ المالية التي أنفقتها القوى الأجنبية أو نحدد مدى النجاح الذي حققته في المنطقة. فما زالت الأبحاث المتعلقة بتوجهات الجماهير في العالم العربي في بداياتها، كما أنها غير متوازنة في تغطيتها، وفي بعض الأحيان تفتقر إلى المصداقية. ولكن أحد المؤشرات التي يمكننا الاستعانة بها، على الأقل في قياس اهتمام الشباب، هي عدد متابعي إحدى محطات الراديو على «تويتر». ومن باب الفضول، قمت بفحص حساب «تويتر» لخدمة البث الكورية وقارنتها براديو «سوا» الأميركي، واكتشفت أن الشبكة الصغيرة لديها عدد من الأتباع يتجاوز حجمها، حيث إن راديو «سوا» الذي يبث على مدار الساعة ولديه موازنة سنوية تتجاوز 22 مليون دولار، لديه 60 ألف متابع على «تويتر» فيما حصلت الشبكة الكورية التي ليس لديها سوى ثلاثة عاملين بدوام كامل وساعة واحدة من البث يوميا على عشرة آلاف متابع.
لكي أتمكن من فهم المزيد، اتصلت بمقر الإذاعة الكورية بالعاصمة الكورية سيول وتحدثت إلى باي جيونغ - أوك مديرة المحطة العربية التي تحمل اسم «لؤلؤة» أثناء البث. حيتني باي جيونغ – أوك، بحرارة ثم قالت: «عندما أقدم برنامجا أو أجري حوارا على الهواء، كنت دائما أتساءل عما إذا كان هناك من يسمعني، ولكنك في واشنطن وتمكنت من الاستماع إلي. ما شاء الله، وكأن حلما تحقق بالنسبة لي».
وعندئذ سألتها حول كيف تنظر إلى طبيعة عملها، قالت: «إنهم يطلقون علينا السفراء المدنيين. فنحن نحاول بقدر استطاعتنا أن نقيم جسورا بين ثقافتين. ذلك هو ما نشعر به تجاه عملنا، كما أن ضيوفنا العرب ينظرون إلينا على ذلك النحو أيضا. وهناك كثير من العوامل والقيم المشتركة بين الثقافتين العربية والكورية، مثل قيمة احترام الصغير للكبير، وغيرها، وأعتقد أن ذلك يسهِّل علينا مهمة تجسير الفجوة بين الثقافتين».
كما أضافت جيونغ - أوك أن الإذاعة الكورية الموجهة للعالم العربي ليست جديدة، فقد كانت موجودة منذ سبتمبر (أيلول) 1975، أي ليس بعد وقت طويل من حظر البترول العربي في أكتوبر (تشرين الأول) 1973، الذي بدأ رد فعل على تأييد الأميركيين لإسرائيل. وكان الحظر قد تسبب في ارتفاع أسعار البترول وركود عالمي، وهو ما جعل بلادنا تدرك أن القوى الأجنبية تتجاهل مشاعر العرب.
وأضافت جيونغ - أوك أنه «في بداية السبعينات كانت هناك أزمة طاقة، ولم يكن هناك متخصصون في الشؤون العربية بكوريا، ومن ثم ركزت الحكومة على إيجاد خبراء باللغة العربية، ومع الوقت أدركنا أننا بحاجة إلى تعزيز التعاون الثقافي والأكاديمي والاجتماعي، فلا يمكن أن تقيم علاقات وثيقة مع البلدان الأخرى بدوافع اقتصادية فقط».
وبعد ذلك بثمان وثلاثين سنة، ما زالت الشبكة تعمل على ميزانية محدودة حيث يساعد نحو 20 شخصا يعملون عملا حرا فيما لا يوجد سوى ثلاثة أفراد بدوام كامل، ومع ذلك فلدى الشبكة جمهور كبير. ويبدو أن عدم وجود قواعد بيروقراطية تحكم عملهم، تمنح المحطة كثيرا من المزايا، حيث يستطيع طاقم العمل أن يحتفظوا بحيويتهم ويتواصلوا مع المستمعين ويتمتعوا بحرية كاملة في دفع البرنامج في الاتجاه الذي يجدونه مناسبا للجماهير. وتشعر جيونغ - أوك بأن نجاحها في زيادة الجماهير يعتمد على العلاقات الإنسانية التي تمكنت من إقامتها مع المستمعين.

* كاتب ومحلل سياسي متخصص في شؤون المجتمعات العربية وباحث في مركز المسبار للدراسات والبحوث. آخر كتبه «الموتى المحترمون» (The Honored Dead) من إصدار «راندوم هاوس» للنشر، نُشرت مقالاته في «نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال» وغيرهما من الجرائد والمجلات الأميركية، بينما تُبث برامجه الوثائقية في الراديو الوطني الأميركي. يمكن متابعته في تويتر على عنوان @josephbraude.

* كاتب ومحلل سياسي متخصص في شؤون المجتمعات العربية وباحث في مركز المسبار للدراسات والبحوث. آخر كتبه «الموتى المحترمون» (The Honored Dead) من إصدار «راندوم هاوس» للنشر، نُشرت مقالاته في «نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال» وغيرهما من الجرائد والمجلات الأميركية، بينما تُبث برامجه الوثائقية في الراديو الوطني الأميركي. يمكن متابعته في تويتر على عنوان @josephbraude.

فتقول: «يرسل إلينا المستمعون العاديون من الجزائر مثلا تقرير المستمعين، ويخبروننا فيه كيف تعرفوا على محطتنا ويعطوننا تقييما لأداء المحطة سواء كان إيجابيا أم سلبيا. وفي النهاية، يبدأون في الحديث حول أمور شخصية، فعلى سبيل المثال يتصل بنا من يخبرنا أن اليوم هو عيد ميلاده أو أن ابنته تزوجت أو زوجته وضعت مولودا ومن ثم فإننا نتفاعل معهم على الهواء مباشرة. ففي أحد الأيام أخبرنا مستمع بأنه سيتزوج في يوم محدد، وفي ذلك اليوم كنت أقدم فقرة موسيقية، ومن ثم هنأته خلال العرض وأهديت أغنية لطيفة للزوجين. وعندها شعر الرجل بالسعادة البالغة، قام بتسجيل الأغنية وتشغيلها في حفل الزفاف، وأعتقد أن مثل ذلك التفاعل وتبادل المشاعر له قوة خاصة».
ومع ذلك، فإن مقاربة الإذاعة الكورية ربما تنجح في بلد صغير نسبيا, غير معروف إلى درجة كبيرة في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، كما أن استراتيجياتها قد لا تنطبق على قوى عظمى مثل الولايات المتحدة المعروفة والحاضرة دائما، وإن لم تكن محبوبة, وتواجه صعوبات في الدفاع عن سياساتها ومصالحها الواسعة.
وعلى أي حال, لا تحاول الإذاعة الكورية أن تصبح مصدرا للمعلومات والأخبار خارج نطاق الأخبار المتعلقة بشبه الجزيرة الكورية. ومن جهة أخرى، هناك درس مهم واحد قد تتعلم القوى العظمى من الإذاعة الكورية وهو مزايا وضع مواطني البلد الأصليين الذين تجذب إجادتهم للعربية جماهير إضافية إلى جانب المذيعين العرب، فليس هناك مذيعون أميركيو المولد في راديو «سوا» أو بريطانيون في «بي بي سي». وعن ذلك أضافت جيونغ - أوك أنه عندما بدأت الخدمة العربية لم يكن لدينا سوى كوريين تخرجوا في قسم الدراسات العربية بالجامعة لكي نستعين بهم كمذيعين. ومع الوقت، تحسنت لغتهم كثيرا، ولكن في القرن الحادي والعشرين بدأ العرب يتدفقون على كوريا، وما زال كثير منهم يعيش هنا حاليا، وقد بدأنا مزج الأصوات في برامجنا بين العرب والكوريين. وأعتقد أن ردة فعل الجمهور تحسنت بعدها. فهم دائما يخبروننا: «أنتم مختلفون عن الشبكات الأجنبية الأخرى. فهم عادة مذيعون عرب فقط، ولكنكم لديكم مزيج من الكوريين والعرب». وربما تكون هذه ميزة بالنسبة للجماهير.
وبخلاف الصين وروسيا وإيران، فإن كوريا الجنوبية حليف للولايات المتحدة. ولكن هل يعني ذلك أن العلاقات المتنامية بين كوريا والعالم العربي ستصب في مصلحة الولايات المتحدة؟ وما تداعيات الروابط الكورية العربية على السياسة الأميركية، سواء تجاه الشرق الأوسط أو فيما يتعلق بما يطلق عليه «الاتجاه صوب آسيا»؟
ينظر جون ألترمان من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية لهذه العلاقة بوصفها علاقة مختلطة. فمن جهة وعلى الصعيد الاستراتيجي نرى مواجهة مباشرة مع كوريا الجنوبية ولكن على الصعيد التجاري فإنهم يتنافسون مع الشركات الأميركية في بعض الحالات. وبالتالي أعتقد أن هذه العلاقة ستكون في جانب منها مرضية وفي جانب غير مرضية. فلا أعتقد أنهم يرغبون في أن يحلوا محل الولايات المتحدة ولكنهم يرغبون بالتأكيد في استكمال دورها. وبالنظر للمستقبل «ربما لا نستورد مباشرة بترول الشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة ولكننا نستورده على نحو غير مباشر.. أي عندما نشتري منتجات جرى تصنيعها في آسيا ثم أرسلت إلى الولايات المتحدة. فنظرا لأن هذه المنتجات جرى تصنيعها بطاقة شرق أوسطية، فإننا نصبح جزءا من التنمية الشاملة للعلاقات الآسيوية الشرق أوسطية. وقد أصبح اقتصادنا مرتبطا بها ليس عبر السياسة المتمركزة فقط على السياسات التقليدية تجاه الشرق الأوسط، ولكن من خلال اتجاه يعتمد على التجارة الحرة التي تحمي الممرات البحرية. وأعتقد أن ما يعنيه ذلك هو أننا يجب أن نفكر أكثر حول من يدفع لحماية الممرات البحرية؟ وهل يُعقل أن تقدم الولايات المتحدة كل ذلك التأمين مجانا لمستهلكي الطاقة الذين يعيشون على الجهود الأميركية؟».
على أي حال، من الواضح أن الكوريين كانوا يشنون غارات قوية في ظل المظلة الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط. فهل هناك وسيلة تجعل الولايات المتحدة تفيد من تلك الغارات سواء على الأرض أو على صعيد الموجات الإذاعية؟ في بعض الأحيان، حتى القوى العظمى تحتاج إلى بعض المساعدة، ويمكننا هنا الاستعانة بمثل كوري مفاده أن «النهر العظيم لا يرفض الاستعانة بالتيارات الصغرى».



المنتدى الروسي الأول لـ«الثقافة والإعلام والرقمنة» لمواجهة هيمنة الغرب

أحد المتكلمين في المنتدى (الشرق الأوسط)
أحد المتكلمين في المنتدى (الشرق الأوسط)
TT

المنتدى الروسي الأول لـ«الثقافة والإعلام والرقمنة» لمواجهة هيمنة الغرب

أحد المتكلمين في المنتدى (الشرق الأوسط)
أحد المتكلمين في المنتدى (الشرق الأوسط)

«إحدى الوظائف الرئيسية لوسائل الإعلام الجديدة تتمثّل في القدرة على توحيد الناس وكسر الحواجز الموجودة بين الثقافات» اختتم المنتدى الأول لـ«الثقافة والإعلام والرقمنة» أخيراً أعماله في موسكو، مطلِقاً آليات لتعزيز التواصل مع المؤسسات الثقافية والإبداعية في عشرات البلدان، بهدف تحويل المنتدى -كما قال منظموه- إلى «منصة فريدة لتبادل الخبرات وتطوير أساليب الابتكار والإبداع في عالم متعدد لا تهيمن عليه الثقافة الغربية وحدها بأساليبها القديمة».

جمع المنتدى، عبر النقاشات التي دارت خلال ورشات العمل «قادة الصناعات الإبداعية من روسيا ودول أخرى، لمناقشة آفاق تطوير الصناعة والمخاطر والفرص التي أحدثها التقدم السريع للتكنولوجيا الجديدة في حياة الناس وإبداعهم».

عاصمة عالمية للإعلام والثقافة

ووفقاً لحكومة العاصمة الروسية موسكو، التي رعت تنظيم المنتدى، فإن من بين أهداف إطلاقه «تحويله إلى فعالية تُنظّم بشكل دوري وتكريس رؤية جديدة للتعاون الثقافي والإعلامي والإبداعي تقودها موسكو». ومن جهتها، رأت رئاسة المنتدى أن موسكو «عزّزت عبره مكانتها بين عواصم الثقافة في العالم، وباتت تجذب انتباه الخبراء في الصناعات الإبداعية والمتخصصين المشهورين من مختلف أنحاء العالم، من الولايات المتحدة وفرنسا إلى الهند والصين». وبهذا المعنى فإن روسيا «ما زالت تحتفظ بهويتها الثقافية، على الرغم من العقوبات والتحديات المعاصرة، بل تمضي قدماً أيضاً نحو تطوير أشكال جديدة من التفاعل في مجالات السينما ووسائل الإعلام الجديدة وغيرها من الصناعات الإبداعية».

وحقاً، جمع منتدى «الثقافة والإعلام والرقمنة» في دورته الأولى متخصصين في مجالات السينما، والألعاب، والإعلام، والتكنولوجيا، والصناعات الإبداعية؛ للبحث عن توازن جديد بين الأهداف التجارية والمصالح العامة، وإمكانيات الآلات وقدرات البشر.

ولمدة يومين، تواصل المشاركون من مختلف دول العالم في ورشات عمل لبحث المواضيع الرئيسة المطروحة التي توزّعت على عدة محاور؛ بينها: اقتصاد وسائل الإعلام الجديدة، والتأثير المتبادل بين وسائل الإعلام الجديدة والسينما، والاتصالات، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن تطوير ألعاب الفيديو، والمساحات الافتراضية، والرياضات الإلكترونية.

تقارب وأرضية مشتركة

رؤية المنتدى تقوم، بالدرجة الأولى، على محاولة تعزيز التقارب والتنسيق من أجل «إيجاد أرضية مشتركة وتطوير أساليب جديدة وفريدة للإبداع بين روسيا ودول مجموعة (بريكس+)» والدول العربية، لا سيما في مجال منصات الثقافات وتشابكها. وبذا لا يُخفي المنظمون الهدف الأساسي المتمثل في محاولة «كسر» الحصار الغربي، والعمل على تشكيل منصة فريدة تُسهم في تطوير حوار دولي بين روسيا وشركائها في الدول العربية والبلدان الأخرى التي تعمل مثل روسيا لإيجاد روابط جديدة للتعاون في ظل التغيّرات السريعة على بيئة المعلومات العالمية.

لذا، رأى المنتدى في جلسات الحوار أن إحدى الوظائف الرئيسة لوسائل الإعلام الجديدة تتمثّل «في القدرة على توحيد الناس، وكسر الحواجز الموجودة بين الثقافات واللغات المختلفة عبر استخدام الشبكات الاجتماعية، والمدوّنات، ومحتوى الفيديو». وعدّ أن تأثير مساحة الإعلام الجديدة يتمثّل أيضاً في إمكانية إنشاء مبادرات مشتركة - مشاريع مشتركة، وأحداث ثقافية، وبرامج تعليمية تهدف إلى تعزيز الروابط وتوسيع آفاق التعاون المتبادل.

برنامج اليوم الأول تضمّن جلسة رئيسة بعنوان «مستقبل التواصل والتواصل من أجل المستقبل»، شاركت فيها نخبة من كبار المخرجين العالميين؛ مثل: أمير كوستوريكا، وأوليفر ستون، استعرضوا خلالها دور السينما في تجاوز الحواجز الثقافية وتعزيز التفاهم بين الشعوب. وفي كلمته، شدّد كوستوريكا على أن «السينما لا تُقاس بقيمتها المالية بقدر ما تحمله من مضامين وأفكار عميقة»، مشيراً إلى تأثير أفلام المخرج أندريه تاركوفسكي التي على الرغم من محدودية مشاهدتها عند إصدارها، اكتسبت قاعدة جماهيرية واسعة على مر الزمن، بفضل طرحها أسئلة جوهرية عن الحياة.

أما ستون فأكد أن «السينما اليوم في مرحلة تطور مستمر، تتضمّن رؤى فنية جديدة وإمكانيات إبداعية متاحة حتى في المدن الصغيرة»، داعياً إلى احتضان هذا التغيير وتقدير الماضي في الوقت ذاته.

الحضور العربي

وفي الجلسات عن العالم العربي، شارك لوبو سيوس مقدم البرامج الحوارية في دبي، وعلي الزكري رئيس قسم التحرير الرقمي في صحيفة «البيان» في دبيّ، وعلا الشافعي رئيسة تحرير صحيفة «اليوم السابع» المصرية، والصحافي اللبناني نبيل الجبيلي. وأكد المنتدى تعزيز الروابط بين الشعوب، كونها تُسهم في خلق أرضية مشتركة وتقديم طرق مبتكرة للإبداع. ورأى المشاركون أن العلاقات بين روسيا ودول «بريكس» لا سيما الدول العربية تستند إلى التفاعل الثقافي وتشابك الثقافات؛ مما يفتح آفاقاً جديدة للتعاون والإبداع المشترك.

وعن دور السينما، بين وسائل هذا التعاون، فإنها عُدّت جسراً فعّالاً يربط بين العالمين الروسي والعربي. إذ إن الأفلام لا تكتفي بعرض جوانب من حياة شعوب معينة، بل تساعد أيضاً على تجاوز الحواجز اللغوية والثقافية؛ مما يخلق قصصاً عالمية قادرة على التأثير في قلوب المشاهدين في كل مكان.

ومن ثم، تناول المنتدى دور الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة واعدة في عملية التأليف والإنتاج السينمائي، بجانب بحث الفرص التي توفرها المنصات الرقمية لتمكين المواهب الشابة.

جانب من الحضور يسجلون اللحظة بهواتفهم الجوّالة (الشرق الأوسط)

منصة مهمة لتبادل الخبرات

مع مشاركة أكثر من 70 متحدثاً من 10 دول، شكّل المنتدى منصة مهمة لتبادل الخبرات وتعزيز التواصل الثقافي بين روسيا والعالم، بما يُسهم في دفع عجلة الابتكار والتنوع في قطاعي الإعلام والسينما العالميين. وفي تصريح لـ«الشرق الأوسط»، قال جورجي بروكوبوف، رئيس شركة موسكينو - مركز موسكو السينمائي، إن المنتدى -الأول من نوعه- يُنظّم «في لحظة محورية؛ إذ تعمل أدوات الذكاء الاصطناعي والابتكارات الرقمية على إعادة تشكيل الصناعات الإبداعية بشكل أساسي». وأردف أن «الملعب العالمي بات أكثر توازناً... وظهرت مناطق جديدة، أو عزّزت مناطق، كانت موجودة أصلاً في هذه الصناعة، مكانتها لتتحول إلى مراكز لإنتاج الأفلام والتلفزيون».

وأوضح بروكوبوف أن موسكو استثمرت، بمبادرة من رئيس بلديتها سيرغي سوبيانين، بكثافة في «بناء مجموعات إبداعية عالمية المستوى» في المدينة وإنشاء شبكات تعاون مع مراكز إبداعية مماثلة في جميع أنحاء العالم. ولقد انصب أحد البرامج الأساسية على تطوير صناعة السينما. وتابع أن «مجموعة صناعة الأفلام الروسية وصلت إلى حجم مماثل (من حيث مرافق الإنتاج ومعداتها المتطورة) لتلك الموجودة في كاليفورنيا أو مومباي (...) تتغيّر صناعة الأفلام العالمية بسرعة، ولم يعد الأمر يقتصر على (هوليوود)، النموذج القديم؛ حيث تُملى ثقافة واحدة، والأذواق العالمية تتلاشى». ثم كشف عن أن عدد الأفلام الروائية المنتجة في دول «بريكس» تضاعف أكثر من ثلاث مرات على مدى العقدين الماضيين، في حين ظل عدد الإنتاجات في الغرب ثابتاً إلى حد كبير.

داخل القاعة (الشرق الأوسط)

التطور في «بريكس» ودول الخليج العربي

ومن ثم، أفاد بأن تقنيات الذكاء الاصطناعي تسمح بتكييف المحتوى المتنوع مع السياقات المحلية بسلاسة. وبالنسبة إلى دول مجموعة «بريكس» فإنها، مثل روسيا، «تتطلّع إلى تعزيز التعاون مع القطاع الإبداعي المزدهر في الخليج العربي، بما يمثّل فرصة مثيرة لاستكشاف أسواق جديدة».

وزاد المسؤول أن الأوساط الروسية «تتابع باهتمام كبير ما يحدث في المملكة العربية السعودية. إن تفاني الحكومة في رعاية المواهب وجعل المملكة واحدة من المراكز الإبداعية الرائدة في العالم أمر رائع حقاً. ومن الملهم أن نرى كيف تتحوّل المملكة بسرعة إلى قوة إبداعية عالمية مع الحفاظ على تراثها الثقافي الغني».