تباين دوافع الانضمام للتنظيمات المتطرفة

أقواها الحرمان والتهميش والفقر

عناصر من «داعش» في الرقة قبل اندحار التنظيم وهزيمته النهائية في سوريا (أ.ب)
عناصر من «داعش» في الرقة قبل اندحار التنظيم وهزيمته النهائية في سوريا (أ.ب)
TT

تباين دوافع الانضمام للتنظيمات المتطرفة

عناصر من «داعش» في الرقة قبل اندحار التنظيم وهزيمته النهائية في سوريا (أ.ب)
عناصر من «داعش» في الرقة قبل اندحار التنظيم وهزيمته النهائية في سوريا (أ.ب)

رغم أن تفكك «الخلافة» المزعومة التي أسسها تنظيم «داعش» في سوريا والعراق دفع قادة التنظيم إلى التركيز من خلال رسائلهم الدعائية الإلكترونية على استقطاب «الذئاب المنفردة» ممن لديهم قابلية للتأثر والانضمام، وحثهم على تنفيذ عمليات ليست بحاجة إلى تدريب مثل عمليات الدهس والطعن، إلا أنه في الآونة الأخيرة تظهر لديهم محاولات للعودة للطرق التقليدية لتكوين خلايا إرهابية تتجمع وتخطط لعملياتها الإرهابية.
وأبرز مثال على ذلك الهجوم الإرهابي الذي حدث في سريلانكا عشية عيد الفصح. وكذلك إحباط محاولة الهجوم على مبنى المباحث الجنائية في محافظة الزلفي بالمملكة العربية للسعودية.

هذه العمليات الإرهابية كشفت عن محاولات لتكوين خلايا إرهابية وتجنيد بالطرق التقليدية وليست عبر وسائل التواصل الإلكتروني. ويؤكد على ذلك من جهة أخرى الظهور الإعلامي الأخير لزعيم «داعش» أبو بكر البغدادي لأول مرة منذ خمس سنوات، إذا ظهر مؤخراً في تسجيل مرئي من إصدار مؤسسة الفرقان الدعائية التابعة لتنظيم داعش بعنوان: «في ضيافة أمير المؤمنين» عبر قنواته الإعلامية ومن خلال تطبيق تيليغرام، وقد ظهرت على البغدادي علامات التقدم في السن بلحية بيضاء، وهو الذي لم يظهر منذ عام 2014 منذ إعلانه تأسيس تنظيم داعش في المسجد النوري بالموصل.
وأشار البغدادي في التسجيل إلى معركة الباغوز التي تعد آخر معاقل تنظيم داعش في سوريا، وتوعد بأن التنظيم سيثأر لقتلاه وأسراه.
وإذا ما كان السبب الرئيسي حول الظهور الإعلامي لزعيم «داعش» هو دحض الشائعات التي نشرت حول مقتله، فإن ظهوره جاء كذلك محاولة لتجييش المناصرين والتأثير عليهم بمعقل الباغوز في سوريا، وذلك على خطى تنظيم «القاعدة» الذي استند بشكل كبير على الظهور الإعلامي لزعمائه مثل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري.
كذلك هناك محاولة من التنظيم لإيجاد مناطق نفوذ أخرى نتيجة لتغير أوضاعه السياسية مثل تطرقه إلى سريلانكا والسودان والجزائر.
وقد نسب البغدادي هجمات سريلانكا في عيد الفصح لتنظيم داعش معتبرا أنها بمثابة ثأر للباغوز. هذا الظهور الإعلامي يثير هنا التساؤلات حول نوعية المتطرفين الذين تجذبهم مثل هذه الرسائل الدعائية ودوافع انضمامهم للتنظيمات المتطرفة.

- مسببات الانضمام للتنظيمات الإرهابية
تعددت الدراسات التي تعالج مسببات الانضمام للجماعات المتطرفة، ولكن رغم ذلك فإنه يصعب تكهن الأسباب المباشرة التي تدفع بالأفراد القادمين من دول مختلفة إلى الانضمام إلى أحضان مثل هذه التنظيمات الإجرامية. إذ يظهر اختلاف كبير حول المسببات حسب المناطق التي يأتي منها المتطرفون، فأولئك القادمون من دول غربية، مثل الدول الأوروبية حيث يعد المسلمون أقلية، غالباً ما يبرز لديهم الشعور بالنبذ والتهميش، الأمر الذي يدفعهم بالرغبة في الانتماء إلى جماعة ما أو تحقيق إنجاز أو الرغبة في أن يتم تسليط الضوء عليه. أما المقاتلون القادمون من منطقة الشرق الأوسط فإن مسببات انضمامهم إلى التنظيمات المتطرفة تنقسم ما بين التعاطف نتيجة ما يحدث في مناطق النزاع والرغبة في مساعدتهم أو لأسباب دينية. وأخيرا يظهر أن من أهم مسببات الانضمام لتنظيمات متطرفة في أفريقيا المسببات الاقتصادية ذلك أن غالبية المنضمين يعانون من الفقر والحاجة إلى المال.

- دراسة البنك الدولي
لقد نشر البنك الدولي تقريراً قام بإجراء دراسة على 3956 «داعشياً» من 61 دولة. ورغم أن معظم المقاتلين قادمون من دول مجاورة لسوريا والعراق، إلا أن ما يشكل نسبة 12 في المائة منهم من المسلمين القادمين من غرب أوروبا. كذلك فإن غالبيتهم يعدون من الطبقة المتعلمة، الأمر الذي ينافي نظرية أن من مسببات التنظيم الفقر وقلة التعليم. وهنا من عناصر خطورة التنظيمات العابرة للحدود تمكنها من استقطاب جنسيات متنوعة مع تعدد دوافع الانضمام إلى التنظيمات المتطرفة. وبما يتصل بالأوروبي، جاء في تقرير للمعهد الملكي للدراسات الأمنية حول مسببات انضمام الأوروبيين إلى «داعش»، أن من أبرزها الفقر وفقدان الإحساس بالانتماء وإخفاق الحكومات الغربية في دمج هؤلاء من الأقليات في المجتمع.

- أحداث سريلانكا
وإذا ما عدنا إلى الحدث الإرهابي الأكبر مؤخراً، أي في سريلانكا يوم 21 أبريل (نيسان) الفائت والذي تسبب بمقتل المئات من الأشخاص، نجد أن المرتكبين كانوا من قبل جماعة التوحيد الإسلامية وجميعهم من الجنسية السريلانكية، وقد ظهروا في تسجيل مرئي وهم يعلنون بيعتهم لأبي بكر البغدادي.
وأيضا يظهر استهداف جماعة التوحيد المتطرفة لغير المسلمين والتحريض على استخدام العنف لقتلهم وتدمير التماثيل البوذية. من ناحية ثانية، أكد عدد من الخبراء في مجال التطرف بأن التفجيرات في سريلانكا تحمل بصمات مسلحين محليين تم تجنيدهم بواسطة عناصر من تنظيمي «داعش» و«القاعدة»، وأكد ذلك المتحدث باسم مجلس الوزراء السريلانكي راجيثا سيناراتني، حين ذكر أن المتطرفين الذين نفذوا التفجيرات حصلوا على دعم من شبكات أو تنظيمات دولية.
وبالفعل، أظهرت عدة تقارير أن أحد مرتكبي الهجوم، واسمه جميل محمد عبد اللطيف، سافر إلى الرقة في عام 2014. وتلقى تدريباً فيها لمدة ثلاثة إلى ستة أشهر قبل أن يتجه إلى سريلانكا ويبدأ باستقطاب أعضاء للتنظيم، قد تدرب في السابق وعمل مع «داعشيين» متخصصين بتجنيد الآخرين من أمثال محمد إموازي الملقب بـ«الجهادي جون» الذي تسبب بمقتل الصحافي جايمس فولي. ويظهر هنا أن جميل عبد اللطيف ما كان يعاني من الفقر بل إن وضع عائلته الاجتماعي مكنهما من إرساله لتلقي التعليم في كل من بريطانيا وأستراليا حيث تمت «أدلجته» وتعزز تطرفه. ويتضح هنا أن مسببات انضمامه لجماعة متطرفة لم تكن اقتصادية أو اجتماعية، وإنما لدوافع دينية متطرفة.

- إرهابيو الشرق الأوسط
وعلى شاكلة دوافع الانضمام في سريلانكا لا يظهر بين مسببات الانضمام للتنظيمات المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط عوامل اقتصادية أو اجتماعية في معظم الحالات، وإنما غالبيتها إما عاطفية كرد فعل لتنامي الاضطرابات السياسية أو حالة الاضطراب في مناطق النزاع في المنطقة، وتصاعد موجة الطائفية في المنطقة.
ومن جانب آخر يأتي المسبب الديني نتيجة التأثر من وجود متطرفين في أسر المرتكبين أو المنضمين، ثم إن عدداً من السوريين إلى التنظيم تحت التهديد. ولعل أقرب مثال على ذلك قصة أحمد درويش، وهو سوري عائلته من حمص، تم القبض عليه من قبل الأكراد ونشرت قصته في وسائل الإعلام، حيث ذكر أنه انضم لـ«داعش» إثر تواصله عبر موقع «فيسبوك» مع قريب له أقنعه من خلال وصفه بأن التنظيم لا يمتهن الكذب أو السرقة وبأنه شعر بالوثوق بهم، وبأن شعوره بالانتماء لمجموعة تقدم له الولاء والصداقة هو من أبرز مسببات انضمامه للتنظيم.

- التطرف في السعودية
أما بما يتعلق بالسعودية، ففي تقرير نشر مؤخراً للدكتور عبد الله بن خالد بن سعود الكبير بعنوان «المقاتلون الأجانب في وثائق «داعش» المسرّبة: دراسة تحليلية للقادمين من المملكة» من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الأمنية، اعتمد الباحث على وثائق سرية جرى تسريبها في مطلع عام 2016 تخص المجندين الجدد الذين سعوا للانضمام إلى تنظيم داعش في سوريا.
ذكر التقرير أن غالبية السعوديين ممن انضموا للقتال في «داعش» من فئة الشباب الذين يمثلون جيلاً جديداً من الجهاديين السعوديين، كما أن الجزء الأكبر ليسوا من المراهقين ثم إنهم لم يكونوا معزولين أو منبوذين اجتماعياً، لكنهم لم يمتلكوا معرفة شرعية واسعة، إلا أنهم متعلمون إلى حد ما 46 في المائة، أما فئة الجامعيين فيشكلون 45 في المائة.
وقسم الباحث أنواع المنخرطين في التنظيم ما بين مقاتل أو استشهادي أو انغماسي - بمعنى أنه يقوم بهجمة إرهابية دون أن يؤدي ذلك إلى موته. وذكر أن الغالبية اختاروا أن يكونوا مقاتلين فيما أن خيار الانتحاري بدأ في التضاؤل. إذ أنه كان بنسبة أعلى في بداية نشأة «داعش» في العراق عامي 2006 - 2007 بنسبة 48 في المائة من المقاتلين السعوديين ممن اختاروا الانخراط في عمليات انتحارية، لكن تناقصت نسبتهم لتصل إلى 16 في المائة ما بين عامي 2013 - 2014، الأمر الذي يعكس نوعاً من التغيير في القناعات لديهم.
من جهة أخرى فإن السلطات السعودية كشفت عن الداعشيين الذين سعوا للهجوم على مبنى المباحث الجنائية في محافظة الزلفي، ومن ضمنهم عبد الله بن حمد الحميدي، وهو ابن أحد منظري تنظيم «القاعدة» حمد الحميدي، الأمر الذي يدل على وجوده في أسرة وبيئة حاضنة للإرهاب. في حين تشكل قصة سلمان وسامر المديد وتعكس مدى تأثير ضعف التعليم والأسر المتطرفة على المجندين. فهما ابنا عبد العزيز المديد الذي سبق سجنه نتيجة تطرفه ولقد رفض إكمال تعليم أبنائه وبناته ومزاولة أي عمل وبالأخص الحكومي، كما أنه مزق أوراقهم الثبوتية قبل سجنه.

- التطرف مختلف في أفريقيا
من جهة أخرى تحمل القارة الأفريقية دوافع أو مسببات مختلفة تماماً للانضمام للتنظيمات المتطرفة، غالبيتها اقتصادية. وتشير العديد من التقارير أن جماعة «بوكو حرام» في نيجيريا استقطبت المجندين عبر إقناعهم بحصولهم على الكثير من الأموال وكل ما هم بحاجة إليه. كذلك يشير تقرير نشره المعهد الأوروبي للسلام إلى أن أهم مسببات الانضمام لحركة الشباب الإسلامية في الصومال أسباب اقتصادية، حيث إن 27 في المائة انضموا لهذه الأسباب، فيما 15 في المائة منهم انضموا لدوافع دينية، وأجبر 13 في المائة منهم على الانضمام للتنظيم قسرا. فيما أكد 21 في المائة ممن استمروا داخل التنظيم أن شعورهم بالانتماء للتنظيم هو ما دفعهم بالاستمرار فيه.


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟