صراع «القاعدة» و«داعش» ينتقل للإصدارات المرئية

«حديث العائدين» يُكذب «البادئ أظلم» ووكالة «أعماق»

«حديث العائدين» الذي بثه «القاعدة» عن «داعش» (الشرق الأوسط)
«حديث العائدين» الذي بثه «القاعدة» عن «داعش» (الشرق الأوسط)
TT

صراع «القاعدة» و«داعش» ينتقل للإصدارات المرئية

«حديث العائدين» الذي بثه «القاعدة» عن «داعش» (الشرق الأوسط)
«حديث العائدين» الذي بثه «القاعدة» عن «داعش» (الشرق الأوسط)

انتقل الصراع بين تنظيمي «داعش» و«القاعدة» من الأرض إلى الإصدارات المرئية؛ إذ بث «القاعدة» إصداراً صوتياً لـ«منشقين» عن «داعش» تحدثوا عن خداع التنظيم، في حين يواصل «داعش» بث إصدارات ومقاطع لتأكيد أنه «باق» رغم الهزائم، وأنه الأقوى بين التنظيمات الإرهابية. يقول خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، إن «حرب الإصدارات إفلاس، ومحاولة لإثبات الوجود في ظل فشل كبير».
صدر أخيراً إصدار مرئي بعنوان «حديث العائدين» مدته 12 دقيقة، ضم رواية لأحد عناصر «داعش»، ضمن 3 عناصر ظهروا في الإصدار. قالت عنهم «القاعدة» إنهم «انشقوا عن (داعش)، وتحدثوا عن الإعلام الكاذب للتنظيم»، أصدرته مؤسسة «هداية» للإنتاج الإعلامي التابعة لـ«القاعدة». وبدأ الإصدار المرئي الذي حمل أسماء حركية هي «قربان، وحارث، وأسامة» بنشيد احتوى على كلمات، تُذكر بالموت، وضرورة التوبة إلى الله، في تقليد لإصدارات «داعش» التي اعتاد عليها.
يأتي هذا في وقت لا تزال مشكلة «العائدين» من «داعش» تمثل إشكالية كبيرة، وتنشر القلق في أوروبا بعد انحسار التنظيم وفرار معظمه من العراق وسوريا. وقال مراقبون إن «مشكلة الدول تكمن في وجود تخوفات من إقدام الفارين من (داعش) على ممارسة العنف والإرهاب داخل حدودها، وبخاصة مع عدم وجود بيانات تفصيلية لهؤلاء (العائدين)».
وأكد المراقبون «عادة ما تبدأ شهادة (العائدين) من التنظيمات الإرهابية في أي إصدار صوتي بتسجيل موقف الندم، والحسرة على الاختيارات التي دفعتهم إلى ذاك الطريق، وأحياناً يتهمون أنفسهم بالسذاجة والسطحية».

- أكاذيب «داعش»
بدأ الحركي «قربان» حديثه، بأن «(داعش) تلاعب بالإعلام خلال حربه مع (القاعدة) في قيفة بالقريشية، إحدى مديريات محافظة البيضاء اليمنية، واستخدموا سلاح (بي كي) وهو سلاح رشاش متوسط يجمع صفات كل من الكلاشينكوف والغرينوجوف، وقتلوا عناصر (القاعدة) وأسروهم»، مستشهداً بإصدار «داعش» «البادئ أظلم» الذي كشف كذب التنظيم؛ إذ خطف 13 من «القاعدة»، وعندما ردت «القاعدة» اشتكى التنظيم بأنه مظلوم، مؤكداً أن «(داعش) يدعي زيفاً بأن التنظيم لا يزال ثابتاً في مواقعه للزج بعناصره في حرب لا يعرف أحد مداها، وقد انسحب من أكثر المواقع التي كان فيها، ويدعي أنه يسطر الملاحم... والحقيقة أنه يقتل الأطفال، ويقوم بإطلاق النار على عامة الناس، فقد قام التنظيم بقنص طفلة في قيفة لا تتجاوز العاشرة من عمرها في رأسها».
وواصل الحركي «قربان» حديثه قائلاً: «حتى نعلم مدى تلاعب الدواعش بالإعلام وكذبهم، لا بد من مشاهدة مقطع لوكالة (أعماق) التابعة للتنظيم، والذي ظهر فيه شخص يقال عنه أن اسمه الحركي أبو مسلم الهاشمي، وأظهرت الوكالة أنه منشق عن (القاعدة)»، مضيفاً: «أبو مسلم هذا حينما حضر إلى (داعش) كنت معهم وقتها، وعقب وصوله بأيام قليلة نشروا بيننا المقطع، وحاولوا ترسيخ أنه قاعدي منشق... وعندما هربت إلى (القاعدة) بدأت أبحث عن حقيقة ما قاله أبو مسلم، فلم أجد شيئاً، وعندما سألت عن أبو مسلم، علمت أنه لم يبقَ في قيفة سوى 48 ساعة، وأنه لم يمكث مع (القاعدة) أكثر من 10 أيام وهرب إلى (داعش)، فكيف أنه مكث 12 يوماً ويحكي ما يقوم به (القاعدة) بين الناس؟».
ودعا الحركي «قربان» في نهاية حديثه عناصر «داعش» أن يفيقوا بعدما غيبوهم عن الواقع، وأن يعلموا أن ما يقوم به القادة ظُلم. ودعاهم للمغادرة؛ حتى لا يندموا. كما دعا المناصرين المتعصبين مثله أن «يسمعوا من كل الأطراف».

- إصدارات قديمة
سبق إصدار «القاعدة»، إصدارات مرئية كثيرة لـ«داعش» لتأكيد البقاء، وأنه ما زال الأقوى على الأرض من «القاعدة» وتنظيمات الإرهاب الأخرى، إذ بث تنظيم «ولاية سيناء» الفرع المصري لـ«داعش» إصداراً مرئياً، عرض فيه لقطات مصورة، قال عنها: «إنها حديثة لاستهداف عربات ومدرعات وكمائن أمنية في شمال سيناء»... كما بث الفرع اليمني لـ«داعش» إصداراً مرئياً بعنوان «اثاقلتم إلى الأرض»، ضم عدداً من اللقطات القديمة، التي نشرتها المكاتب الإعلامية للتنظيم في سوريا والعراق، لما أسمته تطبيق الأحكام الشرعية داخل معاقل التنظيم... وسبق ذلك إصدار مرئي حمل اسم «صولات الموحدين 2» عن ما يسمى بالمكتب الإعلامي للبركة التابع لـ«داعش» كشف عن سعى التنظيم لتصدير صورة مشاركة عناصر نسائية مكشوفة الوجه في القتال ضد عناصر الجيش السوري؛ وذلك في محاولة من التنظيم لكسب وتجنيد عناصر جديدة من المتعاطفات معه.
تعليقاً، قال عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية: إن «(حرب الإصدارات) ما هي إلا إعلان حالة إفلاس بشكل كامل من كلا التنظيمين». بينما أكد رسمي عجلان، الباحث في شؤون الحركات المتطرفة، أن «(داعش) و(القاعدة) يحاولان إثبات وجودهما في ظل فشل كبير، والتنظيمان يحاولان تعويض ما فقداه من الشباب في العراق وسوريا وغيرهما من الدول».
وما زال «القاعدة» يُقدم نفسه على أنه في طليعة «القتال» ضد أميركا وروسيا وبريطانيا، وأصحاب منهج صحيح، على خلاف «داعش» الذي يصفه بـ«الغلاة».
ويرى مراقبون أن «كثيراً من الجماعات والتنظيمات الإرهابية التي تلقت تدريبات على يد عناصر (القاعدة)، انفصلت عن التنظيم خلال السنوات الماضية وانضمت إلى تنظيمات أخرى مثل (داعش)... ويسعى (القاعدة) لضم هؤلاء (الدواعش) عقب الهزائم التي لحقت بهم في سوريا والعراق خلال الأشهر الأخيرة.

- ما بين البغدادي والظواهري
الصراع بين «داعش» و«القاعدة» ليس فقط في الإصدارات؛ بل تلاسن غير ظاهر من وقت إلى آخر بين قيادات التنظيمين، ففي أغسطس (آب) الماضي، بث زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي إصداراً مرئياً عبر «أعماق» حث فيه أتباعه على العنف والقتل... وبعده ظهر أيمن الظواهري زعيم «القاعدة» في إصدار مرئي آخر محاولاً إثبات وجود تنظيمه على الساحة، بدعوته المسلمين بالتوحد معه لمواجهة الإرهاب – على حد زعمه.
كما ظهر الظواهري في أبريل (نيسان) 2018 في إصدار «بُشرى النصر لأهلنا في مصر»، حاول من خلاله استمالة شباب تنظيم «الإخوان»، والأحزاب الإسلامية للانضمام إلى التنظيم... وسبقه إصدار بثه «داعش» حمل اسم «حماة الشريعة» شن هجوماً على الأحزاب الإسلامية في مصر؛ لكنه داعب حينها شباب «الإخوان».
وقال عجلان: إن «طبيعة التيارات والجماعات المتشددة حدوث تشظٍ وصراعات داخلية بينها تحت لافتات التكفير المُتبادل؛ فـ(داعش) كان تطوراً طبيعياً لـ(القاعدة)».
وأكد المراقبون، أن «مصطلح (العائدين) من (داعش) شهد تغيراً كبيراً بعد هزيمة التنظيم في سوريا والعراق؛ فقد كان يُطلق في البداية - قبل هزيمة التنظيم - على بعض المنضمين إليه ممن خُدعوا بدعايته، ثم سرعان ما اكتشفوا - بعد انضمامهم إليه - أن الأوضاع على أرض الواقع تختلف اختلافاً جذرياً عما يروجه التنظيم؛ لذا قرروا تركه والعودة إلى بلادهم... وبعد هزيمة التنظيم أصبح المصطلح يحمل معنى مغايرا تماماً؛ إذ لا يمكن الجزم بما إذا كان هؤلاء (العائدون) لا يزالون يحملون الفكر الداعشي أم لا؟، وقد أعربت الكثير من حكومات الدول الغربية عن خوفها الشديد من هؤلاء».

- مواقع التواصل
من جهته، قال الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، مدير مرصد الفتاوى التكفيرية بدار الافتاء المصرية: إن «هناك تخوُفاً آخر يظهر في الأفق، وهو احتمالية الانتقال لهؤلاء (العائدين) بين التنظيمات التكفيرية والإرهابية، كما هو الحال بين (القاعدة) و(داعش)، وبخاصة مع أفول نجم (داعش)، وبروز تنظيم (القاعدة) وإعادة لملمة صفوفه وتنظيم قوته».
ويستغل «داعش» و«القاعدة» شبكات الإنترنت لبث ونشر الإصدارات المختلفة على نطاق أوسع. وفي دراسة لدار الافتاء المصرية أشارت إلى أن «التنظيمات المتطرفة توسعت في استخدام شبكات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي باعتبارها ملاذاً آمناً، لبث أفكارهم المتطرفة ولتنفيذ مشروعها الآيديولوجي».
الدراسة، التي جاءت بعنوان «استراتيجيات وآيديولوجيات الجماعات الإرهابية في تجنيد الشباب عبر الإنترنت»، أعدها مرصد الفتاوى، أكدت أن «شبكات ومواقع ومنصات التواصل الاجتماعي تمثل جامعة إلكترونية لإعداد وتجنيد (الذئاب المنفردة) أو (الانفراديين)، وأداة خصبة لنشر أفكارهم المتطرفة، حيث تقوم تلك التيارات بتصنيف مواقع التواصل وفق استخدامه المناسب».
وصنفت دراسة الإفتاء مواقع التواصل وفق استغلال «داعش»، حيث أكدت أن «(فيسبوك) يساعد التنظيم في تجنيد (الذئاب المنفردة) بسهولة عبر استدراج الشباب وتجنيدهم بطريقة غير مباشرة... أما (تويتر) فيستخدم لنشر الأخبار الترويجية للأفكار المتطرفة... و(تليغرام) للمساهمة في نشر أدبيات التنظيم وكتاباته وروابط تقاريره المصورة والمرئية لترويج نجاحه المزيف في ساحات القتال... في حين يستغل التنظيم قنوات (يوتيوب) لتمكين مشاركيه من تحميل الفيديوهات قبل الحذف».


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.