تمدد أحزاب اليمين يثير القلق على المشروع الأوروبي

ترفع شعارات التفوق العرقي وكره الأجانب والعداء للمسلمين

نائب رئيس الحكومة الإيطالي ماتيو سالفيني (الثاني من اليمين) وإلى يمينه فيكتور أوربان رئيس حكومة هنغاريا  عند سياج أقيم على حدود هنغاريا مع صربيا لمنع اللاجئين من العبور (أ.ف.ب)
نائب رئيس الحكومة الإيطالي ماتيو سالفيني (الثاني من اليمين) وإلى يمينه فيكتور أوربان رئيس حكومة هنغاريا عند سياج أقيم على حدود هنغاريا مع صربيا لمنع اللاجئين من العبور (أ.ف.ب)
TT

تمدد أحزاب اليمين يثير القلق على المشروع الأوروبي

نائب رئيس الحكومة الإيطالي ماتيو سالفيني (الثاني من اليمين) وإلى يمينه فيكتور أوربان رئيس حكومة هنغاريا  عند سياج أقيم على حدود هنغاريا مع صربيا لمنع اللاجئين من العبور (أ.ف.ب)
نائب رئيس الحكومة الإيطالي ماتيو سالفيني (الثاني من اليمين) وإلى يمينه فيكتور أوربان رئيس حكومة هنغاريا عند سياج أقيم على حدود هنغاريا مع صربيا لمنع اللاجئين من العبور (أ.ف.ب)

بينما تستعد دول الاتحاد الأوروبي لانتخابات مفصلية لاختيار أعضاء البرلمان الأوروبي، تتعزز المخاوف من نمو التيارات اليمينية في هذه الدول، التي باتت تشكل في عدد منها قوة وازنة، لقادتها نفوذ متصاعد على القرار السياسي. ومبعث المخاوف يعود إلى اصطدام الأفكار التي تحملها هذه التيارات الشعبوية، والقائمة على نزعة الانفصال، والرافعة شعار «بلادي أولاً»، مع المشروع الأوروبي، وهو في أساسه مشروع اندماجي. وفي مقدمة الأسماء التي تتبنى هذه الأفكار كل من فيكتور أوربان، رئيس حكومة هنغاريا، وماتيو سالفيني نائب رئيس الحكومة ووزير الداخلية الإيطالي، وقد قامت شعبية الرجلين على موجة عداء للمهاجرين، وحملات عنصرية للدفاع عما يسمونها «الهوية الأوروبية». تضاف إلى ذلك حملات الداعين إلى «بريكست» في بريطانيا، وهذه قصة لها مجال آخر.
هنا رصد لأبرز التيارات اليمينية من بلدان أساسية في الاتحاد الأوروبي: إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا.

في مثل هذا الأيام منذ أربعين عاماً، بالضبط، توجّه الأوروبيّون لأول مرة في تاريخهم لانتخاب أعضاء البرلمان الأوروبي، الذي يحدّد توزيعُ المقاعد فيه معادلة التوازن بين العائلات السياسية في المؤسسات التنفيذية للاتحاد. منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، استقرّت هذه المعادلة على توازن ثنائي بين المحافظين والتقدّميين، بأطيافهما، ترجح كفّته بين الحين والآخر، في هذا الاتجاه أو ذاك، حسب التحالفات الظرفيّة مع الليبراليين و«الخُضر» وبعض الكتل الأخرى الصغيرة.
لكن الانتخابات التي ستُجرى بين 23 و26 من شهر مايو (أيار) الحالي من شأنها أن تقوّض هذه المعادلة بتشكيل كتلة ثالثة وازنة، للمرة الأولى، في الهيئة التشريعية للاتحاد الأوروبي، هي كتلة الأحزاب والقوى الشعبويّة واليمينية المتطرفة التي تجاهر علناً بعزمها تفريغ المشروع الأوروبي من مضمونه الاجتماعي والسياسي، وإعادة القرارات السياديّة إلى الحكومات الوطنية. وهو المضمون الذي جعل من الاتحاد الأوروبي، رغم عثراته في السنوات الأخيرة، أنجح مشروع اندماجي في التاريخ، ومن بلدانه الأعضاء المنطقة الأكثر تقدّماً على الصعيدين السياسي والاقتصادي في العالم.
التمدّد اليميني المتطرّف لم يعد مجرّد فكرة تحوم من بعيد في فضاء التاريخ الأوروبي الحديث، بل حقبة تعود بقوّة إلى المشهد السياسي لتوقظ الأشباح والكوابيس التي قام المشروع الأوروبي أساساً لوأدها. ولا يقتصر هذا التمدّد على القارة الأوروبية فحسب، بل يظهر بقوّة أيضاً في الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، يرفع شعارات التفوّق العرقي وكره الأجانب ومعاداة المسلمين، رافضاً التمازج الثقافي والتعددية، ومتمرّداً على منظومة القواعد والاتفاقات والتشريعات التي يقوم عليها القانون الدولي، وتندرج في إطارها العلاقات بين الدول منذ منتصف القرن الماضي.
إنها «الوجوه الجديدة لليمين»، كما سماها المؤرخ الإيطالي إنزو ترافرسو، في مؤلف بالعنوان نفسه صادر عن جامعة هارفرد، يستعرض فيه المشارب المتعددة لهذه القوى التي تخلّى معظمها عن صفة الحزب، ويبيّن التباينات العميقة أحياناً في جذورها وظروف نشأتها. لكنه يجزم في خلاصة مؤلفه الطويل أن القواسم المشتركة بينها هي التي ستمدّها في نهاية المطاف بمحفزّات التقارب والنسغ اللازم للتحالف من أجل رسم معالم نظام دولي جديد؛ يؤكد أنه في طور التشكّل.
وتفيد آخر الاستطلاعات بأن القوى اليمينية المتطرفة، مجتمعة، يمكن أن تشكّل الكتلة الثالثة في البرلمان الأوروبي على مسافة قصيرة جداً من الكتلة التقدميّة التي ستحتفظ بالمركز الثاني بعد الكتلة الشعبية المحافظة التي تبقى «الديمقراطية المسيحية في ألمانيا» نواتها الأساسية. لكن أحزاب اليمين المتشدد في بلدان الشرق الأوروبي، خصوصاً في المجر وبولندا، لم تكشف بعد عن أوراق تحالفاتها المحتملة بعد الانتخابات، وثمّة شكوك في أنها قد تنشقّ عن الكتلة الشعبية لتشكيل الجبهة اليمينية المتطرفة التي تتطلّع إليها كل الأحزاب «السياديّة» لتغيير مسار المشروع الأوروبي ومضمونه السياسي والاجتماعي.
رأس الحربة للمشروع اليميني المتطرف في الاتحاد الأوروبي، الذي يحظى بدعم علني وتمويل من المحافظين المتشددين في الولايات المتحدة وروسيا، هو حزب «الرابطة» الإيطالي الذي يتزعمه نائب رئيس الحكومة ووزير الداخلية ماتّيو سالفيني، الذي يرجّح أن يصبح القوة السياسية الأولى في إيطاليا بنسبة تأييد تزيد عن 30 في المائة، بعد أن كانت شعبيته لا تتجاوز 9 في المائة، قبل الانتخابات العامة الأخيرة التي حصل فيها على 17 في المائة من الأصوات تأييداً لبرنامجه المتطرف في مكافحة الهجرة.
لكن المخاوف من هذا الصعود السريع لليمين المتطرف في إيطاليا ليست مقصورة على تأثيره في توازن القوى داخل البرلمان الأوروبي وتداعياته السياسية المحتملة على الاتحاد، في حال وصول سالفيني إلى رئاسة الحكومة، وهو أمر بات شبه محتوم في ضوء الاستطلاعات ونتائج الانتخابات الأخيرة. لا ينسى أحد أن إيطاليا كانت مهد العقيدة الفاشيّة التي سبقت الفكر النازي، وأسّست لحركات نهلت من مبادئها في المحيط الأوروبي بقي بعضها نشطاً وحاكماً، كما في إسبانيا والبرتغال، حتى سبعينيات القرن الماضي. وليس من باب الصدفة أن يكون المنظّر اليميني المتطرف ستيف بانون، الذي كان المستشار الاستراتيجي لدونالد ترمب خلال حملته الانتخابية والأشهر الأولى من ولايته، يعتبر أن «إيطاليا اليوم هي مركز العالم»، وأن سالفيني هو «رائد المشروع التحوّلي في الغرب» الذي أقام لأجله، في دير إيطالي من القرن الثاني عشر، مركزاً عالمياً لتأهيل القيادات ومساعدة الأحزاب اليمينية المتطرفة في نشاطها وحملاتها الانتخابية.
الانتخابات الإسبانية الأخيرة التي حملت اليمين المتطرف إلى البرلمان، للمرة الأولى منذ وفاة الجنرال فرنكو، كانت واعدة جداً بالنسبة لمشروع سالفيني واستراتيجية بانون. فالنتيجة التي حصل عليها حزب «فوكس» قد لا تخوّله أن يلعب دوراً وازناً في تشكيل الحكومة الإسبانية الجديدة، لكن حصوله على 2.6 مليون من الأصوات تشكّل 11 في المائة من مجموع الناخبين في أوّل ظهور له على المشهد السياسي الوطني في إسبانيا، هو مؤشر واضح على أن الرياح تجري بما تشتهي سفن الفكر السياسي الذي يستيقظ من جديد على القارة الأوروبية، والذي بدأ يخرج عن إطار المختبرات الاجتماعية الضيّقة والمتفرّقة، ليصبح شريكاً أساسياً في الحوار مع النخب الصناعية والمالية والمراكز الاقتصادية والكبرى.
في فبراير (شباط) من عام 1933، بعد أن ترسّخ حضور الحزب النازي في برلمان ألمانيا، التي كانت تعاني من أزمة اقتصادية وسياسية حادة، اجتمع هتلر في مبنى «الرايشتاغ» برؤساء الشركات الألمانية الكبرى الذين تعهدوا بدعمه ومدّه بمساعدات مالية ضخمة من أجل «قيام نظام جديد يعيد الاستقرار، ويوفّر الهدوء والانضباط لتسيير العجلة الاقتصادية نحو النمو»، كما جاء في مذكّرات مدير شركة «سيمنس». وما حصل بعد ذلك، نعرفه جميعاً.



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري