ظهرت بوادر إنجاز صفقة مقايضة روسية - تركية تحت غطاء ناري من الطرفين تتضمن توغل أنقرة وحلفائها السوريين في «الجيب الكردي» شمال حلب مقابل تمدد موسكو وحلفائها السوريين والإيرانيين في جنوب إدلب ضمن «مثلث الشمال» شمال غربي سوريا.
ولا يمكن فصل مصير ريف حلب الشمالي عن إدلب والأرياف الثلاثة المجاورة بين «ضامني» عملية آستانة (روسيا، وإيران، وتركيا)، عن المفاوضات بين واشنطن وأنقرة حول إقامة «منطقة أمنية» بين نهري الفرات ودجلة شمال شرقي سوريا، التي تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركا.
تل رفعت وجوارها
تفصل تل رفعت مناطق سيطرة «درع الفرات» و«غصن الزيتون» التي تضم فصائل سورية مدعومة من الجيش التركي تنتشر بين جرابلس والباب في الشمال، عن مناطق «حزب الله» وفصائل تدعمها إيران في بلدتي نبل والزهراء في الغرب، ومناطق تنتشر فيها قوات الحكومة السورية والشرطة العسكرية الروسية في الجنوب. وسعت أنقرة أكثر من مرة للحصول على «ضوء أخضر» روسي للتوغل في هذه المنطقة لإخراج كامل لـ«وحدات حماية الشعب» الكردية المنضوية في «قوات سوريا الديمقراطية» من الريف الشمالي لحلب. كما واصلت المفاوضات مع واشنطن لتطبيق خريطة طريق تخص منبج تتضمن إخراج «الوحدات»، وتشكيل مجلس محلي جديد للمدينة.
الهم الرسمي التركي هو اتخاذ خطوات ملموسة لتقطيع أوصال «روج افا» (غرب كردستان) ومنع حدوث إقليم كردي مترابط. الخطوة الأولى حدثت في نهاية 2016، عندما أبرمت صفقة مع روسيا أسفرت عملياً عن عودة قوات الحكومة السورية إلى شرق حلب ودخول فصائل معارضة والجيش التركي إلى مناطق «درع الفرات». أدى ذلك، إلى فصل مناطق كردية شرق الفرات عن غرب النهر. الخطوة الثانية، حصلت في بداية 2018، وتضمنت دخول الجيش التركي إلى عفرين وسماح روسيا له باستخدام الطائرات الحربية. وأدت هذه الخطوة إلى منع وصول الأكراد إلى البحر المتوسط.
المرحلة الثالثة، يبدو أنها تجري حالياً. وهي تقطيع أوصال الجيوب ومناطق السيطرة الكردية شمال حلب. هل يتضمن هذا تسهيل تركيا دخول قوات الحكومة وروسيا وإيران إلى مناطق في إدلب؟
«مثلث الشمال»
يخضع «مثلث الشمال» الذي يضم إدلب وأرياف: حلب الغربي، وحماة الشمالي، واللاذقية الشرقي، لاتفاق روسي - تركي منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. وتضمن وقف العمليات الهجومية والقضاء على المجموعات الإرهابية وإعادة تشغيل طريقين دوليين بين اللاذقية وحلب وبين حماة وحلب.
حافظ الاتفاق على صموده رغم خروق كثيرة. وجرى تشكيل «منطقة عازلة»، إضافة إلى نشر 12 نقطة مراقبة تركية ونقاط مراقبة روسية وإيرانية تفصل مناطق فصائل معارضة وإسلامية ومتطرفة عن قوات الحكومة وتنظيمات تدعمها طهران. وفي مارس (آذار) الماضي، قالت وزارة الدفاع إن القوات التركية والروسية قامت بأول دوريات «مستقلة ومنسقة» في منطقة تل رفعت ودوريات أخرى على جانبي «خط الفصل» في ريف إدلب.
وبعد مئات الغارات و«البراميل» في الأيام الماضية، وصلت تعزيزات قوات الحكومة إلى 3 محاور: اللطامنة وكفرزيتا وكفرنبودة شمال حماة، وجورين في سهل الغاب، وجسر الشغور غرب إدلب. وقال قيادي لوكالة الأنباء الألمانية إن «التعزيزات العسكرية التي أرسلتها القوات الحكومية إلى حماة وإدلب هي الأكبر، حيث تم نقل الآلاف من الجنود والآليات العسكرية من مناطق درعا وريف دمشق وحمص إلى خطوط الجبهات».
وخلال القصف تعرضت نقطة مراقبة للجيش التركي غرب حماة لقصف سوري مساء أول من أمس. وعلى غير العادة، سحبت أنقرة عناصرها من هذه النقطة بعدما أرسلت مروحيات وطائرة مقاتلة لحمايتها تحت غطاء جوي روسي (علما ان تركيا لم تعلن ذلك رسميا بعد). بالتزامن مع ذلك، سيطر «الجيش الوطني» التابع للمعارضة والمدعوم من تركيا على بلدة المالكية وقريتي شوارغة والأرز شمال حلب، وطرد «الوحدات» الكردية منها، ضمن خطة لـ«إخراج (الوحدات) من القرى المحيطة بطريق (عزاز) عفرين في ريف حلب الشمالي وصولاً إلى مدينة تل رفعت والمناطق الخاضعة لسيطرة (الوحدات) الكردية».
مقابل ذلك، هناك اعتقاد بأن العمل جار بين أنقرة وموسكو لعقد مقايضة تتضمن سيطرة القوات الحكومية على مناطق في منطقة «خفض التصعيد وتأمين طرق دمشق - حلب، وطريق حلب - اللاذقية، وطرق حلب - أعزاز». ويعتقد أيضاً أن المرحلة الأولى تتضمن سيطرة حلفاء روسيا على جيب قرب جسر الشغور، ينتشر فيه عناصر «حراس الدين» و«الجيش التركستاني الإسلامي»، مما يعني حماية قاعدة حميميم الروسية، مع احتمال ترك مصير «جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام)» لمرحلة لاحقة تتضمن مزيداً من التفاهمات بين موسكو وأنقرة، إضافة إلى مناطق سيطرة شمال حلب وشرق سكة الحديد بين حلب ووسط البلاد.
شرق الفرات
لم يتفق ممثلو «المجموعة الصغيرة» في جنيف على بيان ضد هجوم موسكو ودمشق في إدلب. واكتفت واشنطن والاتحاد الأوروبي بدعوة روسيا إلى «عدم التصعيد» والتزام اتفاقها مع تركيا. لكن الحملة على «مثلث الشمال» تأتي في وقت تجري مفاوضات بين أنقرة وواشنطن تخص «المنطقة الأمنية» بين جرابلس وفش خابور، إضافة إلى ملفات استراتيجية بين روسيا وأميركا وتركيا تخص منظومتي «إس400» و«باترويت» و«إف35»، والعقوبات الأميركية على إيران و«تصفير صادرات النفط»، وعلاقة أنقرة مع «حلف شمال الأطلسي (ناتو)».
بالنسبة إلى «المنطقة الأمنية»، هناك مفاوضات شاقة يقودها المبعوث الأميركي جيمس جيفري. أنقرة تريد إقامة شريط بعمق 30 كيلومترا وعرض يتجاوز 400 كيلومتر على الحدود السورية - التركية، يكون خالياً من «الوحدات» وتحت سيطرت أنقرة البرية والجوية مع نشر مقاتلين عرب موالين لها كما هي الحال في «درع الفرات». واشنطن، التي تبحث عن ترتيبات عسكرية بعد خفض عدد قواتها، مستعدة لإقامة المنطقة، لكنها لم تستطع الحصول على إخراج «الوحدات»، خصوصاً بسبب وجود مدن ذات غالبية كردية، وتقترح إخراج المقاتلين الأكراد غير السوريين ودعم مفاوضات بين أنقرة و«حزب العمال الكردستاني».
وإذ دعمت واشنطن عقد مؤتمر للعشائر العربية برعاية «قوات سوريا الديمقراطية» شرق الفرات لتخفيف التوتر العربي - الكردي، وجهت دمشق وموسكو انتقادات حادة له بوصفه «اجتماع خيانة» ويدعم «حلاً انفصالياً»، فيما قامت تركيا بعقد مؤتمرها الخاص للعشائر العربية، بهدف توفير حامل عربي لـ«المنطقة الأمنية». يبدو جلياً ترابط مصائر الجيوب الثلاثة. ولا شك في أن صلابة تفاهمات موسكو وأنقرة في تل رفعت وإدلب، ستنعكس تعاوناً مستقبلياً شرق الفرات الخاضع لمذكرة تفاهم روسية - أميركية لـ«منع الاحتكاك» في الوقت الراهن، في وقت يبدو فيه مستقبل المنطقة مفتوحاً لترتيبات ما بعد الوجود الأميركي بشكله الجديد.