كتاب عربي جامع عن مؤسس علم النفس التحليلي

محمد عناني يستعرض سيرته وتطوره وانشقاقه على فرويد

كارل يونغ
كارل يونغ
TT

كتاب عربي جامع عن مؤسس علم النفس التحليلي

كارل يونغ
كارل يونغ

كانا فرسي رهان يجريان في النصف الأول من القرن العشرين في حلبة علم النفس. الهدف واحد، لكن الوسائل مختلفة. أما الهدف فهو سبر أغوار الطبيعة البشرية، فهم دوافعها ومحركاتها وآلياتها، استكشاف العالم الداخلي للإنسان، علاج ما يعتري العقل والنفس من أمراض واختلال: عصاب، ذهان، هرع (هيستيريا)، أوهام خادعة، فصام، وساوس، أفكار مستحوذة، خرف مبكر، هلاوس إلى آخر هذه الاضطرابات التي يمكن أن تحيل الحياة جحيماً للفرد ولمن حوله. لكن مناهج الرجلين اختلفت وانشعبت بهما السبل. أحدهما كان يركز اهتمامه على اللاوعي الفردي، والثاني يركزه على اللاوعي الجمعي. إنهما سيغموند فرويد (1856 - 1939) النمساوي مؤسس التحليل النفسي، وكارل جوستاف يونغ (1875 - 1961) السويسري مؤسس علم النفس التحليلي.
في هذا السباق كانت الغلبة لفرويد، «دكتور فيينا» كما كان يدعى. لقد اجتذب عدداً أكبر من الأنصار، وكان من صناع العقل الحديث إلى جانب داروين وماركس وآينشتاين، ودخلت أفكاره في نسيج الثقافة المعاصرة، بل في نسيج الحياة اليومية. لكن هذا لا يجب أن ينسينا إنجاز يونغ: لقد كان تأثيره تالياً مباشرة في المرتبة لتأثير فرويد. فإلى يونغ يرجع الفضل في شيوع مصطلحات نفسية على ألسنة العامة مثل مصطلح «عقدة» أو «مركب» complex، فضلاً عن التفرقة بين نمط الشخصية الانبساطية والشخصية الانطوائية، وتقديمه مفهوم «اللاوعي الجمعي» بعد أن اقتصر فرويد على اللاوعي الشخصي، والنظر إلى النفس على أنها نظام منظّم لذاته معبر عنه في عملية التفرد individuation.
لم يعدم يونغ من يهتم به في عالمنا العربي؛ فخلال القرن الماضي ترجم نهاد خياطة عدداً من كتبه: «علم النفس التحليلي»، «القوى الروحية وعلم النفس التحليلي (سر الزهرة الذهبية)» «الإله اليهودي: بحث في العلاقة بين الدين وعلم النفس» «البنية النفسية للإنسان». وترجم نبيل محسن «جدلية الوعي والأنا». وفي إطار المشروع القومي للترجمة بالقاهرة ترجم محيي الدين حسن كتاب «يونج» لناجي هيد.
واليوم يصدر عمل جليل يتوج هذه الجهود جميعاً، وينتقل بها إلى مرحلة أكثر عمقاً وأبعد مدى. إنه كتاب «علم النفس التحليلي عند كارل جوستاف يونج: دراسة ومعجم» (دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2019) في خمسمائة صفحة ونيف من وضع الدكتور محمد عناني، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، وعميد المترجمين من اللغة الإنجليزية وإليها في يومنا. وكتابه هذا يصدر بعد كتاب سابق له عن الفيلسوف الألماني هايدجر، وبذلك ينتقل عناني من حقل الأدب إلى حقلين معرفيين وثيقي الصلة به هما الفلسفة وعلم النفس.
يستعرض الكتاب سيرة حياة يونغ وتطوره الفكري وموقفه من التنويم المغناطيسي والتداعي الحر وتداعي الأفكار ورفضه مركبي أوديب وإلكترا، والنموذج العام للنفس عنده، والعلاقة بين الفطري والمكتسب، وفكرة البطولة والرموز، مردفاً ذلك بمعجم إنجليزي - عربي لأهم مصطلحات علم النفس التحليلي وقائمة بالأعمال الكاملة ليونغ وببليوجرافيا.
ويتوقف الكتاب عند ذلك الحدث المركزي في حياة يونغ المهنية، وهو انشقاقه على فرويد في 1913 وتطويره فكرة اللاوعي الجمعي المتبدي في الأحلام والرموز والأساطير والفلكلور والنماذج الفطرية الكبرى (ومن أمثلتها: الأم، الميلاد الجديد، الروح) والروحانية من لون جديد مناقض لمادية فرويد. لقد قال يونغ بوجود علاقة ديناميكية داخل كل منا بين شخصيات بديلة. وبدلاً من أن ينظر إلى العقل (كما فعل فرويد) على أنه معرض لآثار الكبت المدمرة، وإلى النفس على أنها ساحة معارك بين قوى الرغبة والضبط المتعارضة أشار إلى تلك الجوانب التي تتعايش فيها أنظمة النفس، وذلك في حالة الحب أو القنوط أو النشوة أو الحلم.
ولأن مؤلف الكتاب كاتب مسرحي وشاعر وروائي إلى جانب كونه أستاذاً وناقداً وباحثاً؛ فإننا نجد هنا – منتثرة في تضاعيف كتابه - ترجمات شعرية جميلة لمقتطفات من مسرحيتي شكسبير «هملت» و«مكبث» وقصائد لوردزورث وكولردج وشللي، وإشارات إلى قصائد «الخروج» لصلاح عبد الصبور، و«مذبحة القلعة» لأحمد عبد المعطي حجازي.
وترجمات عناني لمصطلحات علم النفس عند يونغ وفرويد وغيرهما آية في الدقة والإحكام، لكن هذا لا يمنع أن يختلف معه المرء في أمور. إني مثلاً لا أستحسن ترجمته كلمة inhibition إلى «كبح، منع من العمل» وأؤثر المصطلح الذي درج عليه مترجمون سابقون من أساتذة علم النفس وهو «كف». وهل ترجمة emotional إلى «عاطفي» هي الترجمة المثلى؟ أؤثر أن تترجم إلى «انفعالي» أو «وجداني» رغم إدراكي أن «عاطفي» هي الكلمة الشائعة بين أغلب مترجمينا وكتابنا. عندما أخرج جان بول سارتر في 1939 كتابه المسمى Esquisse d'une theorie des emotions فإنه لم يكن يرسم مخططاً لـ«العواطف» وإنما لـ«الانفعالات» بوصف الانفعال، من منظوره الوجودي، آلية دفاعية من آليات مواجهة مواقف الحياة. ويترجم عناني مصطلح elan vital في فلسفة برجسون إلى «الدافع الحيوي»، وأؤثر ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي، أستاذ الفلسفة الكبير، «السورة الحيوية» أو ترجمة كمال عبد الجواد – دارس الفلسفة - في ثلاثية نجيب محفوظ «وثبة الحياة». ليست هذه مسائل صواب أو خطأ فلترجمات عناني هنا وجه، بل وجوه من الصواب، لكن لكل مصطلح إلى جانب معناه الإشاري ظلال متدرجة من الإيحاءات فما يعنيه المصطلح لدى المترجم (أ) قد لا يكون مطابقاً تماماً لما يعنيه لدى المترجم (ب)، وإن اتفقا على لب معنى المصطلح. وهذه الفروق المتدرجة هي ما يحدد اختيارات المترجم، ولكل وجهة هو موليها.
كذلك، قد يكون لي أن أصوّب إيراد المؤلف لنص معادلة النسبية التي كانت عظيمة الخطر في العلم والحياة. لا تقول المعادلة: «المادة x مربع سرعة الضوء = طاقة» (ص 248) وإنما تقول:
«الكتلة» mass وليس «المادة» matter.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»
TT

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «أبريل الساحر» للكاتبة البريطانية إليزابيث فون أرنيم، التي وُصفت من جانب كبريات الصحف العالمية بأنها «نص مخادع وذكي وكوميدي». ومنذ صدورها عام 1922 تحولت إلى أحد أكثر الكتب مبيعاً واقتُبست للمسرح والإذاعة والسينما مرات عديدة.

تتناول الرواية التي قامت بترجمتها إيناس التركي قصة 4 نساء بريطانيات مختلفات تماماً هربن من كآبة لندن بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى قلعة إيطالية ساحرة في الريفيرا الإيطالية ليقضين إجازة الربيع. وبعد أن تهدهن روح البحر الأبيض المتوسط يتغيرن تدريجياً ويكتشفن الانسجام الذي تاقت إليه كل منهن، ولكن لم يعرفنه قط.

وتجيب الرواية بشكل مقنع عن السؤال الأبدي حول كيفية تحقيق السعادة في الحياة من خلال مفارقات الصداقة بين النساء والتمكين والحب المتجدد والعشق غير المتوقع. وصفتها صحيفة «الديلي تلغراف» بأنها «على مستوى ما، قد تُعد الرواية هروباً من الواقع، ولكن على مستوى آخر فهي مثال لتحرر الروح»، بينما رأت صحيفة «ميل أون صنداي» أنها تتضمن «وصفاً حسياً حالماً لأمجاد الربيع الإيطالي».

وتُعد إليزابيث فون أرنيم (1866-1941) إحدى أبرز الكاتبات الإنجليزيات واسمها الحقيقي ماري أنيت بوشامب، وهي ابنة عم الكاتبة كاثرين مانسيفيلد. ولدت في أستراليا لعائلة ثرية وتزوجت أرستقراطياً ألمانياً حفيداً للملك فريدرش فيلهلم الأول، ملك بروسيا، واستقرت مع زوجها في عزبة عائلته في بوميرانيا حيث ربيا 5 أطفال.

بعد وفاة زوجها كانت على علاقة عاطفية مع الكاتب المعروف هـ. ج. ويلز لمدة 3 سنوات، لكنها تزوجت بعدها فرانك راسل الأخ الأكبر للفيلسوف الحائز جائزة نوبل برتراند راسل لمدة 3 سنوات ثم انفصلا. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية انتقلت للإقامة في الولايات المتحدة حتى توفيت. زواجها الأول جعل لقبها «الكونتيسة فون أرنيم شلاجنتين»، أما زواجها الثاني فجعل اسمها إليزابيث راسل.

نشرت روايتها الأولى باسم مستعار ولكن مع النجاح الكبير لكتبها استخدمت اسم «إليزابيث فون أرنيم». أصدرت أكثر من 20 كتاباً وتُعد روايتها «أبريل الساحر» التي نُشرت عام 1922 من أكثر الكتب مبيعاً في كل من إنجلترا والولايات المتحدة ومن أحب أعمالها إلى القراء وأكثرها شهرة.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«بدأ الأمر في نادٍ نسائي في لندن بعد ظهيرة أحد أيام فبراير، نادٍ غير مريح وبعد ظهيرة بائسة عندما أتت السيدة ويلكنز من هامبستيد للتسوق وتناولت الغداء في ناديها. التقطت صحيفة (التايمز) من على الطاولة في غرفة التدخين وجرت بعينيها الخاملتين أسفل عمود مشكلات القراء ورأت الآتي:

(إلى أولئك الذين يقدرون الشمس المشرقة، قلعة إيطالية صغيرة من العصور الوسطى على شواطئ البحر الأبيض المتوسط للإيجار، مفروشة لشهر أبريل (نيسان) سوف يبقى الخدم الضروريون).

كانت هذه بداية الفكرة، ومع ذلك كما هو الحال بالنسبة إلى عديد من الأشخاص الآخرين، لم تكن صاحبتها على دراية بذلك في تلك اللحظة.

لم تكن السيدة ويلكنز مدركة قط أن كيفية قضائها شهر أبريل في ذلك العام قد تقررت في التو والحال إلى درجة أنها أسقطت الصحيفة بحركة غلب عليها الانزعاج والاستسلام في الوقت نفسه، وتوجهت نحو النافذة وحدقت في كآبة الشارع الذي تقطر به الأمطار».