«مراكش التي كانت»... ترميمٌ رمزي للمدينة الحمراء

مؤلف جماعي بمشاركة 33 من أدباء مراكش ومبدعيها

«مراكش التي كانت»... ترميمٌ رمزي للمدينة الحمراء
TT

«مراكش التي كانت»... ترميمٌ رمزي للمدينة الحمراء

«مراكش التي كانت»... ترميمٌ رمزي للمدينة الحمراء

«المدن رائحة»، كتب محمود درويش في كتابه «في حضرة الغياب»، مشددا على أن «كل مدينة لا تُعرفُ من رائحتها لا يُعوَّل على ذكراها».
«المدن مثل الكتب»، يكتب ياسين عدنان في تقديمه لـ«مراكش التي كانت»، الكتاب الجماعي الذي يقترح علينا «ترميمات» في «استعادة مراكش الدارسة»، الصادر عن «منشورات مرسم» بالرباط، وشارك فيه 33 كاتبا، راود كل واحد منهم ذاكرته عن مخزونها وبدأ لعبة الاسترجاع متذكراً بعض معالم المدينة الحمراء.
يرى ياسين عدنان، في تقديمه الذي حمل عنوان «عن ترميم المدينة، وتطريس الكتاب»، أن المدن «متونٌ مخطوطة بحبرٍ سمْحٍ يجعلها لا تتبرّم من الحواشي، ولا تزعجها تعليقات القرّاء على الهوامش»، وبالتالي فهي «كتبٌ مفتوحة للقراءة المُتفاعلة، للإضافة وللتعليق، للاستطراد والحشو، كما للشطب والتنقيح والمحو»؛ قبل أن يتحدث عن مراكش، فيقول: «كانت كتاباً فاتناً مهيباً كلما فتحتُ دفتيه أجدني أقرأ فأعيد وأستزيد. مراكش متنٌ أصيلٌ لا تُرهِقُه الهوامش والحواشي ولا يشبع من الشروح والتعاليق».
ويضيف عدنان، الذي استدرج فيه عدنان أصدقاء للمشاركة في عملية ترميمٌ رمزي للمدينة: «نحن مجرد أدباء بالنهاية، لا قدرة لنا على التدخل الحازم والحاسم لحماية هذه الصفحة أو تلك من المحو، أو لإيقاف هذا المتعسِّف أو ذاك ومنعه من ارتجال تطريسه الشنيع في هذا الموضع أو ذاك من المدينة - الطرس. لذلك اخترنا أن ننبِّه بشكل جماعي إلى أنّ مدينتنا، وهي تكبر وتتجدّد، فقدَت الكثير من معالمها، وكثيرا ما حلّت محلّ هذه المعالم بناياتٌ فظّة تُخاصِم الجمال وتخون روح الحاضرة وتناقض خصوصيتها المعمارية».
وكتب أحمد بلحاج آيت وارهام، تحت عنوان «مقهى السوربون... جامعة في قلب جامع الفنا»، أن «مراكش هذه الحاضرة التي كانت فكرة ومثالا في وجدان الأميرة الأغماتية زينب النفزاوية، وتجسدت حقيقة عمرانية حضارية على يد يوسف بن تاشفين، موشومة بالأبهة العلمية والروحية والأسطورية والإنسانية، هي اليوم تعاني تحولات ماسخة، وجراحا لاهبة، وبهرجة معتمة في كثير من أعضاء جسدها الحميمة، وفضاءاتها الحاضنة لروح الإنسان وجوهره».
من جهته، استعاد رشيد منسوم جانبا من طفولته، في نص تحت عنوان «جامع الفنا... غابة السرد»، يقول فيه: «كانت جامع الفنا نهاية السباق والجغرافيا في آن. صورة معكوسة للجنّة في آخر العالم سوّاها العابرون. هناك، نتحلق حول نار الحكاية لنستعيد دهشة لحظة التكوين. كانت الساحة مفترقا للطرق تقود إليه معظم الأحياء المراكشية عبر ممرات، أقواس ودروب ضيقة بكل ما تحمله الكلمة من دلالات أسطورية ملغزة. (...) أين تبدأ الساحة وأين تنتهي؟ (...) كانت الحلقة مرآة مقعرة تعكس تلك السخرية اللاذعة التي تستهوينا. فغالبا ما تعشق الشعوب من يعرّي هشاشتها».
وتحت عنوان «مكتبة الوفاء... كتب ونقانق»، كتب عبد الصمد الكباص: «حل عقد التسعينات من القرن العشرين. فتشابهت أيامنا. وصرنا نختزل العالم في دفتر إلكتروني. وفتح التلفزيون في جباهنا عينا ثالثة للعماء: لا ظل ولا حركة ولا دهشة. فأغلقت مكتبة الوفاء، بعد أن انفض حشد القراء من حول الكِتاب، وتحولت إلى مطعم للفاصولياء والعدس وأحشاء الغنم. وتحولت سلسلة المكتبات الصغيرة الموجودة بطريق سيدي عبد العزيز إلى محلات لبيع النقانق والأواني البلاستيكية ومنتوجات الصين الرخيصة، وتوسلت مكتبة الشعب الكتب السياحية للحفاظ على وجودها، وطرد الكتبيون قبل ذلك من جامع الفنا وشردوا في صحبة الموتى بمقبرة سيدي غريب قبل أن يدفنوا في سوق الازدهار بباب دكالة، ومات جلهم أسى على ما ألم بهم وبالكِتاب. وتحولت مكتبة الجامعة بالرميلة إلى وكالة بنكية، واستحالت مكتبة الوعي إلى متجر كبير، وتمددت مراكش خارج حدودها صناديق إسمنتية بلا روح. وتناسل الكُتاب وانقرض القراء... وغدا جيلنا الذي كان يفتخر بالصباحات المراكشية الجميلة التي تليق بقصيدة عذبة وقهوة أرابيكا وأغنية لفيروز، منفيا في مقاه يملأها صياح معلقي مقابلات البارسا والريال».
واختار سعد سرحان أن يكتب عن «مقهى الزهور»، حيث نقرأ: «في الدليل الأزرق لمدينة مراكش، كان السائح، حتى ثمانينات القرن الماضي، يجد الساحة والصومعة، الصهريج والعرصة، المتحف والفندق، الجبل والوادي، القصور والقبور... ومقهى الزهور. أما الأجانب المقيمون، ومعظمهم من ذوي اللسان الفرنسي، أولئك الذين كانوا متعاونين أو متعاقدين مع قطاعي الصحة والتعليم على الخصوص، فلم يكونوا في حاجة إلى دليل من أي لون، ليس فقط لأن ضالتهم كانت في مكان معلوم، بل أيضا لأن دليلهم الفصيح إلى مقهى الزهور كان عبارة عن باقات زهور من مختلف الألوان والروائح، تلك التي كانت تُعرض كل صباح عند أبواب السوق المركزية، الجار الأنيق للمقهى ولعل الشَّعر الأشقر وعُجْمة اللسان واللباس الجريء لرواد الزهور من مختلف الجنسيات، ما كان يعطي لزبائنه المغاربة الإحساس بوضعهم المتقدم. فهم، وبلا تأشيرة تشهر، كانوا يشاطرون النصارى حداثة المكان، ويأخذون عنهم غير ما تقليد».
وفيما كتب جمال أماش، تحت عنوان «عرصات مراكش... جنائن يتهددها الغبار»، عن الطيور التي لا تغادر أعشاشها، إلا مرغمة، إلى بيت في قصيدة أو إلى جنائن يتهددها الغبار، ختم محمد آيت العميم، تحت عنوان: «ساقية دوار العسكر... الماء لن يجري فيها ثانية»، بالقول: «بعد أن ضج حيّنا بالبشر وبالسيارات ولم يعد حيا هادئا ولا محدودا إذ نبتت في أحراشه أحياء وأحياء مكدسة بالبشر والحجر، وطمست الساقية وفوقها الإسفلت ولم يعد يذكرها إلا الذين كبروا معها، تحولت المزارع والضيعات إلى منازل وبيوت تكاد تخنق ذاكرة البصر؛ وجعل الجشعون من الإسمنت كل شيء ميتا».
أما محمد الصالحي، فنقرأ له تحت عنوان: «مكتبة عليلي... تعال أيها الصديق، وانظر»: «إلهي. لو أستطيع. لأعدت كل شيء إلى حاله. إلى طبعه. إلى طبيعته. أثير زوبعة سريعة. أطفئ الشمس قليلا. أجعل للمساء بابا مواربة. أنبت نباتا وحشيا على مقربة. أجري ريحا. (..) حينما فاتحني الصديق ياسين عدنان في أمر الكتاب، وأنا في مراكش، قدرا وصدفة، رحت هناك، إلى حيث «مكتبة عليلي». إلى حيث «مقهى النخلة». يا الله! المكتبة صارت مطعما رخيصا. عدس. فاصولياء. بخار. أدخنة. تدافُعُ سابلة. كؤوس شاي. المقهى غير اسمه وكان اسمه بعضا كثيرا من بهائه. صار مزاحَما ومُزاحِما. مكتظا كحشر. تعال، أيها الصديق، وانظر».


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.