روبرت نوزك وسؤال العدالة

ينطلق من الحرية الفردية كمبدأ أولي للحق الإنساني

روبرت نوزك وسؤال العدالة
TT

روبرت نوزك وسؤال العدالة

روبرت نوزك وسؤال العدالة

لن تتضح صورة الجدل حول العدالة داخل الفلسفة السياسية الحديثة دون الحديث عن روبرت نوزك (1938 - 2002). نوزك كان أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة هارفارد وشكل مع زميله في هارفارد جون رولز قطبي الفلسفة السياسية الليبرالية. يمكن تصنيف نوزك في يمين المدرسة الليبرالية (Libertarian) «تحرري»، بينما يقع رولز في يسارها (Egalitarian) «مساواتي». بين الليبرالي اليميني نوزك والليبرالي اليساري رولز جدل طويل ومتشعب سأحاول في هذه الحلقة إلقاء الضوء على بعض جوانبه.
في البداية لا بد من ذكر أن كلا من نوزك ورولز ينتمون لمنهج فلسفي واحد وهو المنهج التحليلي. المنهجية التحليلية قائمة على المحاجات الدقيقة والواضحة. معايير المحاججة الأفضل داخل هذه المدرسة يمكن إجمالها في التالي: الاتساق المنطقي، حل المشكلة ذات العلاقة، الواقعية، الوضوح والدقة، وأخيرا تجنب المصادرات والافتراضات التي لا يمكن البرهنة عليها قدر الإمكان. نقطة اتفاق أخرى بين نوزك ورولز هي أنهما ينتميان لمدرسة العقد الاجتماعي. بمعنى أنهما ينظران لسلطة الدولة على أنها نتيجة لعقد اجتماعي بين جماعة من الناس وأن هذا العقد هو ما يجعل هذه السلطة شرعية. الخلاف سينتج حول الاشتراطات التي ستجعل هذا العقد عادلا.
نوزك فيلسوف تحرري بمعنى أن ينطلق من الحرية الفردية كمبدأ أولي للحق الإنساني. هذه النقطة يتفق فيها مع رولز، ولكن الخلاف يأتي حول منظور العدالة تجاه توزيع الثروات والممتلكات. رولز ينطلق من مبدأ إخضاع توزيع الثروات العامة والمناصب الرسمية لمبادئ العدالة ونوزك ينطلق من مفهوم استحقاق التملك. أي أن حق التملك داخل ضمن حرية الفرد الأساسية وأن هذا الحق لا يمكن اختراقه أو التجاوز عليه. يضع نوزك ثلاثة مبادئ لنظريته في العدالة: نظرية الاستحقاق.
أولا: مبدأ التملك: وهو أن الشخص يستحق امتلاك ما تحصل عليه بشكل عادل.
ثانيا: مبدأ التحويل: وهو أن الشخص يستحق امتلاك ما تحصل عليه بناء على تحويل من شخص كان قد تحصل عليه بشكل عادل (نقل الملكية من شخص لشخص آخر).
ثالثا: لا يوجد استحقاق للتملك غير ما يتحقق بالمبدأ الأول والمبدأ الثاني.
النظرية السابقة تجعل من فرض الضرائب لغير غرض حفظ أملاك الأفراد عملية غير شرعية. وهنا يأتي تصور نوزك لدولة في أصغر حد ممكن. أي الدولة التي تشرف فقط على تطبيق العقود بين الناس وتحفظ الأمن لا أكثر. الدولة هنا لا يحق لها فرض ضرائب لتوفير خدمات صحية أو تعليمية أو أي شيء آخر. كل هذه الأمور تترك للناس يقومون بها بحسب توافقهم الحر. هنا ليس لأحد فرض ضريبة على الآخرين لأغراض من هذا النوع. كل عمل اجتماعي يجري طوعا واختيارا. لا بد هنا من التأكيد أن نوزك ليس ضد مساعدة الأغنياء للفقراء، ولكنه ضد أن تفرض هذه المساعدة على الأغنياء.
بحسب نوزك «الحرية تزعج السياقات» بمعنى أننا حين ننطلق من مبدأ الحرية الفردية، فإننا يجب أن نرفض أن نخضع المستقبل لسياقات ثابتة. الحرية تعني أن يتحرك المجتمع في اتجاهات مختلفة وغير متوقعة. حين تفرض الدولة ضرائب تعيد من خلالها توزيع المصادر داخل المجتمع فإنها تفرض على هذا المجتمع الحركة في سياقات ثابتة تتعارض مع حرية الأفراد ومع حقهم في التملك. بالنسبة لنوزك يحتاج المجتمع فقط البداية من نقطة عادلة ثم تترك له حرية الحركة من دون تدخل الدولة. مثلا يعطى كل فرد في المجتمع قطعة أرض أو مبلغا من المال بالطريقة التي يتفق الناس على أنها عادلة. بعد ذلك من الطبيعي أن يختلف الناس في التصرف في ممتلكاتهم وسيتفاوتون في الغنى والفقر بحسب قدرتهم على إدارة ممتلكاتهم. هنا نحن أمام قرارات فردية حرة يتحمل الناس مسؤوليتها وليس هناك مبرر للدولة تأخذ من خلاله أموالا من الأغنياء وتعطيها للفقراء. هذه المساعدات يفترض أن تطوعية واختيارية.
نظرية نوزك قد تبدو معقولة وربما عادلة إذا أخذنا المجتمع على أنه هذه الجماعة الموجودة حاليا، التي يمكن أن نوفر لها حالة انطلاق عادلة ثم نترك كلا يتصرف بحريته، ولكن هذه ليست كل الصورة. المجتمع يتكون من أجيال متتالية تؤثر قرارات كل فرد فيمن سيأتي بعده. الناس الذين لم يجيدوا إدارة شؤونهم المالية وتحولوا إلى طبقة اقتصادية متأخرة سيؤثرون سلبا على فرص أولادهم. الأولاد هنا سيتأثرون سلبا بقرارات اتخذها آخرون وليس من العدل تركهم في هذه الظروف فقط لأن أهاليهم اتخذوا قرارات معينة. الأولاد على الأقل يستحقون فرصا مثل تلك التي تحققهم لأهاليهم. إذا وافق نوزك على أن الأولاد يستحقون أيضا تعويضات تجعلهم يبدأون من نقطة عادلة فإننا هنا نحصل على نسق مستقر من التعويضات مع كل جيل لن تتحقق إلا بفرض نوع من التقسيم للمال العام قد يحتم فرض ضرائب على الأغنياء في حال عجز المال العام عن القيام بهذه المهمة.
قضية أخرى وهي أن عملية التملك ونقل الملكية والحرية الفردية تتحقق في سياق اجتماعي معين وهذا السياق لا يتحقق إلا بنوع من الشراكة والتعاون. حماية الملكية الفردية بكل أشكالها تتطلب نظاما اجتماعيا متوازنا. بمعنى أنه في حالة ارتفع الفارق بين الأغنياء والفقراء في مجتمع ما فإن الحفاظ على الممتلكات الخاصة للأغنياء سيكون أكثر صعوبة وأكثر خطرا. ليحافظ الأغنياء على ممتلكاتهم فإنهم مطالبون بالمشاركة في تكوين نظام اجتماعي يحافظ على توازن معين يحمي الناس من الاضطرار للعنف للحصول على ضروريات حياتهم. هذا التوازن من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن أن يترك للمشاركة الاختيارية والتطوعية. هذا الشرط الاجتماعي، أي أن الأفراد يعيشون بالضرورة في تواصل مع بعضهم هو ما يجعل من رولز يصر على توفير معادلة عادلة لهذا الاجتماع، بالإضافة إلى ما يطالب له نوزك من رعاية للحريات الفردية وحق التملك.



رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري... الراسخ في «مقدمة ابن خلدون»

يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
TT

رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري... الراسخ في «مقدمة ابن خلدون»

يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)

فقدت البحرين ودول الخليج العربية، اليوم الخميس، المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري، مستشارَ ملك البحرين للشؤون الثقافية والعلمية، أستاذ دراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، عميد كلية الدراسات العليا الأسبق بجامعة الخليج العربي، الذي وافته المنية بعد مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والعلمي.

يُعدُّ الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين، والخليج عموماً، وباحثاً مرموقاً في دراسات ونقد الفكر العربي، وقدَّم إسهامات نوعية في مجالات الفكر، والأدب، والثقافة. وتميزت أعماله «باتساق الرؤية الفكرية في إطار مشروع نقدي للفكر العربي السائد تطلعاً إلى تجديد المشروع النهضوي، كما تميزت رؤيته الفكرية بالتشخيص العيني للواقع العربي في أبعاده السياسية والاجتماعية والحضارية في حقلَي التراث العربي الإسلامي وفكر عصر النهضة».

المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري (الشرق الأوسط)

الأنصاري وابن خلدون

كتبُه تكشف عن مشروع فكري عربي، فقد كتب عن «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930-1970»، و«العالم والعرب سنة 2000»، و«لمحات من الخليج العربي»، و«الحساسية المغربية والثقافة المشرقية»، و«التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق»، و«تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، و«رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية وشواغل الفكر بين الإسلام والعصر».

كما أصدر كتاباً بعنوان «انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية»، و«الفكر العربي وصراع الأضداد»، و«التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، لماذا يخشى الإسلاميون علم الاجتماع»، وكذلك «التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، مكونات الحالة المزمنة»، وكتاب «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية: مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي»، وكتابه المهمّ «العرب والسياسة: أين الخلل؟ جذر العطل العميق»، وكتاب «مساءلة الهزيمة، جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية»، وكتابه «الناصرية بمنظور نقدي، أي دروس للمستقبل؟»، وكتاب «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل».

وعند المرور بابن خلدون، تجدر الإشارة إلى أن الدكتور الأنصاري كان أحد أهم الدارسين لتراث ابن خلدون ومتأثراً به إلى حد لا يخلو من مبالغة، وهو القائل في كتابه «لقاء التاريخ بالعصر»: «كل عربي لن يتجاوز مرحلة الأمية الحضارية المتعلقة بجوهر فهمه لحقيقة أمته... إلا بعد أن يقرأ مراراً مقدمة ابن خلدون! (ص 63)».

في هذا الكتاب، كما في كتاب «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، يستعيد الأنصاري فكر ابن خلدون داعياً لتحويله إلى منهج للمثقفين العرب، مركّزاً بنحو خاص على تميّز ابن خلدون في الدعوة لثقافة نثر تتجاوز لغة الشعر، داعياً لإيجاد نثر عقلاني يتجاوز مفهوم الخطابة.

ويقول في كتابه «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»: «مطلوب - إذن - علم اجتماع عربي إسلامي مستمد من واقع تاريخنا؛ لفهم التاريخ ومحاولة إعادته للخط السليم... ومطلوب قبل ذلك شجاعة الكشف عن حقيقة الذات الجماعية العربية في واقعها التاريخي الاجتماعي بلا رتوش... بلا مكياج... بلا أقنعة... وبلا أوهام تعظيمية للذات».

كتابه «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل» طبعة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، رغم حجمه الصغير (120 صفحة) وكونه عبارة عن مجموعة مقالات جمعها المؤلف، لكنه يقدم صورة نقدية تدعو لتحرر الرؤية من الماضي وتأسيس ثقافة عربية تعتمد منهج ابن خلدون في مقاربته للتاريخ، وخاصة تجاوزه «الفهم الرومانسي العجائبي، الذي ما زال يطبع العقلية العربية»، هذه المقاربة توضح أن «إطار العقلية الخلدونية يعني اكتساب قدرة أفضل على فهم العالم الجديد، الذي لم يتكيف العرب معه بعد، فما زالوا يتعاملون، كارثياً، مع واقع العالم شعراً»، وهي «دعوة إلى إعادة التوازن في ثقافتنا بين الوجدان والعقل، حيث لم تعدم العربية نثراً فكرياً راقياً تعد (مقدمة ابن خلدون) من أبرز نماذجه، إلى جانب كتابات الجاحظ والتوحيدي والفارابي وابن طفيل وابن حزم».

سيرة

وُلد الأنصاري، في البحرين عام 1939؛ درس في الجامعة الأمريكية ببيروت وحصل فيها على درجة البكالوريوس في الأدب العربي عام 1963، ودبلوم في التربية عام 1963، وماجستير في الأدب الأندلسي عام 1966، ودكتوراه في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر سنة 1979. كما حضر دورة الدراسات العليا في جامعة كامبريدج عام 1971، وحصل على شهادة في الثقافة واللغة الفرنسية من جامعة السوربون الفرنسية سنة 1982.

في عام 2019، داهمه المرض العضال الذي منعه من مواصلة إنتاجه الفكري، ليرحل، اليوم، بعد مسيرة عامرة بالعطاء، وزاخرة بالدراسات المهمة التي أثرى بها المكتبة العربية.