كانط... فيلسوف التنوير الأكبر في الغرب

مجلة «لوبوان» الفرنسية تصدر ملحقاً كبيراً عنه

صمويل كانط
صمويل كانط
TT

كانط... فيلسوف التنوير الأكبر في الغرب

صمويل كانط
صمويل كانط

لماذا نعود إلى كانط الذي عاش ومات قبل أكثر من مائتي سنة؟ لأنه أكبر فيلسوف في العصور الحديثة، كما يقول لوك فيري العارف ببواطن الأمور: «كنا نعتقد أن ديكارت أو هيغل أو نيتشه أو هيدغر هو أكبر فيلسوف، ولكن يبدو أننا أخطأنا». نقول ذلك رغم أن بعضهم يعتبر هيغل أرسطو العصور الحديثة، وليس كانط. ولكن لا يهم؛ كلاهما مهم. ثم نعود إليه لأنه فيلسوف التنوير الأكبر في الغرب، فهو الذي نور الدين المسيحي وصالحه مع الحداثة والعقل، بعد أن كان أصولياً طائفياً تكفيرياً. ونعود إليه بمناسبة صدور عدد كبير عنه، كملحق ثقافي كبير لمجلة «لوبوان» الفرنسية المعروفة. ومعلوم أن هذه المجلة الأسبوعية تصدر من وقت لآخر أعداداً خاصة ممتازة عن كبار المبدعين الفرنسيين والعالميين. وفي هذا العدد، نجد مقالات موقعة من قبل كبار أساتذة الجامعات الفرنسية. ومنذ البداية، تقول لنا رئيسة التحرير كاترين غوليو، في افتتاحية العدد، ما يلي: «لماذا نهتم بكانط؟ لماذا نكرس له عدداً خاصاً؟ لسبب بسيط، هو أنه يعلمنا كيف نستخدم عقولنا بشكل صحيح، ولأنه يعلمنا أيضاً مكارم الأخلاق، فهو فيلسوف أخلاقي من الطراز الأول. لا ريب في أنه يمكننا أن نعيب عليه أشياء كثيرة، كصرامته الفكرية، والطابع التجريدي العويص لفلسفته. ولكنه نص على قواعد أخلاقية أغلى من الذهب، ومارس هذه الأخلاق الصارمة عملياً، لا نظرياً فقط. فقد كان نظيف اليد نزيهاً صادقاً، وعلمنا أنه ينبغي علينا أن نستخدم عقولنا لكي نتحكم بشهواتنا وغرائزنا، لا أن ندعها تتحكم بنا، وهو شيء صعب لا يقدر عليه إلا القليلون. كما علمنا أنه يمكن أن نتوصل يوماً ما إلى عالم أفضل، عالم مسالم يسوده الإخاء والتعايش. وهذه الأفكار كانت تعتبر ثورية في القرن الثامن عشر. ونحن نكرس هذا العدد كله له لأن كانط يعلمنا معنى أداء الواجب، واحترام الآخر، والحرص على المصلحة العامة، وجعل عقلنا يتحكم بغرائزنا، وليس العكس، كما هو سائد حالياً في الغرب، حيث بلغ الشذوذ والاستسلام للشهوات مبلغه. من هنا أهمية التذكير بكانط لإعادة الغرب إلى جادة الصواب، إذا أمكن».
ومن بين هذه المساهمات الكثيرة نذكر ما قاله البروفسور كريستوف بوريو، أستاذ الفلسفة في جامعة اللورين، شرق فرنسا، حيث يتساءل: ما معنى الفلسفة الكانطية؟ وما جوهرها ومحتواها؟ إنها تدشين فكري وأخلاقي جديد للتاريخ. وهذا التدشين يجعل الإنسان قادراً على تنظيم العالم بطريقة أفضل من السابق؛ إنه يجعله سيد قدره ومصيره، بشرط أن يعرف كيف يستخدم إمكانياته العقلية بشكل صحيح. ولكن فكر كانط، على عظمته وعبقريته وابتكاريته، ليس مفصولاً عن عصره، وإنما هو نتاج مباشر لتلك الثورة العلمية التي حصلت في أوروبا بدءاً من القرن السادس عشر على يد كوبرنيكوس، واستمرت في القرن السابع عشر على يد غاليليو وديكارت، ثم توجت لاحقاً على يد أكبر عبقري: إسحاق نيوتن. ولهذا السبب قال بعضهم: «لولا نيوتن لما كان كانط!»، فذهبت مثلاً. لقد أعطى نيوتن لكانط ثقة هائلة بالعقل البشري وبإمكانياته، عندما اكتشف القوانين التي تمسك الكون وتتحكم به، كقانون الجاذبية وسواه. وعندئذ، قال كانط بينه وبين نفسه: إذا كان نيوتن قد استطاع التوصل إلى حقائق يقينية في مجال العلوم الفيزيائية والفلكية، واكتشاف أسرار الكون وقوانينه، فلماذا لا أكون أنا قادراً على فعل الشيء ذاته في المجالات الفلسفية والميتافيزيقية؟ والله لن أكون كانط، ولن أستحق اسم الفيلسوف إلا إذا جددت الفلسفة عن بكرة أبيها، مثلما فعل نيوتن مع الفيزياء الفلكية. وهكذا، أنقذ كانط الفلسفة الغربية من خطرين ماحقين كانا يهددانها: الأول هو خطر الارتياب والشكوكية العدمية، على طريقة الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم؛ والثاني هو خطر الدوغمائية الانغلاقية التعصبية المتحجرة، على طريقة وولف تلميذ لايبنتز. لقد اتخذ كانط خطاً وسطاً بين هذين الحدين المتطرفين. وهنا يكمن سبب نجاحه وانتصاره على العدمية والدوغمائية في آن معاً. لقد كانت الفلسفة في عصره قد وصلت إلى الباب المسدود، فأنقذها بضربة عصا سحرية أو عبقرية من مأزقها وانسداداتها. وهنا تكمن عظمة المفكرين الكبار في التاريخ؛ المفكر الكبير هو ذلك الشخص الذي يفك الانسداد التاريخي لأمة بأسرها، أو حتى للبشرية. ثم يقول لنا هذا الباحث إن كانط وضع الفلسفة على السكة الصحيحة، مثلما فعل كوبرنيكوس بالنسبة لعلم الفلك. لقد أحدث ثورة كوبرنيكية في مجال الفلسفة، و«نفد الأرنب بجلده» كما يقول المثل. نقول ذلك خصوصاً وأن الاستعصاء الفلسفي كان متفاقماً جداً، ووصل إلى الجدار المسدود، كما ذكرنا. وحده كانط استطاع فك الانسداد التاريخي، وإيجاد الحل المعجز للمشكلة الفلسفية المستعصية للعصر. وعلى أساس هذا المعيار بالذات تقاس عظمة المفكرين الكبار.
ولكن كان هناك مفكر آخر أثر على كانط، هو: جان جاك روسو. ولذلك لم يكن يحلف بعد الله إلا باسم شخصين، هما: نيوتن، وروسو. فالأول كشف له أسرار العالم المادي، والثاني كشف له أسرار العالم الروحي والأخلاقي. ولذلك فهو مدين لهما أبد الدهر، بل ولم يكن يضع على مكتبه للاستئناس في أثناء الكتابة والعمل إلا صورة جان جاك روسو. ويقال إنه لم يقطع مشواره اليومي الشهير، المحدد بالساعة والدقيقة، إلا عندما سمع عام 1762 بصدور كتاب جديد لروسو عن «إميل أو في التربية». عندئذ، ذهب إلى المكتبة مباشرة لكي يستفسر عنه، ويحجزوا له نسخة للاطلاع عليه فوراً. ولهذا السبب كرس له البروفسور رافائيل ايهرسام، الأستاذ في جامعة السوربون، مقالة خاصة بعنوان: «زلزال روسو»! بمعنى أن اكتشاف فكر روسو كان بمثابة الزلزال الذي عصف بكانط؛ يقول بالحرف الواحد: «إن روسو هو الذي أعادني إلى رشدي، ووضعني على الطريق الصحيح. ففي السابق، ما كنت أحترم إلا العلماء والفلاسفة والمثقفين والمتعلمين، ولكني الآن أصبحت أحترم كل إنسان في كرامته الإنسانية والأخلاقية». نفهم من كلام كانط أن كناس الشوارع قد يكون شخصاً طيباً وأخلاقياً أكثر من أستاذ جامعة حقير يحمل شهادة الدكتوراه. وبالتالي، فلا ينبغي أن نحتقر الناس البسطاء، من عمال وفلاحين وخدم، لأنهم غير متعلمين أو غير مثقفين؛ هذا خطأ فادح فاحش. ينبغي أن نحترمهم في كرامتهم الإنسانية، ولا ينبغي أن نحتقر الخادمة في البيت لأنها خادمة، وإنما ينبغي أن نعاملها كإنسان له كرامة. من هنا الطابع الأخلاقي لفلسفة كانط. فربما كان أكبر فيلسوف أخلاقي في التاريخ، بعد أرسطو وأفلاطون. ولذلك قال عبارته الشهيرة: «هناك شيئان يملآن القلب بالإعجاب والإجلال المتجددين المتزايدين باستمرار: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي، والقانون الأخلاقي المنقوش المرسخ في داخلي. وهذا يكفيني». هذه العبارة الشاعرية لفيلسوف أبعد ما يكون عن الشعر منقوشة على قبره حتى الآن.
وننتقل الآن إلى الباحث بيير فرنسوا مورو، الأستاذ في جامعة ليون، فماذا يقول عن كانط يا ترى؟ إنه يقول لنا ما يلي: لكي نفهم كانط ينبغي أن ندرك أن الأنوار الألمانية مختلفة جداً عن الأنوار الفرنسية. ففلاسفة الأنوار الفرنسية كانوا في الغالب معادين للدين الرسمي السائد. أما فلاسفة الأنوار الألمانية، فكانوا يحاولون جاهدين البرهنة على أن العقل إذا ما فُهم جيداً لا يتعارض مع الدين، بل إنه يمكن أن يتحالف مع الإيمان بغية التوصل إلى حقائق سماوية عليا. وعلى هذا النحو، تشكل في القرن الثامن عشر نوع من التوازن الآيديولوجي بين العقل والدين، وهو توازن يتحاشى في آن معاً اليمين المتطرف الديني الأصولي الذي يكره العقل والعقلانية، واليسار المتطرف الفلسفي الذي يكره كل شيء له علاقة بالدين والإيمان. ثم اندلعت مشكلة كبيرة نحو عام 1780 حول فكر سبينوزا والإلحاد. وانقسم المثقفون الألمان إلى قسمين: قسم مع سبينوزا، وقسم ضده. وطلبوا من كانط التدخل وحسم الموقف، ولكنه رفض أن ينضم إلى هذا الفريق أو ذاك. وإنما راح يطرح حلاً ثالثاً يتجاوز فيه هذه الإشكالية المستعصية: هل أنت مع العقل أم مع الدين؟ راح يقول ما معناه: للعقل مجاله، وللدين مجاله، ولا ينبغي الخلط بينهما. فالعقل يحق له أن يصول ويجول في كل ما يتعلق بالمعرفة الدنيوية التجريبية المحسوسة، ولكن لا يحق له أن يتجاوزها إلى ما وراءها، فما وراءها من اختصاص الدين. فلا يستطيع العقل مثلاً البرهنة على وجود عالم آخر بعد الموت؛ وحده الدين يستطيع ذلك. ولهذا السبب قال كانط عبارته الشهيرة: «لقد أوقفت العقل عند حده لكي أفسح المجال للإيمان».
والآن، سوف أنتقل إلى صاحبنا نيتشه وأفسد عليكم هذه المتعة والهناءة مع كانط. فأنا لا أستطيع أن أعيش من دون مشكلات. وصاحب المشكلات كلها هو أستاذنا نيتشه، الذي «لا يعجبه العجب، ولا الصيام في رجب». حتى الآن، كنا منسجمين مع البروفسور كانط، معجبين بعبقريته، ولا تشوب علاقتنا به شائبة. ولكن للأسف الشديد فإن هذا ليس موقف ذلك المشاغب الأكبر: فريدريك نيتشه. فعلى العكس، سوف يحاول تفكيك كانط، بل وتحطيم أسطورته. ومن يستطيع التملص أو التخلص من مخالب نيتشه؟ أولاً، ينبغي العلم بأن نيتشه ولد بعد موت كانط بأربعين سنة. وبالتالي فهو من أحفاده فلسفياً في ألمانيا. فلماذا يثور عليه يا ترى؟ لماذا يهاجمه على الجبهات كافة؟ لماذا يريد تحطيمه؟ لأن هيجانات نيتشه اللاعقلانية لا يمكن أن تتحمل رجاحة عقل كانط وتوازنه الشديد. ولكن هذا الجواب وحده لا يكفي. فالواقع أن نيتشه كان مفكراً عملاقاً أيضاً، يعرف كيف يمسك كانط من نقطة الضعف؛ كان بارعاً في المصارعة الفلسفية الحرة! وقد دفع بعضهم الثمن غالياً لأنه تورط مع نيتشه في مجادلة فكرية، أو بالأحرى لأن نيتشه هو الذي «تورط فيه» واعتدى عليه، إذا جاز التعبير. فمثلاً، المفكر المحترم ديفيد شتراوس مات بعد ثلاثة أشهر فقط من ظهور مقالة نيتشه الهجومية العنيفة ضده؛ لم يستطع تحملها فمات من شدة الهم والغم. ولذلك قال نيتشه عبارته المرعبة: «نعم، إني مجرم! وعلى يدي قطرات من الدماء... يكفي أن أكتب مقالة واحدة ضد أي شخص لكي يموت فوراً». أو بهذا المعنى... وهذا يعني مدى خطورة نيتشه الإرهابية، خصوصاً أن أسلوبه في الكتابة كان بركانياً متفجراً. إنه ينزل عليك كالصاعقة. عيب أصلاً أن تكتب بعد نيتشه! كل أدباء ألمانيا تعقدوا وارتعبوا وما عادوا يعرفون كيف يكتبون بعده. لقد استنفد كل الطاقات البيانية للغة الألمانية دفعة واحدة. وبالتالي، فإذا ما نزل فيك نزلة حقيقية، فإنه يهشمك تهشيماً، ويقضي عليك بالضربة القاضية: لا أكثر ولا أقل. والآن نطرح هذا السؤال: ما الذي يعيبه نيتشه على كانط؟ لماذا لا يعجبه بعد كل تلك الإنجازات الضخمة التي حققها، ليس فقط للفلسفة الألمانية وإنما للفكر البشري ككل؟ أليس كتاب «نقد العقل الخالص» أهم كتاب ظهر في تاريخ الفلسفة منذ عدة قرون، أو حتى منذ أفلاطون وأرسطو؟ عن هذه التساؤلات يجيب البروفسور غيوم تونينغ، أستاذ الفلسفة والثقافة العامة في أحد المعاهد الباريسية، بما يلي: إن نيتشه يعيب على كانط عدم راديكاليته في النقد الفلسفي للدين، فقد كان ينبغي عليه استئصال المسيحية كلياً من جذورها، لا مصالحتها مع العقل والتنوير. وبالتالي فهو ليس إلا شخص لاهوتي يختبئ خلف قناع الفلسفة، إنه «منافق جبان رعديد، خان القضية الفلسفية»، واستسلم في نهاية المطاف للدين والكهنة الذين هددوه وأرعبوه، في ظل الملك الأصولي المتزمت فريدريك غيوم الثاني.



كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
TT

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته

الروائي والمُنَظِّر الما بعد كولونيالي، الكيني نغوغي واثيونغو، (يتوسط الصورة). يقف مائلاً بجذعه إلى الأمام، ميلاً يكاد لا يُدرك، باسطاً كفيه على كتفي ابنته وانجيكو وا نغوغي (يمين الصورة)، وابنه موكوما وا نغوغي (يسار الصورة)، كأنما ليحتضنهما أو ليتأكد من وجودهما وبقائهما أمامه، أو يتوكأ عليهما بدلاً من التوكؤ على العصا التي ربما أسندها إلى الجدار خلفه، أو في أي بقعة من المكان.

الصورة لقطة لاجتماع عائلي صغير، اجتماع ربما لا يتكرر كثيراً ودائماً ولوقت طويل بين أب يعيش وحيداً إلّا من رفقة كلبه في مدينة «إرفاين» في كاليفورنيا، وابن يقيم في مدينة «إثاكا»، حيث يعمل أستاذاً للأدب في جامعة كورنيل، وابنة استقر بها المقام في مدينة أتلانتا، حيث تعمل أستاذاً للكتابة الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في ولاية جورجيا. شتات أسري صغير، نموذج من الشتات الأفريقي (الما بعد كولونيالي) الكبير، تتخلله لحظات مثل لحظة التقائهم في الصورة لحدث يظهر خلاله الشبه بينهم، الشبه العصي على الشتات تبديده ومحوه.

الحدث فعالية توقيع موكوما لروايته الرابعة «انبشوا موتانا بالغناء»، شخصياً أفضل «انبشوا قبور موتانا بالغناء»، وتوقيع وانجيكو لروايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر» أو «فصول في بلاد فرس النهر». لا يحتاج إلى تأكيد أن عنواني الروايتين قابلان لأكثر من ترجمة. وبقدر ما تبرز الصورة، أو الحدث في الصورة، من تشابه بين الثلاثة، تقوم بوظيفة المعادل الموضوعي البصري لهذه المقالة التي تجمعهم.

النضال باللغة الأم

لكن هنالك ما لا تظهره الصورة، ولا توحي به. أقصد المفارقة التي يشكلها حضور نغوغي واثيونغو حفل توقيع روايتين مكتوبتين باللغة الإنجليزية لاثنين من أبنائه، اللغة التي توقف عن الكتابة الإبداعية بها في أواخر سبعينات القرن الماضي؛ وكان مثابراً في الدعوة إلى التوقف عن الكتابة بها.

كان قرار نغوغي التوقف عن الكتابة بالإنجليزية والتحول إلى الكتابة بلغته الأم سبباً مباشراً من أسباب اعتقاله والزج به في سجن الحراسة المشددة، عشية السنة الجديدة في عام 1977. كان ابنه موكوما في السابعة من عمره عندما ألقت السلطات الكينية القبض عليه بعد ستة أسابيع من النجاح الشعبي المدوي الذي حققه عرض مسرحيته المكتوبة بلغة «جيكويو»: «سأتزوج عندما أريد»، مسرحية أدّاها ممثلون غير محترفين من الفلاحين، واستهدفت بالانتقاد النخبة الحاكمة الكينية، مما دفع الحكومة إلى اعتقاله تحت ذريعة تشكيله خطراً على البلاد.

في زنزانته التي تحَوَّل فيها إلى مجرد رقم (K677)، وكفعل تحدٍ للسلطة أولاً، وكأداة للمقاومة والنضال من أجل تحرير العقل من الاستعمار ثانياً، بدأ نغوغي، وعلى ورق التواليت، في كتابة روايته الأولى بلغته الأم «شيطان على الصليب». يروي أن ورق التواليت كان مكدساً رصاتٍ تصل سقف الزنزانة، ورق قاس وخشن كأنما أُرِيد أن يكون استخدامه عقاباً للسجناء.

إن توقف نغوغي عن الكتابة بالإنجليزية بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من انعقاد «مؤتمر ماكيريري للكُتّاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية»، وضعه على مفترق طرق في علاقته مع «الماكيريريين»، الذين آمنوا بحتمية وأهمية الكتابة باللغة الإنجليزية، وفي مقدمتهم صديقه الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. ورغم تعكر صفو العلاقة بينهما ظل نغوغي يكنّ الاحترام لأتشيبي ومعترفاً بفضله عليه. فأتشيبي أول شخص قرأ روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» حتى قبل أن يكمل كتابتها، عندما حملها مخطوطة مطبوعة إلى مؤتمر ماكيريري أثناء انعقاده في جامعة ماكيريري في العاصمة الأوغندية كامبالا، في يونيو (حزيران) 1962. وكان له الفضل في نشرها ضمن سلسلة هاينمان للكُتّاب الأفارقة.

يقول نغوغي واثيونغو لمواطنه الكاتب كيري بركه في حوار نشر في صحيفة «ذا غارديان» (2023-6-13): «قال أتشيبي إن اللغة الإنجليزية كانت هدية. لم أوافق... لكنني لم أهاجمه بطريقة شخصية، لأنني كنت معجباً به كشخص وككاتب». أتوقع لو أن أتشيبي على قيد الحياة الآن، لعاد للعلاقة بين عملاقي الرواية في أفريقيا بعض صفائها، أو كله. فموقف نغوغي الرافض للاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر، فَقَدَ (أو) أفقدته الأيام بعض صلابته، ويبدو متفهماً، أو مقتنعاً، وإن على مضض، بأسباب ومبررات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية. فجلاء الاستعمار من أفريقيا، لم يضع - كما كان مأمولاً ومتوقعاً - نهاية للغات المستعمر، كأدوات هيمنة وإخضاع وسيطرة، فاستمرت لغاتٍ للنخب الحاكمة، وفي التعليم.

قرار نغوغي واثيونغو الكتابة باللغة التي تقرأها وتفهمها أمة «وانجيكو» قسم حياته إلى قسمين، ما قبل وما بعد. قِسْمٌ شهد كتاباته باللغة الإنجليزية الممهورة باسم «جيمس نغوغي»، وكتاباته بلغة «جيكويو» باسم نغوغي واثيونغو، تماماً كما قسّم مؤتمر ماكيريري تاريخ الأدب الأفريقي والرواية الأفريقية إلى ما قبل وما بعد - الموضوع الرئيس في كتاب ابنه موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية».

في نهضة الراوية الأفريقية

من البداية إلى النهاية، يرافق «مؤتمر ماكيريري» قارئَ كتاب موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية... طرائق اللغة والهوية والنفوذ» (الصادر في مارس (آذار) 2024) ضمن سلسلة «عالم المعرفة» للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). وترجمه إلى العربية الأكاديمي والناقد والمترجم البروفسور صديق محمد جوهر. لم يكن كتاب نغوغي الابن الباعث على كتابة المقالة فحسب، وإنما المحفز أيضاً، حتى قبل البدء في قراءته، على قراءة رواية شقيقته وانجيكو وا نغوغي «مواسم في بلاد أفراس النهر»، وكانت ترقد على الرفّ لبعض الوقت في انتظار قراءة تهرب إلى الأمام باستمرار. فكان أن قرأت الكتابين في الوقت نفسه، منتقلاً من أحدهما إلى الآخر، بينما صورة نغوغي الأب، أو طيفه يحوم في أفق القراءة، ما جعلني أُسَلِّمُ بأن لا مفرَّ من جمع الثلاثة في مقالة واحدة، وقد وهبتِ الصورة نفسَها معادلاً موضوعياً بصرياً لها.

مؤتمر ماكيريري بآثاره وانعكاساته على الأدب الأفريقي هو الموضوع الرئيس في «نهضة الرواية الأفريقية». كانت المهمة الأولى على أجندة المجتمعين في كمبالا، الذين استثنوا من الحضور كل الذين يكتبون بغير الإنجليزية، تطويق الأدب الأفريقي بحدود التعريف. ولأنه لا توجد حدود دون نشوء لثنائية الداخل - الخارج، فإنهم لم يقصوا الآداب الأفريقية بلغات المستعمر الأخرى فحسب، بل أبقوا خارج الحدود كل الأعمال الأدبية المنشورة باللغات المحلية التي نشرت قبل 1962. على اعتبار أن كل ما سبق ماكيريرى من ثمانينات القرن التاسع عشر كان خطابة.

ينتقد موكوما أدباء ماكيريري على تعريفهم الضيق والإقصائي للأدب الأفريقي، ويدعو إلى أدب أفريقي بلا حدود، يشمل الكتابات المبكرة، وآداب الشتات الأفريقي، والقص الشعبي «popular fiction»، وإلى تقويض التسلسل الهرمي الذي فرضته «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنجليزية»، التي امتد تأثيرها إلى ما بعدَ جلاء الاستعمار، ولم يسلم موكوما نفسه ومجايلوه من ذلك التأثير، فقد نشأ في بيئة معادية للغات الأفريقية. من الأسئلة التي قد تبزغ في ذهن القارئ: ألم يمارس موكوما الإقصاء أيضاً؟ فقد انتقد «أصحاب ماكيريري»، ولم ينتبه إلى أن كتابه «نهضة الرواية الأفريقية» لم يتسع للرواية الأفريقية باللغة العربية وبلغات الاستعمار الغربي الأخرى في أفريقيا.

الأشياء لم تتغير في «فيكتوريانا»

بإزميل حاد نحتت وانجيكو وا نغوغي عالم القصة في روايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر»، فجاءت لغتها سهلة وسلسلة، توهم بأن القارئ لن يواجه أي صعوبة في قراءتها. في هذا العالم تتمدد دولة «فيكتوريانا» على مساحة مناطقها الثلاث: ويستفيل ولندنشاير وهيبولاند، ويتربع فيها على عرشه «إمبراطور مدى الحياة». تقدم الرواية «فيكتوريانا» كصورة للدول الأفريقية، التي شهدت فساد وإخفاقات النخب الحاكمة وإحباط آمال الجماهير بعد الاستقلال.

الحكاية في «مواسم في بلاد أفراس النهر»، ترويها بضمير المتكلم الشخصية الرئيسة (مومبي). تبدأ السرد من سن الثالثة عشرة، من حدث له تأثير كبير في حياتها. فبعد افتضاح تدخينها السجائر مع زميلاتها في المدرسة قبل نهاية العام الدراسي بأيام، يعاقبها والداها بإرسالها برفقة شقيقها من «ويستفيل» إلى «هيبولاند» حيث تعيش عمتها سارة.

العمة سارة حكواتية انخرطت في شبابها في حركة النضال ضد المستعمرين، وبعد الاستقلال، وظفت قصصها لبث الأمل والشجاعة وتحريك الجماهير ضد الإمبراطور. الحكاية التي ترويها مومبي هي قصة نموها وتطورها إلى «حكواتية» ترث عن سارة رواية القصص، والتدخل في شؤون الإمبراطورية، لينتهي بها المطاف في زنزانة في سجن الحراسة المشددة. هنا تتسلل خيوط من سيرة نغوغي واثيونغو إلى نسيج الخطاب السردي. إن السرد كقوة وعامل تأثير وتحريض على التمرد والتغيير هو الثيمة الرئيسة في الرواية. ولدرء خطره على عرشه، يحاول الإمبراطور قمع كل أنواعه وأشكاله.

* ناقد وكاتب سعودي