أوباما.. {إجازة} في وسط العواصف

أحداث فيرغسون.. ومقتل فولي.. وفشل جهوده في ملفات أوكرانيا وسوريا وفلسطين ينذر حظوظ حزبه في الاستحقاقات المقبلة

أوباما.. {إجازة} في وسط العواصف
TT

أوباما.. {إجازة} في وسط العواصف

أوباما.. {إجازة} في وسط العواصف

اكتفى الرئيس الأميركي باراك أوباما بإرسال 3 مساعدين إلى جنازة مايكل براون الشاب الأسود الذي قتل في حادث إطلاق نار من قبل ضابط شرطة أبيض في مدينة فيرغسون بولاية ميسوري منذ أسبوعين.
ورغم موجة الغضب والعنف والاضطرابات التي شهدتها المدينة على مدى الأسبوعين الماضيين، فقد فشل الرئيس أوباما في التعامل مع هذه الاضطرابات، التي أظهرت نوعا من التفرقة العنصرية داخل المجتمع الأميركي، وقضت على آمال أولئك الذين اعتقدوا بسذاجة أن انتخاب أول رئيس أسود للولايات المتحدة سيعني القضاء على العنصرية. اتهم المحللون والمراقبون الرئيس أوباما باللامبالاة في تقييمه للأحداث في فيرغسون، والاكتفاء بتصريحات جوفاء حول مراجعة البرامج الاتحادية والقوانين التي مكنت شرطة ولاية ميسوري من امتلاك أسلحة ومعدات ودروع - يستخدمها الجيوش في الحروب - في قمع تلك المظاهرات. بل إنه لم يكلف نفسه عناء قطع إجازته في جزيرة مارثا فينيارد ليتابع تلك الاضطرابات.
يقول النشطاء في تجمعات الأميركيين السود إن طريقة تعامل أوباما مع اضطرابات فيرغسون تظهر أنه متردد في معالجة القضايا العنصرية، وكل القضايا التي تتعلق بالسود، مثل معدلات البطالة المرتفعة، وتدني المستويات المعيشية والخدمات، وأشاروا إلى مواقف مترددة مماثلة للرئيس أوباما في أعقاب قضية مقتل الشاب الأسود مارتن ترايفون وتبرئة قاتله الأبيض جورج زيمرمان.
لم يتوقف الأمر على اضطرابات فيرغسون وفشل أوباما في احتوائها، بل جاء مقتل الصحافي الأميركي جيمس فولي على يد مسلح تابع لتنظيم داعش في العراق، ليلقي مزيدا من الوقود على نار الانتقادات المشتعلة ضد أوباما. فقد بدا أوباما حزينا ومتأثرا من الفيديو الوحشي لقطع رأس الصحافي الأميركي، وتحدث لمدة ثلاث دقائق من مقر إجازته بجزيرة مارثا فينيارد بولاية ماساشوستس ليدين الحادث. وبعد تصريحاته المقتضبة خرج أوباما مباشرة لممارسة رياضة الغولف وسط أصدقائه. وظهر أوباما في الصور مبتسما وسعيدا وهو يمضي أكثر من أربع ساعات في ممارسة رياضته المفضلة.
مشهد الرئيس الأميركي وهو يستمتع بإجازته وممارسة رياضة الغولف بعد مقتل الصحافي الأميركي على يد مسلحي «داعش» أثار عاصفة من الانتقادات والهجوم الشرس، وأثار حفيظة عدد كبير من الأميركيين الذين تساءلوا: كيف يقضي رئيس الولايات المتحدة عطلته للاستجمام في الوقت الذي تواجه فيه أميركا فاجعة مقتل الصحافي بشكل دموي بشع على يد إرهابي «داعش»؟ وقد خرجت جريدة «ديلي نيوز» بصورة في الصفحة الأولى للرئيس أوباما مبتسما في عربة الغولف مقابل صورة والدة الصحافي جيمس فولي وهي تبكي ألما لمقتله.
ورغم عودته من إجازته مساء الأحد إلى واشنطن وممارسته لعمله من البيت الأبيض، فإن الانتقادات استمرت وامتدت من حادث مقتل الصحافي الأميركي وطريقة تعامل أوباما مع تهديدات «داعش»، وموقفه من الاضطرابات العنصرية في فيرغسون، إلى كل القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية من أزمة غزة، إلى الوضع في سوريا والعراق، إلى تعامله مع روسيا والأزمة الأوكرانية. وامتدت الانتقادات إلى الأوضاع الداخلية من تعامله مع اضطرابات فيرغسون إلى وضع الاقتصاد الأميركي المتذبذب، وقانون أوباما للرعاية الصحية، وموقفه من إصلاح نظام الهجرة، وفشل أوباما في إغلاق معتقل غوانتانامو.
وألقت وسائل الإعلام الأميركية الضوء على أنشطة أوباما خلال الأسبوعين اللذين قضاهما في جزيرة مارثا فينيارد بينما تشتعل الاضطرابات داخليا في فيرغسون، وتتسارع التهديدات ضد الولايات المتحدة بعد مقتل فولي خارجيا.
وأشارت التقارير الصحافية إلى أن النشاط الأبرز للرئيس أوباما هو ممارسة 9 جولات من رياضة الغولف (أمضى أكثر من خمس ساعات في كل جولة من تلك الجولات التسع)، وإصدار ثلاثة تصريحات صحافية حول الوضع في العراق واضطرابات فيرغسون ثم تعليقه على مقتل فولي، ومن أبرز الأنشطة الذهاب إلى شاطئ البحر في مدينة ادغرتوون وركوب الدراجة، وحضور عرض للألعاب النارية.
ورأى محللون أنه كان أجدر بالرئيس أوباما إنفاق تلك الساعات التي أمضاها في ممارسة رياضة الغولف في التشاور مع المستشارين حول كيفية مواجهة تهديدات «داعش»، خاصة أنه ليس واضحا أن إدارته تملك استراتيجية واسعة النطاق لمواجهة الجماعات المتشددة. وقال المحللون إن المشكلة ليست في أن الرئيس أوباما يمارس رياضة الغولف بعد مقتل فولي، وإنما المشكلة في كيفية تعامل أوباما مع مختلف قضايا السياسة الخارجية.
وأشارت صحيفة «واشنطن بوست» في عددها يوم الاثنين إلى أن نظرة متعمقة إلى طريقة تعامل أوباما مع الأحداث من العراق إلى أوكرانيا تفرض التساؤل عما إذا كانت سياسات أوباما الخارجية تتعارض مع تعهده بمواجهة العالم كما هو وليس بالطريقة التي يأمل (أوباما) أن يكون عليها العالم.
وقالت الصحيفة إن سياسته الخارجية التي تقوم على تراجع دور الولايات المتحدة في العالم أحيت الانتقادات حول قيامه بسحب القوات الأميركية من العراق منذ ثلاث سنوات وتردده في القيام بعمل مباشر في سوريا بعد رسم خط أحمر للنظام السوري إذا أقدم على استخدام السلاح الكيماوي، إضافة إلى ضعف الرد الأميركي على روسيا بعد استيلائها على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا.
وتقول الصحيفة إنه بعد سحب القوات الأميركية من العراق، يشرف أوباما الآن على عملية عسكرية لحماية العراقيين من تهديدات «داعش» وتأمين الموظفين الأميركيين وتقديم المشورة للجيش العراقي.
وقد أمر أوباما بالفعل بشن غارات جوية محدودة ضد المتشددين من «داعش» داخل العراق، وعليه الآن أن يقرر ما سيفعله في مواجهة تهديدات «داعش»، وتقرير توسيع نطاق المعركة والضربات الجوية لتشمل سوريا، وهي خطوة تردد طويلا في اتخاذها.
أشرس الانتقادات ضد سياسات أوباما الخارجية جاءت من نائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني، الذي يعد أحد أقوى الصقور في الحزب الجمهوري. وصف تشيني الرئيس أوباما في مقابلة مع شبكة «فوكس نيوز» بأنه أضعف رئيس أميركي، مشيرا إلى أنه يفضل ممارسة رياضة الغولف بدلا من التعامل مع التطورات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط في مقابل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي قطع إجازته وعاد إلى لندن بعد اكتشاف أن القاتل في فيديو الصحافي الأميركي لكنته بريطانية.
ووصف تشيني طريقة تعامل أوباما مع التهديدات الإرهابية من قبل «داعش» والجماعات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط بالساذجة والضعيفة، وقال «إنني أصارع لأجد إجابة عن هذا السؤال، فهل أوباما يفتقد إلى الخبرة أم أنه ساذج، أم أن هذه هي الطريقة التي يريد التعامل بها مع المشاكل في العالم؟». وأشار تشيني إلى أن قتل الصحافي فولي يعد تطورا خطيرا في تهديدات «داعش»، وقال «ما يحدث في العراق وسوريا وتهديدات (داعش) تشكل خطرا على الولايات المتحدة والأصدقاء والحلفاء، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل أيضا في أوروبا». وأضاف «السؤال هو: هل سنتركهم يحققون هدفهم في إقامة الخلافة وتنفيذ آيديولوجية تهدف إلى تدمير الغرب والولايات المتحدة أم سنقوم بتدميرهم»؟.
وأشار نائب الرئيس الأميركي السابق إلى زيادة عدد الجماعات الجهادية، متشككا في إدراك الرئيس أوباما لخطر تلك الجماعات. وقال «لا أعتقد أن أوباما يدرك خطر تلك الجماعات المتشددة، ولا شك في أن الرئيس أوباما ومن حوله يرفضون الاعتراف بهذا الخطر، ويرفضون التعامل معه، بل يتسببون في إلحاق الضرر بالعسكرية الأميركية بتخفيض أعداد الجيش بصورة لم تحدث منذ بيرل هاربر».
وكعادته، وجه السيناتور الجمهوري جون ماكين انتقادات للرئيس أوباما بعد مقتل الصحافي فولي، قائلا «إن أوباما تجاهل تهديدات التنظيمات الإرهابية لفترة طويلة من الزمن، ونحن الآن ندفع الثمن». وأضاف «على الرئيس المضي قدما في وضع استراتيجية شاملة ومتماسكة، ليس فقط في العراق، لكن أيضا في أوكرانيا وفي أجزاء أخرى من العالم، وأقل كلمة يمكن أن أصف بها هذه الإدارة هي أنها إدارة (عاجزة) ولا تدرك الخطوط العريضة للدور الذي يجب للولايات المتحدة أن تلعبه، وهو دور القيادة».
بينما حذر السيناتور ليندسي غراهام من قدرة الجماعات الجهادية المتشددة على توجيه ضربات للولايات المتحدة إذا لم تسارع إدارة أوباما إلى اتخاذ موقف قوي ضد تلك الجماعات. وقال ليندسي لشبكة «سي إن إن»: «هل لدى (داعش) القدرة على ضرب الوطن؟ سأقول نعم، وقد حان الوقت الآن لنفترض الأسوأ من هؤلاء الرجال بدلا من التقليل منهم». وأضاف «ما يقلقني هو أن استراتيجية الرئيس في القيادة من الخلف قد فشلت، وعليه أن يدرك ويعترف بأن استراتيجيته لا تعمل».
ويرى المحللون أن ضعف كفاءة أوباما في معالجة القضايا الخارجية تسبب في تراجع الدور الأميركي في العالم، وتحولت العلاقات مع روسيا إلى مرحلة من الحرب الباردة مرة أخرى بعد موقف أوباما العاجز عن ردع طموحات الرئيس بوتين واستيلائه على شبه جزيرة القرم وفشله في علاج الاضطرابات في أوكرانيا وأيضا في بلدان الشرق الأوسط بعد أحداث الربيع العربي. وأعاد البعض الإشارة إلى ما قامت به إدارة أوباما من غش وحجب للمعلومات في أحداث الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، والتي أسفرت عن مقتل السفير الأميركي وثلاثة أميركيين.
ولم يقتصر الأمر على الانتقادات الموجهة للرئيس أوباما في مجال السياسة الخارجية فقط، بل إنها فتحت الباب لانتقادات سابقة ضده في مجال تخفيض حجم الجيش الأميركي، وفي مجال الرعاية الصحية، والفشل في تنفيذ وعده بإغلاق معتقل غوانتانامو، والفشل في التعامل مع تدفق المهاجرين عبر الحدود الأميركية المكسيكية والقيام بإصلاحات في تشريعات الهجرة.
وتأتي تلك الانتقادات في وقت تدور فيه شعبية الرئيس أوباما في استطلاعات الرأي العام عند مستويات 40 في المائة، وهو ما يشكل علامة قلق للديمقراطيين. ويخشى الديمقراطيون من مزيد من الانخفاض في شعبية أوباما في استطلاعات الرأي، بما يسمح للجمهوريين بانتزاع السيطرة على مجلس الشيوخ في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس المقرر عقدها في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وفي أحدث استطلاع للرأي أجرته جامعة كونبياك، أشار 33 في المائة من المستطلعة آراؤهم إلى أن الرئيس أوباما هو أسوأ رئيس أميركي خلال السنوات السبعين الماضية، وجاء الرئيس جورج بوش الابن في المرتبة الثانية خلفا لأوباما. وقال 45 في المائة إنه كان من الأفضل للولايات المتحدة لو فاز الجمهوري ميت رومني في الانتخابات الرئاسية عام 2012.
ولم يتوقف الأمر عند هجوم وانتقاد الجمهوريين فقط، بل امتد ليشمل انتقادات قادمة من الديمقراطيين ومن المنابر الإعلامية المعروفة بمساندة الحزب الديمقراطي، ومناصرة إدارة أوباما، مثل صحيفة «نيويورك تايمز» التي نشرت عدة مقالات تنتقد أوباما.
واجتهد مساعدو أوباما والمسؤولون في البيت الأبيض في الدفاع عنه، وعن سياساته الخارجية، ودافعوا عن صورته الحزينة أثناء المؤتمر الصحافي لإدانة قتل الصحافي فولي وكذلك صورته المبتهجة بعد عدة دقائق أثناء ممارسة الغولف.
ويقول مسؤول بالبيت الأبيض «إن الرؤساء يتعلمون كيفية إخفاء مشاعرهم، ففي لحظة يتعاملون مع الموت وفي اللحظة التالية يسعون لراحة نفسية وجسدية لأن عليهم اتخاذ قرارات، وتحمل أعباء إدارة دولة، وعلى الرئيس أن يكون واعيا من انغماسه في حالة الحزن بحيث لا تتحكم عواطفه في ما يقوم به من قرارات وما يواجهه من مشاكل».
مسؤول آخر أشار إلى أن ظهور أوباما وهو يمارس رياضة الغولف يعطي إشارة لأعداء أميركا بأنهم لا يستطيعون تغيير جدول أعمال الرئيس، مشيرا إلى أن أوباما توقف مند فترة طويلة عن القلق عما يقوله منتقدوه. وقالت جنيفر بالميري، مديرة الاتصالات بالبيت الأبيض، إن ممارسة أوباما لرياضة الغولف لا تنفي عمق حزنه على مقتل الصحافي فولي.
وقال إريك شوالتز، المتحدث باسم البيت الأبيض «لا أعتقد أن الأميركيين ينكرون على الرئيس الحصول على إجازة لقضاء بعض الوقت مع عائلته، والرئيس هو الرئيس أينما ذهب، وعادة ما يسافر معه مجموعة واسعة من الموظفين ومعدات الاتصال التي تسمح له باتخاذ قرارات بغض النظر عن مكان وجوده».
وأشار بن رودس، نائب مستشار الأمن القومي، إلى أن كلا من العراق وسوريا في بؤرة اهتمام الرئيس لمنع تهديدات الإرهاب القادمة من خارج الولايات المتحدة، لكنه في الوقت نفسه شدد على أن الرئيس أوباما لا ينوي إعادة النظر في رأيه بأن العراق يجب أن يكون مسؤولا عن أمنه.
وأوضح بروس هوفمان، الأستاذ في دراسات الإرهاب بجامعة جورج تاون، أن تصميم فيديو قتل الصحافي الأميركي على يد مسلحي «داعش»، والرسالة المباشرة إلى الرئيس أوباما، يهدفان إلى غرس الخوف في نفس الرئيس، وقال «إن رد الرئيس بممارسة حياته الطبيعية كانت رسالة قوية بأن رسالة التنظيم الإرهابي لا تخيفه».
ويقول جون الترمان، نائب رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن (CSIS) «إن الرئيس أوباما كان يعتقد أن بإمكانه إحداث تغيير، وأن العالم سيكون أكثر استجابة لرغبته، لكن مجريات الأحداث في العالم أثبتت غير ذلك، وهو يواجه الآن انتقادات ويقوم بمناوشات في مواجهة المشاكل تقوم على رد الفعل أكثر من أخذ المبادرة والاختيار».



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.