من التاريخ: آدم سميث والحرية الاقتصادية

من التاريخ: آدم سميث والحرية الاقتصادية
TT

من التاريخ: آدم سميث والحرية الاقتصادية

من التاريخ: آدم سميث والحرية الاقتصادية

إذا كان علماء الاجتماع والسياسة يرون في «جون لوك John Locke» حجر الزاوية للفكر الليبرالي الغربي والذي رسخ للحريات السياسية للفرد والدولة، فإن الوجه الآخر للفكر الليبرالي مقترن بفكر مؤسس علم الاقتصاد والرأسمالية الحديثة «آدم سميث Adam Smith»، فلقد أسس هذا الرجل علم الاقتصاد من خلال إخراجه عن المفاهيم الفلسفة التقليدية ليصبح علما مستقلا بذاته، ومن ثم فلا غرابة في أن يلقب الرجل بـ«أبي الاقتصاد»، وكثيرون يعتبرون كتابه الشهير والذي يختصر تحت مسمى «ثراء الأمم» الأساس الفكري لمفهوم آليات السوق الحرة الذي تعمل به الأغلبية العظمى من الدول حتى يومنا هذا، وذلك على الرغم من أن الرجل بدأ كتاباته في مجالات الفلسفة والأخلاقيات قبل التوغل في علم الاقتصاد، وقد كان لهذا الرجل دوره الكبير في تحريك الفكر الدولي بعيدا عن أفكار «الميركانتيلية» أو النظام الاقتصادي السائد في الغرب والذي بمقتضاه تقوم الدول بقصر تجارتها على مستعمراتها فقط دون أي حرية للتجارة الدولية عبر فرض التعريفات الجمركية أو حتى الحظر التجاري على مستعمراتها أمام الدول المنافسة لتجارتها، وقد مثل فكر هذا الرجل إيذانا بانتهاء هذا العصر وبداية عصر حرية التجارة الدولية، ويرى البعض أنه لولاه لما استطاعت الإمبراطورية البريطانية أن تصل إلى عظمتها من خلال التجارة والمحافظة على المصالح التجارية، فلقد آمن كل الساسة البريطانيين بنظرياته وكان لتطبيقها أكبر الأثر.
لقد ولد آدم سميث في مدينة «جلازجو» الأسكوتلندية عام 1723، ثم تخرج في جامعة أكسفورد ودرس بها، ثم عاد إلى موطنه الأصلي بعد ذلك وسافر إلى فرنسا حيث التقى بالكثير من المفكرين في ذلك الوقت والذين كان لهم أكبر الأثر في تطوير فكره الحر، وكان لصداقته للفيلسوف «ديفيد هيوم» أثرها الكبير في تنظيم منهجه الفكري فلقد اتبع الرجل المنهج التجريبي في فلسفته وصياغة نظرياته، ومن خلال كتابه الشهير «ثراء الأمم» حاول الرجل معرفة الأسباب المؤدية إلى ثراء الأمم، وكيف أن الأمم يمكن لها أن تستفيد أكثر من خلال نظام تجاري دولي حر يسمح بالتطور الصناعي والزراعي على حد سواء رافضا فكرة أن ثراء الدول مقرون بما لديها من ذهب أو فضة كما كان سائدا في ذلك الوقت.
لقد ارتكز آدم سميث في نظريته على خلفية كون الثراء يأتي من خلال القضاء على الانغلاق الاقتصادي وتوسيع رقعة التجارة الدولية، وكان رأيه أن الأمم تتطور نحو مزيد من الثراء بشكل تلقائي، مؤكدا أن هذا ثراء يقاس بحجم إنتاجها من السلع والخدمات، وهذه كانت نقطة تغير محورية تختلف تماما عن الفكر السائد في ذلك الوقت، ومع ذلك فإن تحقيق هذا الهدف يحتاج لعدد من الركائز التي لا يمكن تحقيق الانطلاقة الاقتصادية نحو الرخاء والرفاهية من دونها وعلى رأسها حتمية بناء السلام الداخلي في المجتمعات والدول، ثم يأتي بعد ذلك أهمية إيجاد نظام ضريبي غير خانق حتى يمكن للأفراد والمؤسسات أن تطور نفسها بما يسمح بتراكم رأسمالي مناسب، ومن خلال هذا التراكم يمكن للدولة أن ترفع نصيبها من الضرائب، أما العنصر الثالث، بالنسبة له فكان الإدارة المتوازنة للعدالة، ومن خلال هذه العناصر الثلاثة تستطيع السوق أن تنظم آلياتها بشكل طبيعي إذا ما تخلت الدولة عن سياساتها الحمائية وتركت آليات السوق لمصيرها الحر المتوقع.
إذا كان سميث قد وضع عددا من الركائز لمثل هذه الانطلاقة، فإنه كغيره من الليبراليين رأي في الإنسان الطبيعي قوة داخلية تدفعه نحو المصلحة الذاتية وحب المال، وهو ما لم يكن متناقضا مع البيئة الاقتصادية التي كان يروج لها، فمن خلال هذه الغريزة الإنسانية فإن الإنسان يمكن له الارتقاء بوضعه الاقتصادي من خلال آليات السوق الحر وفقا لقدراته وإمكانياته، فكان يرى أن مجموع هذه الغرائز نحو الثراء والمصلحة الذاتية يمثل قوة الدفع الحقيقية للمجتمع ليرتقي بنفسه نحو مزيد من التطور المتمثل في الثراء المادي والثقافي والفكري على حد سواء، شريطة أن يتم رفع كل المعوقات أمام تطور الفرد والمجتمع معا.
لقد أطلق سميث مجموعة من الأفكار الأساسية التي لا تزال تلازمنا حتى اليوم كسندات أساسية للفكر الرأسمالي، وعلى رأسها مفهوم «تقسيم العمل Division of Labor»، وعلى الرغم من أن هذا المفهوم ليس بجديد، ولكنه أخذ طابعا خاصا لدى «سميث» في كتابه، فلقد رأى أن التطور يأتي من خلال توزيع الأدوار في عملية الإنتاج، بحيث يمكن لكل فرد أن يتخصص في جزء من العملية الإنتاجية فيتقنها وهو ما سيؤدي لتوفير الوقت والطاقة ويفتح المجال أمام التطوير والإنتاج المتوسع بتكلفة أقل، فكان يرى في هذه النظرية قاطرة التطور في المجتمعات الصناعية والتي بدأت بلاده تعيشها مع ظهور الثورة الصناعية الأولى.
لعل من أهم المفاهيم التي رسخها «آدم سميث» في العقيدة الفكرية الدولية كان مفهوم «الأيدي الخفية The invisible hand»، وهو المفهوم الذي يطلقه الاقتصاديون على الوسيلة التي تدار بها الأسواق في المجتمعات المختلفة، فيرى سميث أن إدارة الاقتصاد من خلال العرض والطلب إنما هي وسيلة طبيعية ولا تحتاج لتدخل كبير من قبل الحكومات من أجل الوصول لمراحل التوازن الداخلي في كل سوق، أي أن آليات السوق كفيلة بأن تنظم نفسها دون الحاجة لأي تدخل خارجي، وهو أمر طبيعي بالنسبة له، وبالتالي يكون دور الحكومات هو تنظيم الأطر العامة لهذه الاقتصادات لضمان حرية السوق الكاملة، وهنا يعود «سميث» مرة أخرى إلى مفهومه الإيجابي للفرد وطبيعته.
واقع الأمر أن فكر آدم «آدم سميث» كانت له توابعه الاقتصادية والسياسية المهمة إلى يومنا هذا، فإلى جانب كونه مؤسس علم الاقتصاد، فإن فكره حول إدارة الدولة للسوق وآلياته كان لها أكبر الأثر في تطوير مفهوم آليات السوق الحر وكسر جمود فكر الحمائية والتدخل غير المبرر للدولة والذي كان سائدا في ذلك الوقت، كما كان له أكبر الأثر على الكثير من المفكرين في زمنه بالأخص على فكر ثورة الولايات الأميركية والتي كان من ضمن أهدافها كسر الحمائية الإنجليزية المفروضة على تجارتها ورفع الجمارك والضرائب الباهظة عن كاهلها، كما كان له أكبر الأثر على الثورة الفرنسية وفكرها أيضا، وهو ما يعكس حقيقة أساسية وهي أن الفكر الليبرالي ما كان له أن ينتعش بالبعد السياسي وحده دون التكامل مع البعد الاقتصادي، وإذا كنا نعيش اليوم عصر الليبرالية السياسية ومفهوم آليات السوق الحر، فإن الأساس الفكري لهذا التيار يظل مرهونا بفكر «آدم سميث» ومن قبله الفيلسوف جون لوك.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.