جان جاك روسو.. مدشن العصور الحديثة

كتاب فرنسي جديد يتناول سيرته وتركيبته الفرنسية المعقدة

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

جان جاك روسو.. مدشن العصور الحديثة

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

هذا الكتاب الضخم من تأليف برنار كوتريه وزوجته مونيك كوتريه وكلاهما أستاذ كبير في الجامعات الفرنسية. ومن اللافت أن البروفسور كوتريه أنجز دراساته الثانوية في مدرسة ديكارت الشهيرة في حي أكدال بالرباط، وذلك قبل أن ينتقل إلى باريس ويكمل دراساته الجامعية، ويصبح بدوره أستاذا ويرتقي إلى أعلى المناصب، وقد اشتهر بكتابة سير العظماء من أمثال توماس مور، وكالفن، وجان جاك روسو.. إلخ، ونال على مؤلفاته هذه جوائز الأكاديمية الفرنسية وسواها.
وفي هذا الكتاب يسرد المؤلفان سيرة حياة روسو، ويركزان على دراسة التركيبة النفسية المعقدة لأكبر كاتب فرنسي في العصور الحديثة، فالرجل كان غريب الأطوار بسبب الحياة الصعبة وغير الطبيعية التي عاشها منذ طفولته، وكان مليئا بالتناقضات، لأنه عانى من الفقر والجوع والحالة غير المستقرة في سنوات حياته الأولى، فأمه ماتت أثناء ولادته بالضبط، ولذلك قال فيما بعد عبارته الشهيرة: «كانت أولى جرائمي أني كلّفت أمي حياتها»! ثم بعد ذلك تزوج والده وتخلى عنه وهو في الـ10 من عمره لكي يدبر أمور نفسه بنفسه. الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون.
فاشتغل عند أحد الصنّاع في الحي الشعبي من مدينة جنيف، ولكنه في أحد الأيام هرب من المدينة وهام على وجهه في البراري والحقول بسبب نزعته الرومانطيقية أو بسبب بذرة الجنون العبقري الموجودة في داخله، وهي بذرة تدفعه إلى حب المغامرات. والواقع أنه كان يلعب مع ابن خاله خارج المدينة عندما خيم الليل، وعندما عادا إليها فوجئا بأنها أقفلت أبوابها وأسوارها.
ينبغي العلم بأن المدن الأوروبية في القرون الماضية كانت تقفل أبوابها ليلا مثلما يقفل الإنسان باب بيته، وقد ظل ابن خاله رابضا على الأسوار ينتظر بفارغ الصبر طلوع الفجر كي يدخل ويعود إلى بيت أهله، أما جان جاك روسو فلم ينتظر، ووجدها فرصة سانحة لكي يهرب في البراري المحيطة، وهي من أجمل المناطق الواقعة بين سويسرا وفرنسا، إنها جنة الله على الأرض.
ثم قال روسو بينه وبين نفسه: «ابن خالي يعود إلى بيت دافئ وأم تنتظره ووالد يهتم به، أما أنا فإلى أي شيء أعود؟ ليس لي بيت ولا أم ولا أب ولا شيء على الإطلاق»، وهذا ما دفعه إلى المغامرة والهرب من جنيف نهائيا، وكانت مغامرة خطرة وغير مضمونة العواقب، لأنه كان يمكن لأي شخص أن يقتله أو يمكن لأي وحش أن يفترسه دون أن يسأل عنه أحد، ولكن ما كان أحد يعرف أن هذه المغامرة الجنونية سوف تجعل منه لاحقا أكبر كاتب ومفكر في العصور الحديثة.
فالرجل تصنعه المعاناة ومرارات الحياة وتصاريفها وأهوالها، وليس السهولة ولا رغد العيش، ثم شاءت الصدفة أن يقوده الحظ إلى بيت تلك المرأة التي ستصبح «أمه» بالفعل وتعوض له ما فات من حرمان الأمومة والعواطف الإنسانية، وهي سيدة تدعى مدام دوفارين، وكانت مكلّفة رسميا من قبل ملك تلك البلاد بتحويل أبناء البروتستانتيين عن مذهبهم لكي يعتنقوا المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني.
وكان البابا يعد المذهب البروتستانتي بمثابة الهرطقة الكاملة والخروج عن المسيحية الحقة والطريق المستقيم. وعندما رآها روسو لأول مرة وكانت في عزّ شبابها وجمالها قال بينه وبين نفسه: «إن مذهبا يعتنقه أمثالها سوف يقود حتما إلى الجنة»! وهكذا قبل بتغيير مذهبه واعتناق مذهب أعدائه أو أعداء آبائه وأجداده لكي يستطيع أن يعيش، أن يبقى على قيد الحياة بكل بساطة، ثم لكي يظل بالقرب من هذه المرأة الجميلة الفاتنة (مدام دوفارين)، وكان قد بلغ الـ16 أي في بداية مراهقته.
وقد خلّدها فيما بعد في كتاب «الاعترافات» الشهير عندما قدم عنها لوحة تذكارية أو صورة شخصية (بورتريه) يبلى الزمن ولا تبلى، وقد قرأت تلك المقاطع مرات ومرات دون أن أشبع منها، وبكاها بكاء مرا عندما ماتت ومرّغ وجهه بتراب قبرها، وعلى طول الكتاب كان يدعوها: «ماما»، فتدعوه هي: «صغيري». حقا لقد حلّت تماما محل أمه التي شاء القدر ألا يعرفها قط، لأنها ماتت أثناء ولادته أو بسبب هذه الولادة العسيرة كما ذكرنا.
ثم يردف المؤلف قائلا: «ولكن ينبغي ألا نستبق الأمور، فهي لم تمت فورا، وإنما بعد سنوات طويلة، بعد أن أطعمته وربته وعلمته ما لم يعلم. في الواقع أنه أصبح عشيقها! ويصف أول ليلة معها وصفا أذهل معظم النقاد. ثم بعد ذلك تركها وذهب إلى باريس بحثا عن الرزق والنجاح في الحياة، وأصبح كاتبا شهيرا يملأ اسمه الدنيا، وقد فوجئت عندما سمعت بأنه أصبح شخصا مهما ووصل إلى قمة المجد، لأنها كانت تعرف كل نقاط ضعفه، وربما استغربت أن يصل شخص مثله إلى هذه المكانة. وهذا ما يحصل عادة لنا جميعا لأننا نستغرب الشهرة على من نعرفهم، ونفهمها إذا كانت من حظ الأباعد الذين لم نرهم عن كثب».
مهما يكن من أمر فإن هذا الشاب الفقير بعد أن ملّ من حياة الرتابة في ظل الأقاليم البعيدة عن المركز راح يبحث عن حظه في العاصمة باريس، ومعلوم أن كل مثقفي الأرياف أو المحافظات كانوا يعرفون أنهم لن يصلوا أبدا إلى الشهرة إلا إذا ذهبوا إلى باريس واستقروا فيها ولو لفترة، وهذا ما كان يفعله المثقفون العرب عندما كانوا يذهبون إلى بيروت، أما الآن فيذهبون إلى الإمارات أو البحرين أو الخليج عموما، هذا ناهيك عن المغرب: عراقة التاريخ وملتقى الحضارات!
ولكن في باريس ابتدأت حياة الشقاء والعناء لجان جاك روسو، فقد كان مجهولا، مغمورا، لا يعرفه أحد، وفي ذلك الوقت إذا لم تكن غنيا أو أرستقراطيا ابن عائلة، فإن حظك في النجاح أو الصعود الاجتماعي يكون صفرا أو يشبه الصفر، وهنا تكمن عبقرية جان جاك روسو، فقد استطاع أن يقفز دفعة واحدة من الحضيض إلى القمة على الرغم من أن كل شيء كان ضده، ولذلك تنطبق عليه كلمة نيتشه: «وحدها العبقريات تخترق الظروف»!
ثم يردف الكاتب قائلا: «ولكن ذلك لم يحصل فورا، وإنما بعد سنوات كثيرة من المعاناة والانتظار والترقب، وفي أثناء ذلك كان قد تعرف على خادمة تغسل الثياب في الفندق فارتبط بها، واسمها تيريز لوفاسير، وكانت فتاة بسيطة، أمية، لا تعرف القراءة والكتابة، وبالتالي فلا يمكن أن تتكبّر عليه، وإنما تقبل به على علاته، وقد كان مريضا من الناحيتين؛ الجسدية والنفسية، كان مريضا بالعصر ككل النوابغ».
ثم تعرف على المشاغب الكبير ديدرو الذي كان يبحث عن الشهرة مثله في باريس، وأصبحا صديقين حميمين لا يفترقان، وكانا يشتغلان في الترجمة والخدمة في بيوت الأغنياء لكي يستطيعا دفع أجرة الغرفة وإكمال الشهر بصعوبة بالغة.
من كان يعرف آنذاك أنهما سيصبحان بالإضافة إلى فولتير أكبر فلاسفة العصر؟ كانا لا يزالان في البدايات أو بداية البدايات، ولكن كان واضحا أن ديدرو رجل اجتماعي من الطراز الأول، ويحب مخالطة الناس، يضاف إلى ذلك أنه كان متحدثا بارعا يسيطر على عقول مستمعيه ويتلاعب بها كيفما شاء بفضل بلاغته وفصاحته وجرأته.
أما جان جاك روسو فكان شخصا انطوائيا، معقدا، يميل إلى العزلة والوحدة ويخاف من مخالطة الناس في المجتمع، وبالتالي فقد كان الرجلان يكملان بعضهما البعض ويقعان على طرفي نقيض.
ثم يقول لنا هذا الكتاب الشيق الممتع ما يلي: «وبعدئذ ابتدأت حياة روسو الفكرية والأدبية بشكل مفاجئ ومتأخر؛ أي بعد أن تجاوز الـ38 من العمر واقترب من الـ40. وقد ابتدأت بطريقة غير معهودة، طريقة تذكرنا بالوحي الصاعق الذي ينزل على الأنبياء، فقد كان ذاهبا لزيارة صديقه ديدرو المسجون في قلعة فانسين بسبب آرائه الجريئة بل والمتهورة عن الدين». ومعلوم أن كهنة المسيحية آنذاك كانوا لا يقلون خطورة عن مشايخنا اليوم. كانوا يستطيعون تكفيرك في أي لحظة بل والدعوة إلى اغتيالك إذا لم ترق لهم كتاباتك وأفكارك.
كيف حصلت القصة؟ كان يحمل معه جريدة لكي يتسلّى بها أثناء الطريق، وفجأة يقع بصره على السؤال التالي الذي طرحته أكاديمية «ديجون» كمسابقة للهواة: هل تقدّم الصناعات والعلوم والفنون في عصرنا أدّى إلى تهذيب الأخلاق أم إفسادها؟ وما إن قرأ روسو نص السؤال حتى وقع مغشيا عليه تحت شجرة، لقد انبطح على الأرض بكل قامته وجسمه وغاب عن الوعي للحظات، وعندما استفاق وجد أنه سفح الدموع بغزارة أثناء الغيبوبة حتى بللت كل صدره وقميصه. كم كان محتقنا جان جاك روسو! وفجأة يفجر الإلهام الصاعق كل احتقاناته.
وعرف أنه أصبح شخصا آخر بدءا من تلك اللحظة، عرف أنه وصل إلى الحقيقة التي كان يبحث عنها منذ سنوات وسنوات بشكل واع أو غير واع دون أن يجدها، لقد تجلت الحقيقة لجان جاك روسو في ذلك اليوم المشهود على طريق غابة فانسين؛ من حيث لا يتوقع، لقد كشفت عن وجهها الساطع كنور الشمس فحررت عقدة في نفسه، وعرف عندئذ أنه سيكون «نبي العصور الحديثة»، الشيء الذي ما كان يعرفه هو أن طريق المصاعب قد ابتدأ وأن الخطر الأعظم أصبح منه قاب قوسين أو أدنى، ولكن العناية الإلهية التي كانت ترفرف فوق رأسه حمته من الاغتيال والتصفية الجسدية أكثر من مرة، لقد اكتشف تلك الحقيقة المرعبة؛ وهي أن التقدم العلمي أو المادي أو التكنولوجي لحضارة ما، لا يرافقه بالضرورة تقدم أخلاقي أو إنساني على نفس المستوى، لا توجد علاقة أوتوماتيكية بين الشيئين على عكس ما نتوهم. وقد صفع عصره بهذا الكشف صفعا. آه ما أعظم تلك الخيبات والمرارات!
وهكذا اكتشف مشكلة العصر في عزّ عصر التنوير الكبير. وبينما حل عقدته الشخصية راح يحل عقدة العصر كله، وكتب بحثا وأرسله إلى الأكاديمية التي طرحت السؤال، ثم نسي الموضوع تماما حتى فوجئ بأنه نال الجائزة من بين كل المتسابقين، وعندئذ أصبح مشهورا بين عشية وضحاها. ثم توالت كتبه الرائعة الواحدة بعد الأخرى، كـ«مقال عن أصل اللامساواة والظلم بين البشر»، وكـ«العقد الاجتماعي»، و«إميل أو في التربية»، وروايته الشهيرة «هيلويز الجديدة».. وهكذا، وخلال بضع سنوات فقط، صبّ على الورق كل ما في أحشائه، وأصبح أشهر كاتب في عصره بالإضافة إلى فولتير. لقد شخص مرض العصر في العمق بل ووجد الحلول. طبيب يداوي الناس وهو عليل! أكبر مريض في العصر يحل مشكلة العصر!
ولكن مشكلاته ابتدأت من تلك اللحظة كما قلنا، والشهرة تجر المشكلات، فقد وقع بين فكي كماشة ولم يعد يستطيع فكاكا منهما؛ الفك الأول يتمثل بغضب الطبقة الأرستقراطية الحاكمة عليه، لأنه أعطى كل الحقوق والسيادة للشعب، وتنبأ بانهيار النظام الملكي القديم لفرنسا، وكذلك انهيار نظام الامتيازات الإقطاعية والعائلية، وساهم بذلك في بلورة النظرية الديمقراطية الحديثة. والفك الثاني يتمثل في أصدقائه من فلاسفة التنوير الذين حقدوا عليه، لأنه كان يجامل المتدينين أكثر مما يجب، في نظرهم، ولأنه اشتهر أكثر مما يجب. ولا ينبغي أن ننسى فئة ثالثة خطيرة جدا وهي التي حاولت اغتياله؛ قصدت فئة اليسوعيين والأصوليين البابويين، فهؤلاء لم يغفروا له نظريته الشهيرة عن الدين، وهي نظرية تفكيكية؛ أي تحريرية رائعة، لقد فككت كل العقائد الدوغمائية المتحجرة، وأطاحت بها في جرأة جنونية لا تكاد تصدق. كم أتمنى لو يتاح لي الوقت الكافي يوما ما للتحدث عنها. إنها باختصار شديد تستبقي جوهر الدين فقط، وتطرح قشوره المتكلسة المتحنطة، وما أكثرها، وقد كانت سابقة لزمانها بنصف قرن.
لقد حوصر إذن جان جاك روسو من قبل الأصولية الكاثوليكية الرهيبة؛ أي أصولية الأغلبية، ولكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، وإنما حاصرته أيضا أصولية الأقلية التي ينتمي إليها؛ من حيث المنشأ والولادة؛ أي الأصولية البروتستانتية، كلتاهما لعنته وكفرته على الرغم من أنهما متعاديتان عداء مطلقا، وهكذا أصبحوا يحرقون كتبه في كل العواصم من باريس إلى بيرن إلى جنيف إلى أمستردام.. وراحوا يلاحقونه من مكان إلى مكان حتى أقضوا مضجعه، ولم يتركوه يهدأ على حال، ومن كثرة الملاحقات وضراوتها راح يشك في كل شيء تقريبا، وأحيانا بأقرب المقربين إليه، وعندئذ اتهموه بالمرض العقلي أو الجنون، وراحوا يشيعون الإشاعات عنه لكي يزعزعوا استقراره النفسي أكثر فأكثر. وأصبح يرى الجواسيس في كل مكان، ودخل في نوع من الهذيان، وبالتالي فلا يمكن فصل عبقريته عن جنونه، كما يرى المؤلف أو المؤلفان.
ولكن كل التربية الأوروبية الحديثة، بل كل السياسة الديمقراطية، هما من بنات أفكاره، ألا يكفيه ذلك فخرا؟ ولذلك قال غوته في عبارة شهيرة: «فولتير أغلق عصره، ولكن جان جاك روسو دشن العصر الآخر»!



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»