«الوصايا»... رواية أجيال وأحداث تمتد من عشرينات القرن الماضي

من روايات «القائمة القصيرة» لجائزة «بوكر» العربية

«الوصايا»... رواية أجيال وأحداث تمتد من عشرينات القرن الماضي
TT

«الوصايا»... رواية أجيال وأحداث تمتد من عشرينات القرن الماضي

«الوصايا»... رواية أجيال وأحداث تمتد من عشرينات القرن الماضي

تنتمي رواية «الوصايا»، الصادرة عن «الكتب خان»، للكاتب المصري عادل عصمت، إلى «رواية الأجيال»، أو «الرواية النهرية» بتعبير الكاتب الروائي الفرنسي رومان رولان. وثمة أمثلة كثيرة على الرواية النهرية في الأدب العربي، مثل: ثلاثية نجيب محفوظ، ورباعية شمران الياسري، وخماسية عبد الرحمن منيف. وهذه الرواية هي أشبه بالنهر الكبير الذي تصبُّ فيه فروع وجداول كثيرة تجعله يتدفّق بقوّة من المنبع إلى المصبّ. ورغم أنّ «الوصايا» رواية واحدة، وليست سلسلة من الروايات، كما هو الحال في «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست، أو «الكوميديا الإنسانية» لبلزاك، فإنها رواية أجيال متعددة، وشخصيات وأحداث متنوعة، تمتدّ من عشرينات القرن الماضي حتى الوقت الحاضر، ولعل شخصيتي الجد والحفيد تستشرفان المستقبل، وتقدّمان تعريفاً منطقياً للحياة، من خلال بحثهما المتواصل عن الحقيقة، أو سعيهما للخلاص عن طريق تحمّل المشقّة، ومحاربة المتع الجسدية الزائلة، والتخلي باعتباره أعظم الفضائل.
وتكتظ الرواية بالأحداث والشخصيات الرئيسة، مثل الجد عبد الرحمن سليم، وحفيده الذي لا نعرف اسمه على مدار الرواية، لكنّ المدقق في قراءة النص سيكتشف أنّ هذا الحفيد هو ابن عبد الله الذي ارتأى والده الشيخ عبد الرحمن أن يعمل في «الغيط»، بعد أن انقطع ولداه صالح ونعيم إلى الدراسة وتحصيل العلم. لم يشأ عادل عصمت أن يخوض في السياسة أو يتورط فيها لأنها تشدّه إلى الواقع كثيراً، وتحرمه من ملَكَة الخيال. وبما أنّ الروائي خرّيج قسم الفلسفة، وهو مُدرك لكثير من معطياتها، فقد ارتأى أن يرصّع نصّه السردي بشذرات فلسفية، بعضها صعب عويص، وبعضها الآخر سهل يسير الفهم يرسم صورة منطقية يستوعبها القارئ العادي.
ويحتاج النص السردي الناجح إلى شكل متفرد، يوفر للقراء عنصر الإقناع الفني، فالمسافة التي تفصل بين بوح الجد لحفيده وموته هي يوم واحد فقط. ففي يوم الأربعاء المصادف 20 ديسمبر (كانون الأول) 1978، استدعى الشيخ عبد الرحمن سليم حفيده، وأخبره بأنه سوف يموت يوم الجمعة الموافق 22 من الشهر ذاته، وليس أمام الجد سوى يوم واحد يتيح له أن يكشف كل الأسرار التي خبأها عن الجميع على مدى سبعة عقود تقريباً. وبما أنّ هذه المهمة مستحيلة، فقد لجأ الكاتب إلى حيلة فنية، تتمثل بنقل خلاصة تجاربه الحياتية الواسعة على شكل وصايا عشر، تبدأ بالخلاص في المشقة، وتنتهي بالتخلي، وما بينهما هناك وصايا أخرى تتعلق بالفرح، والحزن، والمحبة، والمُتع العابرة، وتحمل الألم، وما إلى ذلك.
وتشكِّل الوصايا العشر الهيكل المعماري للرواية، لكنها لا تشترط زمناً خطياً، ولا تفترض أحداثاً تتابعية، لأن الكاتب أراد أن يلم بكثير من الأحداث التي تأخذ أشكالاً دائرية، مثل البذرة التي تموت لتصبح نبتة وغصناً وورقة وزهرة، ثم تتحول إلى ثمرة تحتوي بداخلها على بذرة جديدة؛ وهي أقرب إلى دورة الإنسان الذي يولد طفلاً، ثم يشبّ وينجب، قبل أن يهرم ويموت، لكنه يستمر من خلال ذريته وإنجازاته التي يخلفها وراءه قبل أن يمضي إلى المجهول.
ويمكن اعتبار «الوصايا» رواية ريفية بامتياز، رغم أن بعض الوقائع تحدث في مدن وبلدات متعددة، وقد ترك هذا التنوع المناطقي أثره على لغة الرواية التي استعانت بكثير من المفردات الريفية التي وجدت طريقها إلى النص السردي، من دون أن تُخل باشتراطات اللغة الفصحى.
الشيخ عبد الرحمن سليم وشقيقه نعيم يمثلان الجيل الأول، وقد تزوج عبد الرحمن من خديجة التي أنجبت له ستة أولاد، مات اثنان منهم وبقي أربعة على قيد الحياة، وهم: عبد الله وصالح ونعيم وفاطمة. وإلى جانب زوجته، كان الشيخ عبد الرحمن يحب السيدة كوثر، زوجة صديقه نور الدين، لكنه لم يقترف إثماً، لأنه أيقن ببصيرته الثاقبة أن المتعة عابرة مهما طال أمدها، لكنها ظلت مثل الواحة في حياته العاطفية الجدباء، ولولا وجودها الفيزيقي لارتبكت حياته تماماً.
ويحاول هذا الشيخ أن يُخضع الأسرة برمتها لمشيئته، ويروضها على قبول أفكاره التي تنتمي لزمان غير زمانهم، لكنهم يتمردون عليه، وينفضون عنه تباعاً. يتزوج عبد الله من صفية، ويقترن صالح بفادية، ويرتبط نعيم بسعاد البندرية التي تنقل بذرة الاحتجاج والتمرّد من المدينة إلى القرية. وبموازاة الأولاد، هناك علي سليم، ابن شقيقه نعيم، الذي يلعب دوراً مهماً في تصاعد الأحداث. يتزوج علي سليم في بداية الأربعينات من نبيّة التي تُرزق بثلاثة أولاد، وهم: فادية وجمال ويوسف، ثم يموت متأثراً بمرض عضال. ولم يلتجئ عادل عصمت إلى المعطيات السياسية، وإنما لاذَ بمنظومة العقائد والتصورات الخرافية التي تنتعش في المجتمع المصري، خصوصاً في الطبقات الاجتماعية التي لم تنل حظاً وافراً من التعليم، فقدّم لنا شخصية الأم، السيدة خديجة التي تعتقد أنّ دارهم مسكونة، وأنها تخوض نزاعاً مع «مَنْ لا اسم لهم»، لأنهم يريدون أن يطردونهم من الدار، ويقيمون فيها.
وينغمس عبد الله بالعمل في «الغيط»، إلى جانب علي سليم، بينما يذهب صالح إلى «الكُتَّاب»، ومنه إلى كلية علوم الدين، ويتزوج على وفق مشيئة أبيه من فادية علي سليم، قبل أن يصبح إماماً ويُبعث إلى نيجيريا، في أول تصدع تشهده العائلة. أما نعيم، فقد أصبح مُعلِّماً، لكنّ الحكومة ساقته للجبهة، وأصيب بطلقة في كتفه، ثم تزوّج من سعاد، مدّرسة العلوم التي تسكن في الشقة المجاورة لهم في طنطا، والتي تجد صعوبة في الاندماج بحياة القرية.
أما الحفيد، أو «الولد الساقط» كما يناديه جده، لأنه سقط في امتحانات كلية الزراعة، فسوف يصبح مدرساً في مدرسة طنطا الزراعية، ثم يحصل على الدكتوراه في علم أمراض النبات.وتتظلّم نبيّة لأن الشيخ عبد الرحمن أخذ منها الحسابات، وأسندها إلى ابنه نعيم، وترك لعبد الله تصريف شؤون الأرض، أما هو فقد انصرف للتأمل والعبادة، وتدبير شؤون الناس الاجتماعية والقانونية.
ويموت صالح ويُدفن في القاهرة، لكن شقيقته فاطمة تقرر دفن جلبابه في مقبرة العائلة التي مات فيها الجد، ثم أعقبته السيدة خديجة. الخطأ الكبير الذي ارتكبه الجد كان عندما هدم البيت القديم، وبنى إلى جواره منزلاً جديداً. أما الأرض التي ضاعت في الثلاثينات، فقد أعادها الشيخ عبد الرحمن بعد مشقة متواصلة، لكنه قرر توزيعها وهو حي يرزق، مؤكداً وصيته الأخيرة التي تقول إن «التخلي هو أعظم الفضائل».
وهكذا، فقد تخلى عن البيت، والأرض الزراعية، والمتع العابرة في الحياة، لكنه ظل يقاوم شهواته حتى الرمق الأخير، لأنه حين أمسك يد كوثر أول مرة، وكاد أن يرتكب المعصية «انطلق صراخ وصفير، فأدرك أنها علامة» هزّته من الأعماق، فعاد إلى رشده من جديد. وتوحي هذه الرواية بأن شخصياتها ليست ورقية، وإنما هي من لحم ودم، ومشاعر وأحاسيس دفّاقة، وتتوفر على الصدق الفني الذي يُعدّ من أهم اشتراطات العمل الأدبي الناجح.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».