معركة طرابلس تعيد خلط الأوراق ... وتربك ردود الفعل الدولية

تحذيرات من أزمة إنسانية وتخوّف من حرب أهلية

معركة طرابلس تعيد خلط الأوراق ... وتربك ردود الفعل الدولية
TT

معركة طرابلس تعيد خلط الأوراق ... وتربك ردود الفعل الدولية

معركة طرابلس تعيد خلط الأوراق ... وتربك ردود الفعل الدولية

يأمل قادة مؤثّرون في «الجيش الوطني» الليبي أن تنتهي عمليتهم الدائرة حالياً لـ«تطهير» طرابلس باستقبال حافل «تنثر فيه الورود وتفوح فيه روائح الحنّة»، لكن «حكومة الوفاق» تظهر العزم على استمرار المواجهة، مستندة إلى دعم كتائب وميليشيات مسلحة متغوّلة في العاصمة ومناطق أخرى بشمال غربي ليبيا منذ اندلاع الانتفاضة التي أسقطت الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011. وبينما تتأرجح ردود الفعل الدولية، وتراوغ أحياناً، تحدث خسائربشرية ومادية، التي يرى داعمو العملية، التي بدأت في 4 أبريل (نيسان) الحالي، أنها ضرورية لـ«وحدة البلاد وأمنها»، كما قد تكون «آخر الخسائر والقلاقل المؤثرة».
وأمام احتدام المعركة على الأرض، التي حصدت في أسبوع واحد 56 شخصاً من الجانبين، اضطرت البعثة الأممية لدى ليبيا إلى تأجيل الملتقى الوطني الجامع، الذي كانت تحضر له منتصف الشهر الحالي في مدينة غدامس (أقصى غرب البلاد)، ورأت أنه «لا يمكن لنا أن نطلب الحضور للملتقى والمدافع تُضرب والغارات تُشن، دون التأكد من تأمين سلامتهم وحريتهم بالتعبير عن رأيهم». وما بين المؤيدين للعملية العسكرية والمعارضين لها، يُوجه بعض الذين تحدثوا إلى «الشرق الأوسط» اللوم لرئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، ويتهمونه بـ«الفشل» في لجم تحركات الميليشيات، التي كانت سبباً في اندلاع اشتباكات كثيرة، أريقت فيها دماء كثيرة خلال الأعوام الماضية، على مرأى ومسمع منه، منذ اعتلائه السلطة عبر «اتفاق الصخيرات».

لم تغادر العاصمة الليبية طرابلس، طيلة السنوات الثماني التي تلت «انتفاضة 17 فبراير»، أصوات الرصاص، ودوي الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، في اشتباكات متكرّرة تدور رحاها بين المجموعات المسلحة، وتعلو خلالها استغاثات المواطنين «طلباً للحماية».
وفي تلك الأثناء كانت أبرز الأسئلة المطروحة: متى يُنجز «تطهير» العاصمة من الميليشيات؟ ومن يمتلك القدرة على ذلك، لا سيما في ظل سيطرتها على مناحي الحياة بداية من التكسب من المال العام، ووصولاً إلى أروقة القضاء؟
أنظار غالبية القوى السياسية والنيابية الليبية اتجهت إلى «الجيش الوطني»، الذي كان قد فرغ أخيراً من «تحرير» مدينة درنة (شمال شرقي ليبيا)، ما دفع بقائده العام المشير خليفة حفتر إلى الاستجابة للنداءات التي أطلقها ساسة ونواب برلمانيون من شرق البلاد، متعهداً بالتحرّك نحو طرابلس «في الوقت المناسب وفقاً لخطة دقيقة ومدروسة». وهذا ما حصل منذ بداية الأسبوع الماضي، عندما أعطى حفتر أوامره إلى القوات المسلحة بالتوجّه إلى العاصمة «لتحريرها من الإرهابيين»، وأطلق على العملية اسم «طوفان الكرامة».

- المشهد الانقسامي
تتنازع على الحكم في ليبيا راهناً سلطتان؛ هما «حكومة الوفاق الوطني» برئاسة السراج التي شُكلت في نهاية 2015 بموجب «اتفاق الصخيرات» الذي رعته الأمم المتحدة وتتّخذ من طرابلس مقراً لها، وسلطات في الشرق الليبي مدعومة من مجلس النواب وداعمة لـ«الجيش الوطني» بقيادة حفتر. ومنذ سقوط نظام القذافي، تشهد ليبيا نزاعات داخلية مختلفة، لكن العملية العسكرية التي أطلقها حفتر يراها متابعون أنها عمّقت الأزمة في البلاد.
واللافت أن العملية العسكرية المستمرة أظهرت مفارقات كثيرة واتهامات متبادلة بين الجانبين. إذ اصطفت غالبية تنظيمات المُسلحين خلف السراج، بعد إخراجهم من العاصمة، لعل أبرزهم صلاح بادي قائد ما يسمي «لواء الصمود»، الذي وقف أمام مطار طرابلس الدولي عام 2014 بعد إضرام النيران به، وهو يكبر «الله أكبر ولله الحمد». غير أن قوات السراج التي أطلقت عملية «بركان الغضب» في مواجهة «طوفان الكرامة» ورأت أنها في «موضع دفاع عن النفس»، اتهمت «الجيش الوطني» بـ«استخدام الأطفال في الحرب، بدلاً من تركهم لمقاعد الدراسة».
هذه التهمة رفضها الدكتور محمد عامر العباني، عضو مجلس النواب، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «الجيش الليبي تنظمه القوانين العسكرية والتشريعات واللوائح المتعلقة بالتجنيد والتوظيف والاستخدام، التي تحدد سن الالتحاق بالجندية بما لا يقل عن 18 سنة».
واستطرد العباني: «لا يتصور أحد وجود قُصَّر في الجيش الوطني، اللهم إلا إذا كان ذلك في خيال الفاسدين أعداء الجيش» (حسب تعبيره). وللعلم، يتلقّى حفتر دعماً سياسياً من سلطة مجلس النواب، الموجود في شرق ليبيا. وفي الآونة الأخيرة، بسط «الجيش الوطني» سيطرته على مدن وبلدات في الجنوب الليبي، بينما يحظى المجلس الرئاسي لـ«حكومة الوفاق» بدعم دولي منذ توقيع «اتفاق الصخيرات» في المغرب نهاية عام 2015.

- الورود والحرب
ومنذ بداية العملية العسكرية، قبل 8 أيام، تشهد كل محاور القتال جنوب طرابلس، كرّاً وفرّاً بين الجانبين على المستوى الميداني، ونفياً متبادلاً لكثير من التقارير. وهذا، وسط نزوح واسع للمواطنين، وتصاعد شكاواهم من تضرّر منازلهم، إضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي ومياه الشرب عنهم، بحسب رئيس مجلس أعيان ليبيا للمصالحة محمد المُبشر لـ«الشرق الأوسط». بيد أن الناطق باسم «الجيش الوطني» اللواء أحمد المسماري يكرّر تطميناته إلى المواطنين بأن الجيش «لن يذهب إليهم غازياً أو محتلاً، بل يهدف إلى حمايتهم».
من جهة أخرى، يلاحظ أن «الجيش الوطني» يحقق مكاسب على الأرض، بعدما تموضع على أطراف العاصمة وضواحيها، زاحفاً نحو طرابلس عبر وادي الربيع وعين زارة، التي تبعد نحو 16 كيلومتراً عن قلبها. وبعدها سيطر على معسكر اللواء السابع بالعزيزية، بعد معارك شرسة خاضها في مواجهة القوات الموالية لحكومة السراج، فضلاً عن استحواذه على 14 آلية عسكرية، وهو ما عبر عنه اللواء عبد السلام الحاسي، الذي عينه حفتر رئيساً لمجموعة عمليات المنطقة الغربية أخيراً، في حديث سابق لـ«الشرق الأوسط»، بأن «النصر بات قريباً، والجيش يحقق تقدّماً مطرداً على الأرض... وأعتقد أن السكان سيستقبلون الجيش بالورود، وربما سيستوردون الزهور للاحتفالات».
هذا التفاؤل من جانب قيادات «الجيش الوطني» ردّت عليه قيادات قوات حكومة السراج بأنها هي الأخرى تواصل سيطرتها على مناطق «انتزعتها من قوات الخصم» الذي أراد «الانقلاب» على سلطة معترف بها دولياً، و«أسرت مجموعات كبيرة من المجندين للقتال بلغت 190 جندياً، غالبيتهم دون السن القانونية».

- سلاح «الشرعية»
تداعيات الأمور وتسارع وتيرتها والمعركة الحامية على جميع محاور القتال حجزت مكاناً شاسعاً على طاولة السياسيين، خصوصاً المؤيدين للعملية العسكرية. إذ عاد مجلس النواب إلى التذكير بـ«أن لا شرعية لحكومة الوفاق»، و«يبارك عملية تحرير طرابلس». وحقاً، ارتفع عدد النواب المؤيدين للعملية العسكرية إلى 46 عضواً، ذهبوا إلى مطالبة المجتمع الدولي ومجلس الأمن وكل الدول الفاعلة «برفع الاعتراف عن حكومة الوفاق».
واعتبر هؤلاء أن السراج «أصبح طرفاً في النزاع بدعمه الإرهابيين الذين يقاتلون الجيش»، وأن مجلسهم هو من «أعطى الشرعية للقوات المسلحة لمحاربة الإرهاب وتخليص البلاد من هيمنة وسيطرة الميليشيات».
وانتقل التلويح باستخدام سلاح «الشرعية» إلى مطالبة وزارة الخارجية التابعة لـ«الحكومة المؤقتة» في شرق ليبيا، البعثات الدبلوماسية الليبية، بإخطار الدول المعتمدة لديها بأن «الحكومة المؤقتة»، برئاسة عبد الله الثني، هي الحكومة الشرعية الوحيدة المعترف بها.
وفي تعميمٍ حمل توقيع حبيب الميهوب، وكيل وزارة الخارجية والتعاون الدولي بـ«المؤقتة»، خاطب في نهاية الأسبوع الماضي، جميع السفارات والقنصليات والمندوبيات والبعثات الدبلوماسية الليبية، بتفعيل قرار سابق للبرلمان صوت عليه غالبية النواب، بلا شرعية «حكومة الوفاق».
ومن ثم، انعكست الانقسامات داخل ليبيا على سفاراتها وقنصلياتها في الخارج خلال السنوات السابقة، بين البعثات الدبلوماسية الموالية لـ«الوفاق» من جهة و«المؤقتة» من جهة ثانية، وكانت السفارة الليبية في القاهرة مسرحاً لكثير من تبادل الاتهامات، والاشتباكات التي وصلت إلى استخدام الرصاص ذات مرة.

- تهم «إرهاب» و«جرائم حرب»
كذلك، الكر والفر على محاور القتال، قابله تلاسن وتوعّد بالحساب والمعاقبة. إذ تعهد السراج «بإحالة ملفات مرتكبي جرائم الحرب» في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية، وأبلغ في اتصال هاتفي مع المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة، أن «الأجهزة القضائية الليبية ستقدم للمحكمة ملفات متكاملة بجرائم الحرب وانتهاكات القانون وأسماء وصفات الأفراد المتهمين بارتكابها».
وعبّرت بنسودة، من جانبها، عن «أسفها للهجوم الذي تتعرّض له العاصمة، وأكدت إدانتها استهداف المنشآت المدنية وتعريض المدنيين للخطر». وزادت متعهدة بأن «المحكمة الجنائية الدولية لن تتهاون ولن تتردد في مقاضاة الأفراد المتهمين بجرائم حرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، وفقاً لتعريفات القانون الدولي».
ولكن في مواجهة توعّد السراج للمهاجمين، وجهت القيادة العامة لـ«الجيش الوطني» المدعي العام العسكري للقبض وإحضار 23 شخصاً من العسكريين والمدنيين، لاتهامهم بـ«ارتكاب جرائم أو دعم الإرهاب في ليبيا». وشمل أمر القبض، الذي كشف عنه اللواء المسماري، الناطق باسم القيادة، أسماء عسكريين، منهم لواءات بعضهم موالٍ لحكومة السراج، وبعض آخر يتبع قوات «فجر ليبيا»، بالإضافة إلى رئيس أركان القوات المسلحة الأسبق الذي عيّنه «المجلس الوطني الانتقالي»، اللواء متقاعد يوسف المنقوش.
بل تضمن قرار الضبط، السراج نفسه، و3 من نوابه، بالإضافة إلى عبد الرحمن السويحلي الرئيس السابق لـ«المجلس الأعلى للدولة» وخليفة الغويل رئيس «حكومة الإنقاذ» التابعة لـ«المؤتمر الوطني العام» (المنتهية ولايته) والصادق الغرياني، المفتي الليبي المعزول، الذي يقيم في تركيا.

- المواقف الدولية
ولم يبتعد الموقف المحلي كثيراً عن ردود الأفعال الدولية، التي بدت في العلن متأرجحة، بل مراوغة أحياناً، على عكس ما يجري في الكواليس. فبينما كانت قوات حفتر في طريقها من شرق ليبيا إلى غربها، سارعت بريطانيا إلى دعوة مجلس الأمن الدولي للانعقاد.
واقترحت صدور بيان رئاسي عن المجلس وليس بياناً صحافياً (البيان الرئاسي يتمتع بصفة رسمية أكثر من البيان الصحافي) يدعو حفتر لوقف هجومه، لكن روسيا اعترضت على ذلك، فغاب الإجماع وسقط الاقتراح البريطاني.
ورغم أن الموقف الفرنسي جاء مماثلاً للموقف الروسي، فإن باريس عادت بعد يومين من انعقاد جلسة مجلس الأمن ونفت على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية، أنييس فون دير مول، أن تكون بلادها قد عرقلت بياناً للاتحاد الأوروبي يدعو حفتر إلى وقف زحفه.
لكن رئيس البرلمان الأوروبي أنطونيو تاجاني، بدا أكثر حسماً، وأعلن أن ثمة خلافاً بين فرنسا وإيطاليا بشأن السياسة تجاه ليبيا، رغم وحدة الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي الذي عبرت عنه مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد. وحثّ تاجاني، وهو إيطالي، دول الاتحاد الأوروبي على «التكلم بصوت واحد» فيما يتعلق بالصراع في ليبيا، مذكراً بدور فرنسا وبريطانيا في الإطاحة بالقذافي، وهو التحرّك الذي وصفه بـ«الخطأ» وتسبب في «إشاعة الفوضى» في ليبيا.
وتوالت المواقف الإيطالية للتأكيد على أن الوضع في ليبيا «هشّ للغاية». واستند رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، على توقعات الأمم المتحدة، قائلاً إنها أكدت «احتمالية تفاقم الأزمة الإنسانية في الساعات والأيام المقبلة...
وبالتالي، علينا العمل أولاً باتجاه وقف إطلاق النار وإنهاء فوري للمواجهة العسكرية المتصاعدة».
وذهب نائب رئيس الوزراء الإيطالي لويجي دي مايو أبعد من ذلك، قائلاً إنه ليس لدى إيطاليا أي نية لاستخدام القوة العسكرية للتدخل في الصراع الليبي.
وفي هذه الأثناء، على الأرض، دفع احتدام المعركة تونس إلى التخوّف من سقوط ليبيا في أتون الحرب الأهلية. واضطر الاتحاد الأوروبي إلى إجلاء أفراد بعثته المساعدة من طرابلس المكوّنة من 20 فرداً، والعودة بها ثانية إلى تونس، حيث مقر البعثة.
مع هذا، ورغم كل ما يحدث في العاصمة، لم يفقد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الأمل، إذ إنه رأى «أن الوقت ما زال متاحاً لوقف العنف وتجنب الأسوأ في ليبيا».


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».