«الإمبراطورية الأخيرة»... لماذا انهار الاتحاد السوفياتي؟

الأميركيون فوجئوا به وكان تأثيرهم محدوداً

«الإمبراطورية الأخيرة»... لماذا انهار الاتحاد السوفياتي؟
TT

«الإمبراطورية الأخيرة»... لماذا انهار الاتحاد السوفياتي؟

«الإمبراطورية الأخيرة»... لماذا انهار الاتحاد السوفياتي؟

هل كان انهيار الاتحاد السوفياتي نتيجة انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة؟ وهل ساعدت التصورات المبالَغ فيها عن التأثير الأميركي في السياسة الدولية على شيوع نظرية المؤامرة، التي تعتبر أن ما جرى في ديسمبر (كانون الأول) عام 1991، كان نتيجة جهود المخابرات المركزية الأميركية؟
كتاب «الإمبراطورية الأخيرة.. انهيار الاتحاد السوفياتي» الذي صدر بعد 25 عاماً من الأحداث، يكشف عن أسرار هذا الانهيار، ويضع التفسير الغالب لسقوط القطب الثاني الذي حكم العالم مع الولايات المتحدة زمن الحرب الباردة محل شك، كما يكشف مؤلفه المفكر الروسي سيرغي بلوخي في الكتاب الذي انتهى من ترجمته حديثاً الدكتور نبيل رشوان عن اللغة الروسية، وهو قيد الطبع، ضعف الدور الأميركي في هذه القضية، مدللاً على ذلك بما أعلنه الرئيس جورج بوش ومستشاره للأمن القومي برينت سكوكروفت، في ذلك الوقت، بشكل علني، عندما اعترفا بأن تأثيرهما فيما جرى كان محدوداً.
يقول بلوخي، وهو مؤرخ متخصص في تاريخ أوكرانيا وأوروبا الشرقية، والدراسات المتعلقة بالحرب الباردة، ويعمل أستاذاً بجامعة هارفارد: إن التصورات الأميركية عن نهاية الحرب الباردة بصفة عامة أخذت منحى أسطورياً، كما أن الربط، الذي قامت به، بين انتهاء الحرب الباردة وخسارة الحزب الشيوعي السوفياتي سلطته وانهيار الدولة يناقض الواقع، أما رؤيتها أنه كان ثمرة لسياسة الولايات المتحدة فتحتاج إلى إعادة نظر.
ويكشف بلوخي عن أن الوثائق التي تم الكشف عنها منذ فترة قصيرة، في مكتبة جورج بوش الابن بما في ذلك مذكرات مستشاريه ومحاضر تسجيل أحاديث بوش الأب مع قادة العالم، تشهد بأن الرئيس نفسه ومستشاريه حاولوا إطالة أمد الاتحاد السوفياتي؛ فقد كان يفزعهم تنامي تأثير بوريس يلتسين، وسعي الجمهوريات السوفياتية للاستقلال بعد انهيار الاتحاد؛ مما جعل الولايات المتحدة تطالب بضم كل مخزون الاتحاد السوفياتي من الأسلحة النووية لروسيا، والحفاظ على التأثير الروسي على الفضاء السوفياتي السابق، وبالدرجة الأولى على جمهوريات وسط آسيا.
ويوضح مترجم الكتاب نبيل رشوان في تقديمه، أنه بمساعدة هذه الوثائق نستطيع تتبع تناقضات سياسة الإدارة الأميركية بين عدائها المعلن للاتحاد السوفياتي السابق، ومحاولتها إنقاذ جورباتشوف، الذي نظرت إليه باعتباره الحليف الرئيسي على الساحة الدولية. وللوصول إلى هذا الهدف، كان البيت الأبيض على استعداد للموافقة على بقاء الحزب الشيوعي السوفياتي، والمنظومة السوفياتية بأكملها.
ويذكر رشوان، أن هذه السياسة ترجع، حسب وجهة نظر المفكر الروسي، إلى خشية الولايات المتحدة من تحول الاتحاد السوفياتي إلى «يوغسلافيا بسلاح نووي»، وهو ما دعاها إبان إدارة بوش لبذل أقصى ما في وسعها لعمل توافق بين لغة وتفكير عصر الحرب الباردة، وبين الواقع الجيوسياسي الذي أتى بعدها، وقد تبين أن تأثير ذلك أكثر جدوى من التصريحات الهوجاء.
يتكون كتاب «الإمبراطورية الأخيرة» من 18 فصلاً، وضع بلوخي كل مجموعة منها في جزء، أعطاه عنواناً جانبياً، وكان الأول بعنوان «القمة الأخيرة»، وتحدث فيه عن اللقاء الأخير الذي تم بين جورج بوش الأب، والرئيس الروسي غورباتشوف، في 30 يوليو (تموز) 1991 في قاعة إيكاتيرينا بقصر الكرملين الكبير، وموت الحزب الشيوعي السوفياتي إكلينيكياً، حيث أدى الخروج الجماعي منه إلى معضلة جديدة لقيادته. وقد حذر سكرتير اللجنة المركزية أوليج شينين في يناير (كانون الثاني) 1991 سكرتيري لجان الجمهوريات والمناطق، وكان الكثيرون من الذين غادروا الحزب الشيوعي السوفياتي في 1990 من العمال والفلاحين، ولفت إلى أن هذا يعد إنذاراً ومثار قلق كبير للحزب الذي يفخر بانحيازه للبروليتاريا، لكن الأخطر - من وجهة نظره - كان خروج المثقفين.
وفي الجزء الثاني الذي يأتي بعنوان «دبابات أغسطس» تحدّث المؤلف عن حجز غورباتشوف في مقر إقامته الصيفية عند البحر الأسود، ومحاولة الانقلاب الفاشلة التي قامت ضده، أثناء قضائه إجازته في قرية فوروس بيالطا، والسيناريوهات التي استعدت بها الإدارة الأميركية للرد على قادة البلاد الجدد حال تملصوا من تنفيذ بنود الاتفاقيات الخاصة بالسلاح النووي، وانسحاب القوات الروسية من ألمانيا الشرقية، وقادة الدول الأوروبية الأخرى، التي كانت ترعاها موسكو في ذلك الوقت.
بلوخي يقترح في كتابه مناقشة أعقد لما جرى منذ 28 عاماً، ويدعو إلى تجنب التفسير السطحي لما حدث عام 1991، وهو أنه يتفق والآراء القائلة إن خسارة سباق التسلح، والتدهور الاقتصادي، وغياب الديمقراطية، والإفلاس الإيديولوجي للشيوعية، لم تكن في حد ذاتها هي التي حددت سلفاً انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن السبب كان الموروث الإمبريالي، والتعدد العرقي للسكان، والنظام شبه الفيدرالي، الذي كان يتبعه الاتحاد السوفياتي في بنيته. ويشير إلى أن أهمية هذه العوامل لم يدركها لا السياسيون ولا حتى مستشارو جورباتشوف.
ويشير بلوخي إلى أن انتصار البلاشفة في الصراع الذي دار أثناء الثورة الروسية، مكّنهم من الحفاظ على الإمبراطورية الروسية. وقاموا بإعادة تنظيم الدولة بما يشبه الفيدرالية على الأقل وفقاً للدستور، وهو الذي أبقى روسيا دولة متعددة القوميات، لكن هذه العوامل هي نفسها التي أدت إلى مصير الإمبراطوريات السابقة، حيث كانت أغلب الجمهوريات في عام 1990 لها رؤساؤها، ووزارات خارجيتها، وبشكل أو بآخر تشكيلاتها الديمقراطية، لكن العالم حتى عام 1991 لم يكن يفهم أن الاتحاد السوفياتي لا يعني روسيا فقط.
إن انهيار الاتحاد السوفياتي، كما يشير المؤلف، ظاهرة مشابهة لما حدث في القرن العشرين من انهيار الإمبراطوريات، النمساوية، والمجرية، والعثمانية، والبريطانية، والفرنسية، والبرتغالية. وفسر تسميته الاتحاد السوفياتي بـ«الإمبراطورية الأخيرة» ليس لأنه في المستقبل لن تكون هناك إمبراطوريات، لكن لأنه كان الدولة الأخيرة، التي حافظت على إرث «تقليدي» لإمبراطورية في العصر الحديث.
إن انهيار الاتحاد السوفياتي، كما يضيف، كان نتيجة عدم توافق منظومة الإدارة الإمبراطورية مع الديمقراطية الشعبية، فبعد «إدخال جورباتشوف عام 1989 عناصر ديمقراطية شعبية، كان على السياسيين من روسيا التفكير في الإجابة عن سؤال مهم، يتمحور حول استعدادهم لتحمل عبء الإمبراطورية. وقد كان على السياسيين من الدول الاتحادية الأخرى، بالتالي حل معضلة ما إذا كانوا يرغبون في البقاء ضمن الإمبراطورية. وقد أجابوا جميعاً في نهاية الأمر بـ«لا».
إن أول إمكانية للانفصال عن الإمبراطورية، كما يقول المترجم والمقدم، استغلها قادة جمهوريات البلطيق ومناطق غرب أوكرانيا، الأراضي التي تم ضمها إلى الاتحاد السوفياتي بالقوة وفقاً لاتفاق مولوتوف - ريبينتروب (1939). بعد ذلك، اتبعهم السياسيون من روسيا ومناطق شرق أوكرانيا، الذين انضموا إلى الاتحاد السوفياتي قبل الحرب العالمية الثانية. وسعى القادة الديمقراطيون لجمهوريات البلطيق وجورجيا وأرمينيا للحصول على استقلالهم. أما في الجمهوريات الأخرى فاستمرت النخبة القديمة في التمسك بالسلطة. إلا أنه بعد توقف الدعم من جانب غورباتشوف، وقعوا في مأزق الاعتماد على نتائج الانتخابات للاستمرار السياسي. وهذا أجبرهم على الاتفاق مع القوى الديمقراطية المتنامية. وقد أدت محصلة هذه الأحداث إلى تفكك الاتحاد السوفياتي إلى خمس عشرة دولة وفق الحدود القديمة لكل جمهورية.
ويركز بلوخي على تحليل الأحداث التي جرت في الأشهر الخمسة الأخيرة من عام 1991، عندما تغير العالم بالمعنى الحرفي للكلمة. ففي نهاية يوليو (تموز)، قبل أيام عدة من زيارة جورج بوش لموسكو والتوقيع على وثيقة تاريخية تتعلق بنزع السلاح، توصل رئيس الاتحاد السوفياتي غورباتشوف وزعيم روسيا الاتحادية يلتسين إلى اتفاق مصيري حول إصلاح الاتحاد السوفياتي، كان سبباً في حدوث انقلاب أغسطس (آب)، ثم استقالة غورباتشوف من منصب الرئيس، التي كانت نقطة النهاية في تاريخ الاتحاد السوفياتي.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.