«بيت مخلوع النعل»... صورة مجتمع في مرآة الفساد

حمدي عابدين يتذكر «تلك الأزمنة» في روايته الجديدة

«بيت مخلوع النعل»... صورة مجتمع في مرآة الفساد
TT

«بيت مخلوع النعل»... صورة مجتمع في مرآة الفساد

«بيت مخلوع النعل»... صورة مجتمع في مرآة الفساد

يبني الشاعر حمدي عابدين نسقه السردي في روايته «بيت مخلوع النعل» الصادرة حديثا عن دار ميريت، على آلية التذكر، تذكر ما مضى، وما آل إليه من تداع وسقوط، تارة من خلال صوت الأم التي تحكي لابنها، محاولة أن تطلعه على ماضي عائلته وحكايات الأجداد، في بلدته المطلة على النيل بصعيد مصر، وأحيانا على لسان الكاتب الراوي السارد الذي يعثر على صندوق جده بين الحطام والكراكيب مستعينا بما حواه من مذكرات في كشف الغامض والمهمش والمسكوت عنه في سيرة تلك العائلة وما واجهته من صعود وانكسار في واقعها الاجتماعي والسياسي. لذلك يبدو السارد وكأنه عين محايدة، تتخذ من تلك المذكرات قناعا تدير دفة السرد من خلفه، صانعة نوعا من التوازي بين الوقائع والأحداث، وأزمنة حدوثها المفتوحة على قوس تمتد من أربعينات القرن الماضي حيث حرب 48 واستشهاد «فائق» الأخ الأكبر للجد غطاس صاحب المذكرات كبير القساوسة بالكنيسة، مرورا بنكسة 67 وخطاب التنحي الشهير للزعيم جمال عبد الناصر، ثم فترة السبعينات بما شهدته من سياسات الانفتاح العقيمة في عهد السادات، وانتشار مد التطرف السلفي، وبروز جماعات العنف السياسي باسم الدين، وسطوة رأس المال وتفشي الفساد في كل أركان المجتمع ؛ تاركا للمتلقي تصور ما يمكن أن تكون عليه صورة المستقبل لواقع مأزوم وأبطال مأزومين بالضرورة، محاصرين حتى في أحلامهم ورؤاهم، إلى حد الشعور بالاختناق ولا جدوى للحياة.
تطمح لعبة التوازي في أن تجعل السرد مرآة صغيرة تنعكس عليها صورة المجتمع في تلك الأزمنة، وتنجح في تضفير الأحداث والربط بين دلالاتها، وما يحدث من تغيرات عشوائية متسارعة في بنية الواقع، لكن هذا التوازي يخفق أحيانا في سبر الأغوار النفسية للشخوص، فتتسع المسافة بين ما يعتمل في دواخلهم، وما ينتهشهم من شظايا الخارج، ولا يبقى سوى الاستسلام لهذه الشظايا بلا أدنى مبالاة، فيلقى بعضهم حتفه بشكل عبثي، لم يخطر على البال، مثلما حدث لإثناسيوس، الشخصية المركزية في الرواية، فهو بطل هجين، نصفه قبطي، ونصفه الآخر مسلم، وبينما يبدو إثناسيوس على مدار الرواية مشدودا بقوة إلى نصفه الأول القبطي، لأنه الأصل والجذر، يبدو نصفه الثاني المسلم مجرد استعارة باهتة، ابنة مزاج ضال، وفي لحظة فارغة، ليس هناك ما ينميها ويعمقها في نسيج الرواية، وتبرر لجوءه إلى التخلي عن قبطيته وانتقاله للعمل بالقاهرة... فلماذا أسلم إذن مدرس الفلسفة، ما التحولات الفارقة التي عصفت به جسدا وروحا حتى يتخلى عن دينه، ويفشل زواجه، وحبه المستعار أيضا لامرأته المسلمة، لاعبة الجمباز الجميلة زميلته في العمل، حتى يتركها تذهب للمشفى بمفردها لتنجب طفلها الوحيد، جالسا في البيت يعاقر الخمر؟!
لم نر إثناسيوس يقرأ القرآن، أو يصلي في المسجد، بينما ظل قلبه معلقا بجارته «جورجيت» الشابة القبطية، وبعد موته المفاجئ، إثر زواجه المفاجئ أيضا من مديحة الشابة الجامعية المشردة التي جندتها الشرطة لتكتب تقارير عما يحدث في الجامعة، وفي أجواء مقاهي وبارات وسط البلد... يكتشف الابن رسالة غرام حارقة كتبها والده لجورجيت، كان يحملها في حقيبته الصغيرة كتميمة عشق، يواصل قلبه في ظلالها مغامرته البائسة في الحياة.
تضعنا الرواية هنا أمام صندوقين للحكايات، فإضافة لصندوق الجد، ثمة صندوق آخر للأب، ما يجعل الابن المشغوف بحب أمه يتساءل بأسى شفيف على لسان «الكاتب السارد» في (ص132): «ما أدهشني في الأمر، هو أنه تزوج من أمي، وهو يتظاهر بأنه يحبها، فهل تظاهرت هي الأخرى بحبه، أما الأكثر غرابة فقد كان زواجه من مديحة تلك المرأة التي تعيش الآن على سيرة بنات الليل».
يقرأ الابن الرسالة عدة مرات، وتزداد أسئلته وحيرته، ويقرر أن يبحث عن حبيبة والده ويوصلها لها... هنا يشف ملمح أحسب أنه من أهم جماليات الكتابة في الرواية، حيث يتحول السرد إلى طاقة للسؤال والتوق إلى المعرفة والحرية والجمال... يقول الكاتب السارد في الصفحة نفسها (132)، واصفا قراره بتوصيل الرسالة وكأنه لحظة فرح واكتشاف جديد لصورة والده: «ظللت لساعات أفكر في الأمر، بعد أن طرحت الرسالة جانبا، ذهبت لأمي ولم أشأ أن أخبرها بشيء، لكنني قررت فجأة أن أبحث عن جورجيت، وأسلمها خطاب إثناسيوس، رغبة مني في أن أضيء جانبا من جوانب روحه، وأجعله يشعر بقليل من السعادة التي افتقدها بسبب تخليه عن حبيبته، قلت ربما يريحه قليلا وصول الرسالة إليها، وهو في الحياة الآخرة».
المشهد نفسه يتكرر، فلا تكتفي «نجفة» المرأة المتصابية غير المتعلمة تاجرة المخدرات، ببسط نفوذها وسطوتها على المدينة وأهلها، وعلى رجال السلطة والأمن، وشباب الجماعات السلفية، والانتقام من سعد الأفوكاتو، بشراء قصره التحفة الأثرية النادرة وهدمه وتحويله إلى مجموعة من البنايات الشائهة، حتى يهرب من المدينة هو أسرته إلى باريس. لا تكتفي «نجفة» بذلك؛ فقد تعودت أن تشتري كل شيء بأموالها الباذخة، فتقرر الانتقام من عائلة الجد غطاس في ابنته مارثا «الجميلة المثقفة عاشقة الموسيقى، وتنجح في تزويجها من (جالوس) المجرم (صبّاغ الحمير) أحد رجالها الأقوياء، بعد فشل اعتمادها على ابنها (جداوي النطع) الذي طرد من المدرسة، ولا يعرف في الحياة سوى التبول في المكان، والبصق في وجوه الناس»... يكبر جالوس «مارثا» بأكثر من ثلاثين عاما، ومن أجل الزواج تتخلى عن قبطيتها، وتشهر إسلامها، وتنتقل للعيش معه بالقاهرة، ثم تكتشف أنه يعاملها كعبدة، فيصارحها بأنه اشتراها من نجفة بعشرة آلاف جنيه، ثم يتزوج عليها، لتصبح مجرد عبدة لخدمته هو وزوجته.
يوظف الكاتب «مارثا» كأداة للانتقام من «نجفة» تاجرة المخدرات، وعصابتها، فتستغل سكر جالوس وتسجل له كل ما يتعلق بالعصابة، وتسلمه لضابط الشرطة.
تشد الرواية هذا المشهد الواهن إلى معنى أعمق إنسانيا وفنيا، تومض فيه فكره التطهير المسرحي، فمارثا بعد أن سلمت الشرائط، تطالعنا صورتها على هذا النحو كما تصفها الرواية (125): «سارت على الكورنيش، راحت تفرد ذراعيها، تريد أن تعب هواء الكون كله في صدرها، تريد أن تصعد فوق أكتاف المارة وتصرخ، تبعث رسالة مع الريح لأمها، بحروف مبللة بالدموع، تستعطفها وتقبل يديها... أنا مارثا ابنة غطاس يعقوب، تعرفينني يا أمي، لا أريد أكثر من أن تسامحيني».
إنها إذن مصائر متشابكة بين بشر يتشابكون أيضا في المكان، يبحثون عن حلم العدالة النبيلة، لكنهم يفترقون، تحت وطأة عقد النفس وفساد المجتمع، كل يبحث عن عدالته الخاصة، ولو بالتعسف والظلم، يلوذون بالنص كأنه مظلة للاختباء من حياة أضاعوا دفتها، ولم يستطيعوا عيشها بشجاعة، حتى يغادروها بشجاعة أكثر.
فها هو إثناسيوس الذي جعل من المحبة حكمته وضالته، لم يستطع أن يودع أباه إلى مثواه الأخير بعد أن أوصدت أمه الباب في وجهه قائلة له بحدة: «لقد غادرت بيت أبيك حيا، ولا يمكن أن تعود إليه بعد موته... الاختيارات قيود في أعناقنا يا ولد، وليسامحك الله». وها هو الثلاثي المرح وسهراتهم الرائقة الشهية: الشيخ خليفة، الأزهري، عازف العود، مدرس اللغة العربية والدين، في المدرسة الملحقة بالكنيسة، والجد غطاس كبير القساوسة، وسعد الأفوكاتو المستنير المتعلم في باريس... ها هو ينفض في غمضة عين مخلفا سؤالا ممضا، سيظل معلقا في سقف ذاكرة الكاتب السارد، وسيظل يلامسه بحيرة أكثر في كل مرة قائلا (ص95): «لم يعد لدى أبي غير الحكايات القديمة المكرورة، مع سؤال محير، ظل يجلب معه النشيج، والبكاء الحار: لماذا نكره بعضنا، كان أبي يقول: أنا مثلا قدامك أهو مسلم ومسيحي، ومش بكره نفسي، وغطاس كان صديقَه شيخ اسمه خليفة، هل تعرف الشيخ خليفة، كان لا يفارق العود يده، والغناء عن حنجرته، ليه بقى بيكرهوا دول..!».
لا تكمن الإجابة هنا في حلم الجد غطاس، بأنه كان راكبا في عربة قديمة أعطاه سائقها ورقة مكتوبا فيها «مخلوع النعل»، ولا في رفض موثق العقود وسخريته من غطاس بأن يسمي ابنه الوليد «مخلوع النعل» وإنما تكمن في وطن كل يوم تتململ هويته، يحتاج إلى شهادة ميلاد من جديد، يتطهر بها من الفساد، الذي طال الروح والجسد، وهو ما جسدته الرواية بصدق.



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.