«داعش»... ما بعد السقوط

حول «الموجة الرابعة» من الإرهاب

طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
TT

«داعش»... ما بعد السقوط

طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)

لا يزال من الصعب إدراك سبب استمرارية عدد من التنظيمات الإرهابية، رغم اختفاء مسببات نشوئها وبداياتها.
وأقرب مثال على ذلك ما يحدث مع تنظيم «داعش». فرغم أنه يتشظى، فإنه تمرّس في التحور، بدءاً من إعلانه إنشاء خلافة إسلامية تمتد ما بين العراق وسوريا، وانتقالاً إلى التمدد في بقاع مختلفة من العالم كميليشيا متشرذمة، ومن ثم التحول السريع إلى ذئاب منفردة وهجمات إرهابية مصغرة؛ كل ذلك يفضي إلى التوغل في مسببات استمرارية بعض التنظيمات وانحسار الأخرى.

ما يطيل من صمود تنظيمات مثل «القاعدة» و«داعش» يتمثل في استراتيجياتهم المرتكزة بشكلٍ أساسي على فكرة «عولمة الصراع» و«عالمية المواجهة» مع الغرب، والنظم العربية التابعة له. وفي كتاب «الجماعات القتالية المعاصرة: الأفكار، الرموز، المرجعيات والمرتكزات»، للكاتب محمد توفيق، يتطرق المؤلف إلى أهمية هذا المنطلق لديمومة هذه التنظيمات، ويبرز توجههم هذا من خلال نسق الخطاب التعبوي لديهم، والعقد الخطابية التي - حسب فوكو - تعتمد في خطاب التجنيد والحشد والمواجهة على أدبيات تدلل على ذلك بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ. الأمر الذي يوظف لجعل الحركة الجهادية ومسرح عملياته خارج حدود بلدان معينة، وأشارت مضامين وتطبيقات كتاب «إدارة التوحش»، لأبي بكر ناجي، لنمط المواجهة العالمية الشاملة الذي تبناه تنظيم «القاعدة» وطوره «داعش» بوحشية أكبر. وتلك من الأمور التي يعتمد عليها التنظيم، بارتكاز على اللامركزية في نقل المعركة إلى خارج الأراضي السورية، وبشكل أكثر تأثيراً مما كانت عليه «القاعدة» في السابق. لقد حازت ديموغرافيا تنظيم «داعش» على ما يمثل نقطة تمييزية عن التنظيمات الأخرى، وذلك من خلال فكرة «النكاية» واسعة الأبعاد والأهداف، مع تصدير «رعب الصورة» و«التخويف السينمائي» الذي يمارسه التنظيم. وقد وصف روبن سيمكوكس، المراسل المختص بالشؤون الأمنية من مؤسسة «هيريتيج»، قدرة تنظيم «داعش» على ترويج نفسه بأنه جعله أشبه بـ«ماركة» تشجع الآخرين على نسب هجماتهم الإرهابية وتطرفهم إلى تنظيمهم، وفي ذلك إشارة إلى القدرة القوية للترويج لدى التنظيم، وتجنيد أكبر عدد من المتأثرين برسائله الإعلامية المتطرفة. وهنا يستدعي التطرق إلى مدى تأثير مثل هذه الإيديولوجية المتطرفة الدينية الإشارة إلى نظرية موجات الإرهاب الأربع في العصر الحديث.

موجات الإرهاب في العصر الحديث

عام 2004، نشرت دراسة قام بها دايفيد بابوبورت، أحد أهم مؤسسي دراسات علم الإرهاب ومنظريه منذ السبعينات، وتصاعد صيت نظرية «موجات الإرهاب الأربع» في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، إذ يشير بابوبورت إلى أن العالم مر في العصر الحديث بأربع موجات من الإرهاب: الموجة الأولى كانت من خلال الإرهاب الفوضوي، تحديداً في 24 يناير (كانون الثاني) 1878، حين أطبقت فيرا زاسولتش، وهي شخصية معروفة بتطرفها الفوضوي، النار على شرطي في مدينة بطرسبرغ في روسيا، نتيجة جلده مساجين سياسيين، حين قالت جملتها الشهيرة: «أنا إرهابية، لست بقاتلة»؛ هذه الموجة استمرت إلى نهاية 1890.
وظهرت موجة الإرهاب الثانية، التي أطلق عليها بابوبورت اسم «موجة ما بعد الاستعمار»، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبعد انحسار الموجة الفوضوية العدمية. وتصاعد هذا الإرهاب نتيجة الانتهاكات التي حدثت إبان الاستعمار الأوروبي. وأحد أشهر التنظيمات المتطرفة منظمة «الجيش الجمهوري الآيرلندي» (IRA) التي نشأت بهدف تحرير آيرلندا الشمالية، وتوحيد الجزيرة الآيرلندية. وفي تلك الحقبة، تصاعد تداول مصطلح «المقاتلين الأحرار».
وبزغت بعد ذلك موجة الإرهاب الثالثة «اليسارية الجديدة» في منتصف الستينات، وقد جاءت كردة فعل على الحرب على فيتنام، مع ثورة الاتصالات والتقنية. وبعد انحسار الموجة اليسارية، ظهرت موجة الإرهاب الرابعة التي يمر بها العالم مؤخراً، وهي بلا شك موجة «الإرهاب الديني»، التي استحوذ فيها التطرف الديني. وقد بدأت في أعقاب الثورة الروسية التي قادها لينين، والثورة الصينية التي قادها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وتلتها الثورة الخمينية في إيران. ويتوقع أن تبدأ الموجة الدينية بالانحسار، وصعود موجة خامسة من الإرهاب، يتوقع أن تكون أقرب للقومية الإثنية.

التشظي والتمدد

ورغم تزايد الرهان على شل حركة التنظيم الداعشي، نتيجة استهدافه من قبل التحالف الدولي، والتخلص من وجوده في سوريا والعراق، فإنه لا يزال هناك قلق حيال معاودة التنظيم لملمة أشلائه في المنطقة، وبالأخص من خلال المناطق الحدودية، نتيجة لاستمرار عدم الاستقرار الأمني هناك. وقد حذر الجنرال الأميركي جوزيف فوتيل من ذلك، وذكر بأن كثيراً من مقاتلي «داعش» تركوا مناطق تركزهم، ليتوزعوا في كثير من المناطق المختلفة في سوريا والعراق عن عمد، وبأنها كانت «خطوة مدروسة» من قبلهم من أجل المحافظة على قدرات التنظيم على القتال في المستقبل، ولحماية أهاليهم، وانتظار الوقت المناسب للصعود من جديد.
وفي هذا الإطار، يسعى التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، إلى محو وجود ما يسمى «الخلافة الداعشية» في المنطقة، بدءاً باجتثاث والتخلص من زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، الذي أعلن عن تأسيسها في العراق في عام 2014، في خطبته الشهيرة في مسجد النوري. وقد رصد التحالف الدولي مكافأة تصل إلى 25 مليون دولار لمن يبلغ عن مكان وجوده، وإن أشارت السلطات العراقية إلى عدم وجود البغدادي في العراق، وإلى احتمال وجوده في شرق سوريا، إلا أنه قد تم توزيع منشورات في مدينة الرمادي في العراق، كتب فيها إن «قائد (داعش) ومقاتليه سرقوا أرضكم، وقتلوا أهلكم، وهو الآن مختبئ بأمان بعيداً عن الموت والدمار الذي زرعه، وبمعلوماتك تستطيع أن تنتقم منه ومن دماره».
من جهة أخرى، يظهر تنظيم «داعش» براغماتية مفرطة جعلته قادراً على تطوير هويته، من تلك المرتكزة على ما يسمى «خلافة إسلامية» في منطقة محددة، وانتقال تحركاته وأنشطته في المناطق التي تحوي منظمات متطرفة تعهدت بالولاء للتنظيم، مثل ما يحدث أخيراً في أفريقيا من سعي للتغلغل في بوركينا فاسو ومالي والنيجر وليبيا، إضافة إلى مناطق أخرى مثل اليمن وإندونيسيا وأفغانستان، ومناطق مجاورة في آسيا الوسطى، التي شهدت قدرة تنظيم «داعش» على الوصول إلى تورا بورا، حيث معقل التنظيم الأم (القاعدة)، ومقر أسامة بن لادن، وإعلان الوجود الداعشي هناك.

التنظيم يشكل خطراً

سيستمر التهديد الداعشي حتى يتم التمكن من محو الهوية الداعشية التي تحولت إلى «ماركة إرهابية» يحتذى بها، ويتعلق باسمها الذئاب المنفردة والمتأثرون من كل صوب. وقد ساعد على ذلك تميزهم في رسائلهم الإعلامية، ووصولهم إلى أعداد كبيرة من المتأثرين، لا سيما أن التنظيم الأخير لم يكن نخبوياً مثل تنظيم «القاعدة»، بل استقطب المقاتلين الأجانب الذين تدفقوا بوفرة من كل صوب، الأمر الذي أسس لوجود خلايا نائمة تحمل الآيديولوجية المتطرفة في كثير من البلدان. وقد حذر رئيس شرطة مكافحة الإرهاب في بريطانيا، كلارك غاريث، من شن كل من تنظيم «القاعدة» و«داعش» حملة إعلامية قوية في الآونة الأخيرة، بهدف أدلجة واستقطاب جماعات جديدة حول العالم، الأمر الذي يظهر قدرة التنظيمات على التصدي، ومواجهة الرقابة الدولية على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. تلك الأدلجة التي سعى التنظيم إلى تكريسها جعلت من كثير من الأسماء من الداعشيات الأوروبيات تشتهر في الآونة الأخيرة، مثل البريطانية شميمة بيغوم، والهولندية جانيتا ياهاني، من مخيم في شرق سوريا، إذ أعربتا عن الرغبة في العودة إلى حياة طبيعية مع أطفالهن ممن أنجبن في مناطق الصراع، ومن مقاتلين «داعشيين». وقد تصاعد لغط دولي حول مدى صدق نواياهن، بالأخص مع تصاعد أزمة عودة المقاتلين الأجانب، وعدم رغبة عدد من الدول في استقبالهم، بل وسحب الجنسيات منهم. وذلك في غضون توجه دولي نحو صعوبة إعادة تأهيل المقاتلين الأجانب، بعد ما خبروه في مناطق الصراع، وأن السعي نحو دمجهم في مجتمعاتهم قد يهدد بنشر الفكر المتطرف. إلا أن جميع الحالات تنذر بتحويل المقاتلين الأجانب إلى قنابل موقوتة، إن لم يتم معالجة أزمة وجودهم. وخير مثال على ذلك ما أعربت عنه كثير من النساء الداعشيات الموجودات في عدد من المخيمات، مثل مخيم الحسكة في سوريا، إذ أعربن عن إيمانهن وولائهن التام لآيديولوجية التنظيم، وقدرته على الاستمرارية والنهوض من جديد، والقيام بهجمات إرهابية في مناطق مختلفة في العالم، وهو الأمر الذي ينذر بمدى خطورة تغلغل الفكر المتطرف، وضرورة اجتثاثه، وبالأخص أن تنظيم «داعش» جاء نتاجاً للظروف السياسية والفكرية في المنطقة، إذ إن مثل هذه التنظيمات المتطرفة ظهرت من أجل سد الفراغ، واستغلال انعدام الأمن في مناطق الصراع. وإذا ما لم تتم معالجة مسببات الوجود المتطرف، فإن هذه التنظيمات المتطرفة قادرة على لملمة أشلائها من جديد، أو أن تنظيمات أخرى شبيهة ستظهر على الساحة، إذا ما استمر وجود المتعاطفين مع التطرف، والخلايا النائمة في كثير من المناطق في العالم.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.