«داعش»... ما بعد السقوط

حول «الموجة الرابعة» من الإرهاب

طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
TT

«داعش»... ما بعد السقوط

طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)

لا يزال من الصعب إدراك سبب استمرارية عدد من التنظيمات الإرهابية، رغم اختفاء مسببات نشوئها وبداياتها.
وأقرب مثال على ذلك ما يحدث مع تنظيم «داعش». فرغم أنه يتشظى، فإنه تمرّس في التحور، بدءاً من إعلانه إنشاء خلافة إسلامية تمتد ما بين العراق وسوريا، وانتقالاً إلى التمدد في بقاع مختلفة من العالم كميليشيا متشرذمة، ومن ثم التحول السريع إلى ذئاب منفردة وهجمات إرهابية مصغرة؛ كل ذلك يفضي إلى التوغل في مسببات استمرارية بعض التنظيمات وانحسار الأخرى.

ما يطيل من صمود تنظيمات مثل «القاعدة» و«داعش» يتمثل في استراتيجياتهم المرتكزة بشكلٍ أساسي على فكرة «عولمة الصراع» و«عالمية المواجهة» مع الغرب، والنظم العربية التابعة له. وفي كتاب «الجماعات القتالية المعاصرة: الأفكار، الرموز، المرجعيات والمرتكزات»، للكاتب محمد توفيق، يتطرق المؤلف إلى أهمية هذا المنطلق لديمومة هذه التنظيمات، ويبرز توجههم هذا من خلال نسق الخطاب التعبوي لديهم، والعقد الخطابية التي - حسب فوكو - تعتمد في خطاب التجنيد والحشد والمواجهة على أدبيات تدلل على ذلك بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ. الأمر الذي يوظف لجعل الحركة الجهادية ومسرح عملياته خارج حدود بلدان معينة، وأشارت مضامين وتطبيقات كتاب «إدارة التوحش»، لأبي بكر ناجي، لنمط المواجهة العالمية الشاملة الذي تبناه تنظيم «القاعدة» وطوره «داعش» بوحشية أكبر. وتلك من الأمور التي يعتمد عليها التنظيم، بارتكاز على اللامركزية في نقل المعركة إلى خارج الأراضي السورية، وبشكل أكثر تأثيراً مما كانت عليه «القاعدة» في السابق. لقد حازت ديموغرافيا تنظيم «داعش» على ما يمثل نقطة تمييزية عن التنظيمات الأخرى، وذلك من خلال فكرة «النكاية» واسعة الأبعاد والأهداف، مع تصدير «رعب الصورة» و«التخويف السينمائي» الذي يمارسه التنظيم. وقد وصف روبن سيمكوكس، المراسل المختص بالشؤون الأمنية من مؤسسة «هيريتيج»، قدرة تنظيم «داعش» على ترويج نفسه بأنه جعله أشبه بـ«ماركة» تشجع الآخرين على نسب هجماتهم الإرهابية وتطرفهم إلى تنظيمهم، وفي ذلك إشارة إلى القدرة القوية للترويج لدى التنظيم، وتجنيد أكبر عدد من المتأثرين برسائله الإعلامية المتطرفة. وهنا يستدعي التطرق إلى مدى تأثير مثل هذه الإيديولوجية المتطرفة الدينية الإشارة إلى نظرية موجات الإرهاب الأربع في العصر الحديث.

موجات الإرهاب في العصر الحديث

عام 2004، نشرت دراسة قام بها دايفيد بابوبورت، أحد أهم مؤسسي دراسات علم الإرهاب ومنظريه منذ السبعينات، وتصاعد صيت نظرية «موجات الإرهاب الأربع» في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، إذ يشير بابوبورت إلى أن العالم مر في العصر الحديث بأربع موجات من الإرهاب: الموجة الأولى كانت من خلال الإرهاب الفوضوي، تحديداً في 24 يناير (كانون الثاني) 1878، حين أطبقت فيرا زاسولتش، وهي شخصية معروفة بتطرفها الفوضوي، النار على شرطي في مدينة بطرسبرغ في روسيا، نتيجة جلده مساجين سياسيين، حين قالت جملتها الشهيرة: «أنا إرهابية، لست بقاتلة»؛ هذه الموجة استمرت إلى نهاية 1890.
وظهرت موجة الإرهاب الثانية، التي أطلق عليها بابوبورت اسم «موجة ما بعد الاستعمار»، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبعد انحسار الموجة الفوضوية العدمية. وتصاعد هذا الإرهاب نتيجة الانتهاكات التي حدثت إبان الاستعمار الأوروبي. وأحد أشهر التنظيمات المتطرفة منظمة «الجيش الجمهوري الآيرلندي» (IRA) التي نشأت بهدف تحرير آيرلندا الشمالية، وتوحيد الجزيرة الآيرلندية. وفي تلك الحقبة، تصاعد تداول مصطلح «المقاتلين الأحرار».
وبزغت بعد ذلك موجة الإرهاب الثالثة «اليسارية الجديدة» في منتصف الستينات، وقد جاءت كردة فعل على الحرب على فيتنام، مع ثورة الاتصالات والتقنية. وبعد انحسار الموجة اليسارية، ظهرت موجة الإرهاب الرابعة التي يمر بها العالم مؤخراً، وهي بلا شك موجة «الإرهاب الديني»، التي استحوذ فيها التطرف الديني. وقد بدأت في أعقاب الثورة الروسية التي قادها لينين، والثورة الصينية التي قادها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وتلتها الثورة الخمينية في إيران. ويتوقع أن تبدأ الموجة الدينية بالانحسار، وصعود موجة خامسة من الإرهاب، يتوقع أن تكون أقرب للقومية الإثنية.

التشظي والتمدد

ورغم تزايد الرهان على شل حركة التنظيم الداعشي، نتيجة استهدافه من قبل التحالف الدولي، والتخلص من وجوده في سوريا والعراق، فإنه لا يزال هناك قلق حيال معاودة التنظيم لملمة أشلائه في المنطقة، وبالأخص من خلال المناطق الحدودية، نتيجة لاستمرار عدم الاستقرار الأمني هناك. وقد حذر الجنرال الأميركي جوزيف فوتيل من ذلك، وذكر بأن كثيراً من مقاتلي «داعش» تركوا مناطق تركزهم، ليتوزعوا في كثير من المناطق المختلفة في سوريا والعراق عن عمد، وبأنها كانت «خطوة مدروسة» من قبلهم من أجل المحافظة على قدرات التنظيم على القتال في المستقبل، ولحماية أهاليهم، وانتظار الوقت المناسب للصعود من جديد.
وفي هذا الإطار، يسعى التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، إلى محو وجود ما يسمى «الخلافة الداعشية» في المنطقة، بدءاً باجتثاث والتخلص من زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، الذي أعلن عن تأسيسها في العراق في عام 2014، في خطبته الشهيرة في مسجد النوري. وقد رصد التحالف الدولي مكافأة تصل إلى 25 مليون دولار لمن يبلغ عن مكان وجوده، وإن أشارت السلطات العراقية إلى عدم وجود البغدادي في العراق، وإلى احتمال وجوده في شرق سوريا، إلا أنه قد تم توزيع منشورات في مدينة الرمادي في العراق، كتب فيها إن «قائد (داعش) ومقاتليه سرقوا أرضكم، وقتلوا أهلكم، وهو الآن مختبئ بأمان بعيداً عن الموت والدمار الذي زرعه، وبمعلوماتك تستطيع أن تنتقم منه ومن دماره».
من جهة أخرى، يظهر تنظيم «داعش» براغماتية مفرطة جعلته قادراً على تطوير هويته، من تلك المرتكزة على ما يسمى «خلافة إسلامية» في منطقة محددة، وانتقال تحركاته وأنشطته في المناطق التي تحوي منظمات متطرفة تعهدت بالولاء للتنظيم، مثل ما يحدث أخيراً في أفريقيا من سعي للتغلغل في بوركينا فاسو ومالي والنيجر وليبيا، إضافة إلى مناطق أخرى مثل اليمن وإندونيسيا وأفغانستان، ومناطق مجاورة في آسيا الوسطى، التي شهدت قدرة تنظيم «داعش» على الوصول إلى تورا بورا، حيث معقل التنظيم الأم (القاعدة)، ومقر أسامة بن لادن، وإعلان الوجود الداعشي هناك.

التنظيم يشكل خطراً

سيستمر التهديد الداعشي حتى يتم التمكن من محو الهوية الداعشية التي تحولت إلى «ماركة إرهابية» يحتذى بها، ويتعلق باسمها الذئاب المنفردة والمتأثرون من كل صوب. وقد ساعد على ذلك تميزهم في رسائلهم الإعلامية، ووصولهم إلى أعداد كبيرة من المتأثرين، لا سيما أن التنظيم الأخير لم يكن نخبوياً مثل تنظيم «القاعدة»، بل استقطب المقاتلين الأجانب الذين تدفقوا بوفرة من كل صوب، الأمر الذي أسس لوجود خلايا نائمة تحمل الآيديولوجية المتطرفة في كثير من البلدان. وقد حذر رئيس شرطة مكافحة الإرهاب في بريطانيا، كلارك غاريث، من شن كل من تنظيم «القاعدة» و«داعش» حملة إعلامية قوية في الآونة الأخيرة، بهدف أدلجة واستقطاب جماعات جديدة حول العالم، الأمر الذي يظهر قدرة التنظيمات على التصدي، ومواجهة الرقابة الدولية على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. تلك الأدلجة التي سعى التنظيم إلى تكريسها جعلت من كثير من الأسماء من الداعشيات الأوروبيات تشتهر في الآونة الأخيرة، مثل البريطانية شميمة بيغوم، والهولندية جانيتا ياهاني، من مخيم في شرق سوريا، إذ أعربتا عن الرغبة في العودة إلى حياة طبيعية مع أطفالهن ممن أنجبن في مناطق الصراع، ومن مقاتلين «داعشيين». وقد تصاعد لغط دولي حول مدى صدق نواياهن، بالأخص مع تصاعد أزمة عودة المقاتلين الأجانب، وعدم رغبة عدد من الدول في استقبالهم، بل وسحب الجنسيات منهم. وذلك في غضون توجه دولي نحو صعوبة إعادة تأهيل المقاتلين الأجانب، بعد ما خبروه في مناطق الصراع، وأن السعي نحو دمجهم في مجتمعاتهم قد يهدد بنشر الفكر المتطرف. إلا أن جميع الحالات تنذر بتحويل المقاتلين الأجانب إلى قنابل موقوتة، إن لم يتم معالجة أزمة وجودهم. وخير مثال على ذلك ما أعربت عنه كثير من النساء الداعشيات الموجودات في عدد من المخيمات، مثل مخيم الحسكة في سوريا، إذ أعربن عن إيمانهن وولائهن التام لآيديولوجية التنظيم، وقدرته على الاستمرارية والنهوض من جديد، والقيام بهجمات إرهابية في مناطق مختلفة في العالم، وهو الأمر الذي ينذر بمدى خطورة تغلغل الفكر المتطرف، وضرورة اجتثاثه، وبالأخص أن تنظيم «داعش» جاء نتاجاً للظروف السياسية والفكرية في المنطقة، إذ إن مثل هذه التنظيمات المتطرفة ظهرت من أجل سد الفراغ، واستغلال انعدام الأمن في مناطق الصراع. وإذا ما لم تتم معالجة مسببات الوجود المتطرف، فإن هذه التنظيمات المتطرفة قادرة على لملمة أشلائها من جديد، أو أن تنظيمات أخرى شبيهة ستظهر على الساحة، إذا ما استمر وجود المتعاطفين مع التطرف، والخلايا النائمة في كثير من المناطق في العالم.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.