«داعش»... ما بعد السقوط

حول «الموجة الرابعة» من الإرهاب

طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
TT

«داعش»... ما بعد السقوط

طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)

لا يزال من الصعب إدراك سبب استمرارية عدد من التنظيمات الإرهابية، رغم اختفاء مسببات نشوئها وبداياتها.
وأقرب مثال على ذلك ما يحدث مع تنظيم «داعش». فرغم أنه يتشظى، فإنه تمرّس في التحور، بدءاً من إعلانه إنشاء خلافة إسلامية تمتد ما بين العراق وسوريا، وانتقالاً إلى التمدد في بقاع مختلفة من العالم كميليشيا متشرذمة، ومن ثم التحول السريع إلى ذئاب منفردة وهجمات إرهابية مصغرة؛ كل ذلك يفضي إلى التوغل في مسببات استمرارية بعض التنظيمات وانحسار الأخرى.

ما يطيل من صمود تنظيمات مثل «القاعدة» و«داعش» يتمثل في استراتيجياتهم المرتكزة بشكلٍ أساسي على فكرة «عولمة الصراع» و«عالمية المواجهة» مع الغرب، والنظم العربية التابعة له. وفي كتاب «الجماعات القتالية المعاصرة: الأفكار، الرموز، المرجعيات والمرتكزات»، للكاتب محمد توفيق، يتطرق المؤلف إلى أهمية هذا المنطلق لديمومة هذه التنظيمات، ويبرز توجههم هذا من خلال نسق الخطاب التعبوي لديهم، والعقد الخطابية التي - حسب فوكو - تعتمد في خطاب التجنيد والحشد والمواجهة على أدبيات تدلل على ذلك بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ. الأمر الذي يوظف لجعل الحركة الجهادية ومسرح عملياته خارج حدود بلدان معينة، وأشارت مضامين وتطبيقات كتاب «إدارة التوحش»، لأبي بكر ناجي، لنمط المواجهة العالمية الشاملة الذي تبناه تنظيم «القاعدة» وطوره «داعش» بوحشية أكبر. وتلك من الأمور التي يعتمد عليها التنظيم، بارتكاز على اللامركزية في نقل المعركة إلى خارج الأراضي السورية، وبشكل أكثر تأثيراً مما كانت عليه «القاعدة» في السابق. لقد حازت ديموغرافيا تنظيم «داعش» على ما يمثل نقطة تمييزية عن التنظيمات الأخرى، وذلك من خلال فكرة «النكاية» واسعة الأبعاد والأهداف، مع تصدير «رعب الصورة» و«التخويف السينمائي» الذي يمارسه التنظيم. وقد وصف روبن سيمكوكس، المراسل المختص بالشؤون الأمنية من مؤسسة «هيريتيج»، قدرة تنظيم «داعش» على ترويج نفسه بأنه جعله أشبه بـ«ماركة» تشجع الآخرين على نسب هجماتهم الإرهابية وتطرفهم إلى تنظيمهم، وفي ذلك إشارة إلى القدرة القوية للترويج لدى التنظيم، وتجنيد أكبر عدد من المتأثرين برسائله الإعلامية المتطرفة. وهنا يستدعي التطرق إلى مدى تأثير مثل هذه الإيديولوجية المتطرفة الدينية الإشارة إلى نظرية موجات الإرهاب الأربع في العصر الحديث.

موجات الإرهاب في العصر الحديث

عام 2004، نشرت دراسة قام بها دايفيد بابوبورت، أحد أهم مؤسسي دراسات علم الإرهاب ومنظريه منذ السبعينات، وتصاعد صيت نظرية «موجات الإرهاب الأربع» في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، إذ يشير بابوبورت إلى أن العالم مر في العصر الحديث بأربع موجات من الإرهاب: الموجة الأولى كانت من خلال الإرهاب الفوضوي، تحديداً في 24 يناير (كانون الثاني) 1878، حين أطبقت فيرا زاسولتش، وهي شخصية معروفة بتطرفها الفوضوي، النار على شرطي في مدينة بطرسبرغ في روسيا، نتيجة جلده مساجين سياسيين، حين قالت جملتها الشهيرة: «أنا إرهابية، لست بقاتلة»؛ هذه الموجة استمرت إلى نهاية 1890.
وظهرت موجة الإرهاب الثانية، التي أطلق عليها بابوبورت اسم «موجة ما بعد الاستعمار»، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبعد انحسار الموجة الفوضوية العدمية. وتصاعد هذا الإرهاب نتيجة الانتهاكات التي حدثت إبان الاستعمار الأوروبي. وأحد أشهر التنظيمات المتطرفة منظمة «الجيش الجمهوري الآيرلندي» (IRA) التي نشأت بهدف تحرير آيرلندا الشمالية، وتوحيد الجزيرة الآيرلندية. وفي تلك الحقبة، تصاعد تداول مصطلح «المقاتلين الأحرار».
وبزغت بعد ذلك موجة الإرهاب الثالثة «اليسارية الجديدة» في منتصف الستينات، وقد جاءت كردة فعل على الحرب على فيتنام، مع ثورة الاتصالات والتقنية. وبعد انحسار الموجة اليسارية، ظهرت موجة الإرهاب الرابعة التي يمر بها العالم مؤخراً، وهي بلا شك موجة «الإرهاب الديني»، التي استحوذ فيها التطرف الديني. وقد بدأت في أعقاب الثورة الروسية التي قادها لينين، والثورة الصينية التي قادها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وتلتها الثورة الخمينية في إيران. ويتوقع أن تبدأ الموجة الدينية بالانحسار، وصعود موجة خامسة من الإرهاب، يتوقع أن تكون أقرب للقومية الإثنية.

التشظي والتمدد

ورغم تزايد الرهان على شل حركة التنظيم الداعشي، نتيجة استهدافه من قبل التحالف الدولي، والتخلص من وجوده في سوريا والعراق، فإنه لا يزال هناك قلق حيال معاودة التنظيم لملمة أشلائه في المنطقة، وبالأخص من خلال المناطق الحدودية، نتيجة لاستمرار عدم الاستقرار الأمني هناك. وقد حذر الجنرال الأميركي جوزيف فوتيل من ذلك، وذكر بأن كثيراً من مقاتلي «داعش» تركوا مناطق تركزهم، ليتوزعوا في كثير من المناطق المختلفة في سوريا والعراق عن عمد، وبأنها كانت «خطوة مدروسة» من قبلهم من أجل المحافظة على قدرات التنظيم على القتال في المستقبل، ولحماية أهاليهم، وانتظار الوقت المناسب للصعود من جديد.
وفي هذا الإطار، يسعى التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، إلى محو وجود ما يسمى «الخلافة الداعشية» في المنطقة، بدءاً باجتثاث والتخلص من زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، الذي أعلن عن تأسيسها في العراق في عام 2014، في خطبته الشهيرة في مسجد النوري. وقد رصد التحالف الدولي مكافأة تصل إلى 25 مليون دولار لمن يبلغ عن مكان وجوده، وإن أشارت السلطات العراقية إلى عدم وجود البغدادي في العراق، وإلى احتمال وجوده في شرق سوريا، إلا أنه قد تم توزيع منشورات في مدينة الرمادي في العراق، كتب فيها إن «قائد (داعش) ومقاتليه سرقوا أرضكم، وقتلوا أهلكم، وهو الآن مختبئ بأمان بعيداً عن الموت والدمار الذي زرعه، وبمعلوماتك تستطيع أن تنتقم منه ومن دماره».
من جهة أخرى، يظهر تنظيم «داعش» براغماتية مفرطة جعلته قادراً على تطوير هويته، من تلك المرتكزة على ما يسمى «خلافة إسلامية» في منطقة محددة، وانتقال تحركاته وأنشطته في المناطق التي تحوي منظمات متطرفة تعهدت بالولاء للتنظيم، مثل ما يحدث أخيراً في أفريقيا من سعي للتغلغل في بوركينا فاسو ومالي والنيجر وليبيا، إضافة إلى مناطق أخرى مثل اليمن وإندونيسيا وأفغانستان، ومناطق مجاورة في آسيا الوسطى، التي شهدت قدرة تنظيم «داعش» على الوصول إلى تورا بورا، حيث معقل التنظيم الأم (القاعدة)، ومقر أسامة بن لادن، وإعلان الوجود الداعشي هناك.

التنظيم يشكل خطراً

سيستمر التهديد الداعشي حتى يتم التمكن من محو الهوية الداعشية التي تحولت إلى «ماركة إرهابية» يحتذى بها، ويتعلق باسمها الذئاب المنفردة والمتأثرون من كل صوب. وقد ساعد على ذلك تميزهم في رسائلهم الإعلامية، ووصولهم إلى أعداد كبيرة من المتأثرين، لا سيما أن التنظيم الأخير لم يكن نخبوياً مثل تنظيم «القاعدة»، بل استقطب المقاتلين الأجانب الذين تدفقوا بوفرة من كل صوب، الأمر الذي أسس لوجود خلايا نائمة تحمل الآيديولوجية المتطرفة في كثير من البلدان. وقد حذر رئيس شرطة مكافحة الإرهاب في بريطانيا، كلارك غاريث، من شن كل من تنظيم «القاعدة» و«داعش» حملة إعلامية قوية في الآونة الأخيرة، بهدف أدلجة واستقطاب جماعات جديدة حول العالم، الأمر الذي يظهر قدرة التنظيمات على التصدي، ومواجهة الرقابة الدولية على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. تلك الأدلجة التي سعى التنظيم إلى تكريسها جعلت من كثير من الأسماء من الداعشيات الأوروبيات تشتهر في الآونة الأخيرة، مثل البريطانية شميمة بيغوم، والهولندية جانيتا ياهاني، من مخيم في شرق سوريا، إذ أعربتا عن الرغبة في العودة إلى حياة طبيعية مع أطفالهن ممن أنجبن في مناطق الصراع، ومن مقاتلين «داعشيين». وقد تصاعد لغط دولي حول مدى صدق نواياهن، بالأخص مع تصاعد أزمة عودة المقاتلين الأجانب، وعدم رغبة عدد من الدول في استقبالهم، بل وسحب الجنسيات منهم. وذلك في غضون توجه دولي نحو صعوبة إعادة تأهيل المقاتلين الأجانب، بعد ما خبروه في مناطق الصراع، وأن السعي نحو دمجهم في مجتمعاتهم قد يهدد بنشر الفكر المتطرف. إلا أن جميع الحالات تنذر بتحويل المقاتلين الأجانب إلى قنابل موقوتة، إن لم يتم معالجة أزمة وجودهم. وخير مثال على ذلك ما أعربت عنه كثير من النساء الداعشيات الموجودات في عدد من المخيمات، مثل مخيم الحسكة في سوريا، إذ أعربن عن إيمانهن وولائهن التام لآيديولوجية التنظيم، وقدرته على الاستمرارية والنهوض من جديد، والقيام بهجمات إرهابية في مناطق مختلفة في العالم، وهو الأمر الذي ينذر بمدى خطورة تغلغل الفكر المتطرف، وضرورة اجتثاثه، وبالأخص أن تنظيم «داعش» جاء نتاجاً للظروف السياسية والفكرية في المنطقة، إذ إن مثل هذه التنظيمات المتطرفة ظهرت من أجل سد الفراغ، واستغلال انعدام الأمن في مناطق الصراع. وإذا ما لم تتم معالجة مسببات الوجود المتطرف، فإن هذه التنظيمات المتطرفة قادرة على لملمة أشلائها من جديد، أو أن تنظيمات أخرى شبيهة ستظهر على الساحة، إذا ما استمر وجود المتعاطفين مع التطرف، والخلايا النائمة في كثير من المناطق في العالم.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.