قراءة في رسائل الانتخابات المحلية التركية لإردوغان

الناخبون عاقبوا حزبه بـ«صفعة عثمانية» أراد منهم توجيهها للمعارضة

قراءة في رسائل الانتخابات المحلية التركية لإردوغان
TT

قراءة في رسائل الانتخابات المحلية التركية لإردوغان

قراءة في رسائل الانتخابات المحلية التركية لإردوغان

وجّه الناخبون الأتراك إنذارا قوياً إلى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحزبه الإسلامي الحاكم، حزب العدالة والتنمية، عبر صناديق الاقتراع في الانتخابات المحلية. ولئن كانت الانتخابات ككل انتهت بفوز «تحالف الشعب» بين العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية بعدد من البلديات أكبر من منافسيه، جاءت النتيجة كالزلزال أو «الصفعة العثمانية» التي دعا إردوغان الشعب لتوجيهها إلى «تحالف الأمة» الذي تألف من حزبي «الشعب الجمهوري» و«الجيد»، لترتد عليه بخسارة فادحة للمدن الثلاث الكبرى؛ إسطنبول وأنقرة وإزمير. وهذا رغم استمرار اعتراض حزب إردوغان على نتيجة إسطنبول والتقارير عن المطالبته بإلغائها بعد إعادة الفرز في 8 من مناطقها.
تمثل خسارة حزب «العدالة والتنمية» في إسطنبول، كبرى مدن تركيا و«عاصمتها» الاقتصادية، صدمة كبرى لزعيم الحزب الرئيس رجب طيب إردوغان، من منطلق المعتقَد السائد بأن من ينجح في إسطنبول ينجح في تركيا. واستطراداً، فإن من يفوز بإسطنبول في الانتخابات المحلية يفوز بتركيا في الانتخابات البرلمانية.
لكن ما يزيد من حجم الصدمة وتأثيرها أن إردوغان حافظ على رئاسة بلدية إسطنبول لمدة 25 سنة منذ فاز بالمنصب للمرة الأولى، ممثلاً لحزب الرفاه الإسلامي، ثم إن ما زاد الطين بلة بالنسبة للإسلاميين خسارتهم أيضاً العاصمة السياسية أنقرة بعدما ظلّت تحت سيطرتهم منذ عهد رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان، وحتى عهد إردوغان، طوال 25 سنة، وكذلك فشلهم في انتزاع بلدية إزمير من أيدي حزب الشعب الجمهوري المعارض، الذي نجح أيضاً في الفوز ببلديات مهمة أخرى في مقدمتها أنطاليا وأضنة وهطاي (الإسكندرونة).

حقبة جديدة
بهذه النتائج التي أفرزتها صناديق الاقتراع، دشّنت حقبة جديدة في تركيا بأيدي مواطنيها الذين ضغطت عليهم الأوضاع الاقتصادية لأكثر من نصف سنة قبل الانتخابات المحلية. وكان منها اهتزاز الليرة التركية وخسائرها المتوالية، وتجاوز التضخم حاجز 20 في المائة، والقفزة في البطالة التي وصل معدلها إلى ما يقرب من 13 في المائة، والغلاء الفاحش في أسعار المواد الغذائية الرئيسية، وهو ما دفع الحكومة إلى العودة لطرح الخضراوات والفاكهة في نقاط توزيع حكومية قبل الانتخابات خشية فقد الأصوات.
هذه الانتخابات جاءت عقب الانتخابات البرلمانية والرئاسية المبكرة، في يونيو (حزيران) الماضي، التي انتقلت فيها تركيا من النظام البرلماني إلى الرئاسي. وكان يعوّل عليها إردوغان لتثبيت نظامه الرئاسي التنفيذي عبر تأييد شعبي لم يأتِ كالمتوقَّع. وبالتالي، فإن المتغير الأهم الذي عكسته، في نظر كثير من المراقبين، هو نجاح المعارضة في إيجاد مسار توافقي ونجاح تحالفها الذي بدأ يتبلور في الاستفتاء على التعديلات الدستورية للانتقال إلى النظام الرئاسي، الذي أجرى في 16 أبريل (نيسان) 2017.
هذا التحالف ضغط على إردوغان في الفترة السابقة للانتخابات البرلمانية والرئاسية، التي مرّت بصعوبة بالغة على حزبه، ثم بلغ أداء المعارضة ذروة نضجه في الانتخابات المحلية التي قدّم نفسه بقوة وأقنع قطاعاً لا بأس به من الناخبين بحتمية التغيير. والحقيقة، أنه لم يكن أكثر المتفائلين في أحزاب المعارضة نفسها، أو أكثر المتشائمين في حزب «العدالة والتنمية» الحاكم وأنصاره، يتوقع الضربة القوية التي كشفت عنها نتائج إسطنبول وأنقرة، مع أن استطلاعات الرأي قبل الانتخابات التي أعلن إردوغان عدم اعتداده بها، رجّحت الخروج بنتيجة صادمة. وهذا ما حدث بالفعل، في مشهد قد يؤثر على توجهات إردوغان وحزبه مستقبلاً، وقد يدفعه وحليفه، حزب «الحركة القومية»، إلى تغيير منهج التحالف على ضوء الرسالة التي خرجت من الصناديق، واعتبرها موالون لـ«العدالة والتنمية» وإردوغان «انقلاباً سياسياً».

أسباب النكسة
أجمع المراقبون على عدد من الأسباب أدَّت إلى النتائج التي خرجت من صناديق الاقتراع، أهمها الوضع الاقتصادي الذي أثّر على الناخبين، مع عجز الحزب الحاكم عن تجاوز تأثيرات انخفاض العملة، والتضخّم، وارتفاع الأسعار. أما السبب الثاني فهو فقدان الخطاب السياسي لإردوغان تأثيره، كما كان في السابق، وشعور الناخبين بالملل من تكرار التهديدات وإظهار أن كل انتخابات - حتى لو كانت محلية - مسألة حياة أو موت. وللعلم، هذا خطاب بدأه حزب «الحركة القومية»، وانجر إليه حزب «العدالة والتنمية»، الحليف معه، وهو يعيد إلى الأذهان الأنظمة الديكتاتورية التي تربط بقاء الدولة ببقائها، ما اعتبر من جانب شريحة كبيرة من الناخبين تضخيماً وإفلاساً.
وأما السبب الثالث، فكان اعتماد إردوغان ووزير داخليته سليمان صويلو لغة التهديد، وتكرارهما وصف الساسة الأكراد بالإرهابيين، والتلويح بشكل مباشر بفرض الوصاية على البلديات التي يمكن لحزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد الفوز بها في الانتخابات. وكما حدث من قبل، أبعدت هذه اللغة التهديدية الناخبين الأكراد عن «العدالة والتنمية» في بعض المناطق ذات الأغلبية الكردية، ودفعتهم لتحديه. ويضاف إلى هذا دعوة صلاح الدين دميرطاش، الرئيس المشارك لحزب «الشعوب الديمقراطي»، والمسجون حالياً، مناصري الحزب للتصويت لمرشحي المعارضة في إسطنبول وأنقرة، ما أدى إلى ترجيح كفتها والتنمية.
أخيراً، هناك سبب رابع، من جهة نظر المراقبين، هو مواصلة إردوغان التوظيف السياسي للشعارات الإسلامية والاستغلال الخاطئ للهجوم الإرهابي على مسجدي مدينة كرايستشيرش في نيوزيلندا، وتكراره عرض صور المجزرة في التجمّعات الانتخابية، ما أثار استياء ورفض شريحة واسعة من المواطنين لهذا الأسلوب.

الخطوة المقبلة
التقط إردوغان الرسالة سريعاً، وأعلن أنه سيعمل على تحديد أوجه القصور، والعمل على إصلاحها. ثم قال إن أولويته خلال الفترة المقبلة ستكون تعزيز الاقتصاد وزيادة فرص العمل، لإدراكه أن الصعود الاقتصادي الذي تحقق في تركيا خلال فترة حكم «العدالة والتنمية» كان من أهم الأسباب التي جعلته يحتفظ بالحكم حتى الآن. ومعروف أن تراجع سعر الليرة وارتفاع التضخم والبطالة وتزايد حالات الإفلاس كانت من العوامل الأساسية لتراجع التأييد لحزبه، على الرغم من الجهود الضخمة التي بذلها بنفسه في الحملة الانتخابية، وتجنيد جميع وسائل الإعلام، وتكثيف الحملات الإعلانية والمقابلات التلفزيونية على مدى أكثر من 3 أشهر قبل الانتخابات.
في المقابل، اعتمدت المعارضة في حملتها الانتخابية على تدهور الأوضاع الاقتصادية وغيرها من المشكلات الأساسية لتركيا، موضحة للناخبين أنهم بحاجة إلى توجيه رسالة قوية إلى الحكومة. وبالفعل، أظهرت استطلاعات الرأي قبل الانتخابات أن ما يقرب من 7 من كل 10 أشخاص يصنّفون الصعوبات الاقتصادية على أنها أهم مشكلة في تركيا، بشكل عام، مقابل 4 إلى 5 في المائة رأوا أن الأمن هو المشكلة الأكثر أهمية.
من ناحية أخرى، توقعت استطلاعات الرأي فوز مرشح حزب «الشعب الجمهوري» منصور ياواش في أنقرة، لكنها أبقت على حظوظ بن علي يلدريم، السياسي المخضرم ورئيس الوزراء السابق الذي اختاره إردوغان وجعله يترك رئاسة البرلمان من أجل حسم إسطنبول، التي تُعدّ المعقل الأهم سياسياً واقتصادياً. وهنا نشير إلى أن إردوغان لم يذق طعم الهزيمة منذ تولى رئاسة بلدية إسطنبول عام 1994. بل حقق إنجازات كبرى فيها، أهمها جلب الاستثمارات وتخفيف أزمة المرور، والطفرة في الإسكان، والتوسع العمراني، وتوفير الوظائف. ولذا وضع كل ثقله في الانتخابات المحلية الأخيرة، معتبراً إياها معركة حياة أو موت، لكن نتائجها الصادمة جاءت بمثابة استفتاء على حكم «العدالة والتنمية»، وسياساته الداخلية والخارجية التي باتت موضع انتقادات حادة.
الآن قد تبلغ الآثار الارتدادية لهذه الخسائر ما هو أقوى وأبعد، بسبب حالة التذمر المتنامية داخل الحزب الحاكم، خصوصاً في أوساط القيادة التاريخية التي جرى إبعادها وتهميشها من جانب إردوغان. على رأس هؤلاء الرئيس السابق عبد الله غُل ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، الذي أجبره إردوغان على الاستقالة أيضاً، كما تردد في أوساط الحزب لرفضه دعم مشروعه بالانتقال إلى النظام الرئاسي. وهكذا تصاعدت الاتهامات لإردوغان بالفردية، وبدأ متهموه التخطيط لتأسيس حزب سياسي جديد.
إردوغان أرجع النتائج الصادمة إلى سوء تقديم حزبه نفسه في المناطق التي خسر فيها، إذ قال: «السبب الوحيد الذي حال دون حصولنا على النتيجة المرجوة من الانتخابات هو عدم تقديم أنفسنا للشعب بشكل كافٍ.. سنقوم بتحديد أوجه القصور لدينا والعمل على تلافيها... إذا كانت لدينا نواقص، فإن إصلاحها دين على عاتقنا». غير أن الاعتراف بالتقصير لم يؤد إلى استيعاب إمكانية خسارة المعاقل التقليدية للحزب الحاكم، فقرر الطعن على نتائج الانتخابات في بعض مناطق إسطنبول وأنقرة، في حين اعتبر حزب «الشعب الجمهوري» المعارض، أن «الشعب أظهر موقفاً مؤيداً للديمقراطية»، وأن ذلك «يمثل ضوءاً مهماً للغاية بالنسبة للحزب»، حسبما أعلن رئيسه كمال كليتشدار أوغلو.

أجواء ملتهبة
عطفاً على ما سبق، حتى بعد انتهاء المعركة، استمرت الأجواء الملتهبة التي غلفت الاستعدادات لها، مع طعن حزب «العدالة والتنمية» على النتائج في أنقرة وإسطنبول، ومطالبة أكرم إمام أوغلو، مرشح حزب الشعب الجمهوري الفائز في إسطنبول، كلاً من الرئيس إردوغان و«حليفه» دولت بهشلي، رئيس حزب الحركة القومية، بأن يكونا «على قدر المسؤولية، والتصرف مثل رجال دولة، وتحاشي زجّ البلاد إلى المزيد من الفوضى».
ولفت إمام أوغلو إلى أن «عمليات فرز الأصوات جرت أمام المندوبين الرسميين لحزب (العدالة والتنمية)، وموظفي الدولة المكلفين بالصناديق الانتخابية، وأمام غيرهم من المعنيين بحضور عمليات الفرز. ولقد خُصص لكل صندوق انتخابي موظفون من الدولة، واثنان على الأقل من مندوبي (العدالة والتنمية)، فضلاً عن ناخبين وغيرهم. ثم إن الاعتراضات (التي تقدم بها العدالة والتنمية) الحالية الهدف الوحيد منها هو تشويش العقول... ومن هنا أدعو اللجنة العليا للانتخابات للقيام بوظيفتها ووقف مثل هذه الممارسات، حتى لا ننسى الوضع الاقتصادي والسياسي الصعب الذي تمر به البلاد، وحتى لا يسيء أحد لصورة تركيا أمام العالم». واعتبرت أصوات أخرى من المعارضة أن إعادة فرز الأصوات، ما هي إلا مناورة لسرقة الانتخابات الراهنة الموصومة بعدم النزاهة.
أما خارجياً، فكان فريق مراقبة الانتخابات التابع لـ«مجلس أوروبا» قد أعلن أن تركيا لم تستوفِ القيم والمبادئ الانتخابية المعمول بها في أوروبا. ودعت واشنطن، على لسان نائب المتحدث باسم الخارجية التركية روبرت بلادينو، تركيا إلى قبول نتائج الانتخابات. وقال إريك إيدلمان، السفير الأميركي الأسبق لدى تركيا، إنه «إذا ما تمكّنت الحكومة التركية من إلغاء نتائج الانتخابات الحالية، فسيمثل ذلك نهاية أكيدة للانتخابات في تركيا».
هذا، ويعتبر مراقبون أن لدى إردوغان وسائل أخرى في متناول يديه إن هو أخفق في العصف بنتائج الانتخابات الحالية عبر مناورة إعادة فرز الأصوات. ومن بين الأدوات المحتمَل استخدامها الاستعاضة عن رؤساء البلديات المعارضين بآخرين من المؤيدين للحكومة، كأوصياء على البلديات التي فازوا بها في الانتخابات. ولقد أثبت حزب الشعوب الديمقراطي أنه لا يزال يتمتع بقوته على الرغم من خسارة بلديتين من 10 بلديات كبيرة كان يسيطر عليها، وفاز في 8 ولايات على الرغم من الحملة الشرسة التي يتعرض لها.

الانتخابات والسياسة الخارجية
في هذه الأثناء، تساءلت بارتشين يناتش، الكاتبة في صحيفة «حرييت» التركية واسعة الانتشار، عن مدى تأثير نتائج الانتخابات المحلية على السياسة الخارجية لتركيا. وقالت: «لو كنا، كمراقبين، في ظروف عادية ما طرحنا هذا السؤال. هذا يرجع جزئياً إلى حقيقة أن تركيا تمر بمرحلة انتقالية من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، وإلى الاعتقاد السائد في الداخل والخارج بأن السياسة الخارجية متداخلة مع السياسة الداخلية».
وأضافت أن «ما سنحتاج إلى مراقبته على المدى القصير إلى المتوسط هو كيف ستتشكل علاقات تركيا مع كل من واشنطن وموسكو، وكذلك مواقف هؤلاء اللاعبين الثلاثة في الشرق الأوسط». وتساءلت عن إمكانية الاستمرار في صفقة صواريخ «إس - 400» الروسية، وأيضاً شراء طائرات «إف - 35» أو صواريخ «باتريوت» الأميركية في ظل الاضطرابات الاقتصادية المحتملة التي قد تظهر في الأيام المقبلة «ففي بعض الأحيان قد يكون الخبز والزبد أكثر حيوية من صواريخ وطائرات بمليارات الدولارات». وهنا، استبعد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن يكون للانتخابات المحلية تأثير على العلاقات بين أنقرة وواشنطن، أو الدول الأخرى.

حصيلة الانتخابات بالأرقام
> فاز حزب «العدالة والتنمية» بـ16 بلدية كبرى و24 بلدية في مدن أصغر و538 بلدية أقضية، و200 بلدة، وفاز حليفه حزب «الحركة القومية» ببلدية كبرى واحدة، و10 بلديات مدن، و146 منطقة، و70 بلدة بمجموع 227.
> فاز حزب الشعب الجمهوري المعارض بـ10 بلديات كبرى، و10 بلديات مدن، و192 منطقة، و34 بلدة، بمجموع 246، وحليفه الحزب «الجيد»، في 18 بلدية مدينة و3 بلدات.
> بلغت نسبة أصوات «العدالة والتنمية» 44.4 في المائة وحليفه «الحركة القومية» 7.2 في المائة، وبذا حصل «تحالف الشعب» الذي يضمهما على 51.6 في المائة من إجمالي عدد الأصوات، وفق النتائج الأولية.
> فاز «تحالف الأمة» المعارض بنسبة 37.2 في المائة من الأصوات، موزّعة بنسبة 30 في المائة لحزب الشعب الجمهوري و7.2 للحزب «الجيد». وبينما حصل حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد على 4.3 في المائة من الأصوات، وفاز في 3 بلديات كبرى، و5 بلديات مدن، و50 منطقة، و11 بلدة، بمجموع 69 بلدية، ذهبت بقية البلديات للمستقلين.
> تجاوزت نسبة المشاركة في الانتخابات 84 في المائة من أصل 57 مليون مواطن يحق لهم التصويت، في حين كانت نسبة المشاركة في الانتخابات السابقة عام 2014 قد بلغت 89 في المائة من أصل 48 مليون ناخب. ويومذاك حقق حزب العدالة والتنمية نسبة 45.5 في المائة من الأصوات، أي أن نسبته تراجعت في انتخابات 2019 بنسبة 1.1 في المائة.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».